أمام كل مشروع فضائي، مهما كان واعداً ومثيراً لجهة الوعود والاكتشافات، تبقى الجدوى الاقتصادية موضع سؤال إذ تراوح تكلفة هذه المشروعات ما بين بضعة ملايين من الدولارات كحد أدنى للأقمار الصناعية الصغيرة، ومئة بليون دولار للمحطة الفضائية العالمية، وهنا يأخذ السؤال أكثر أشكاله بساطة: أليس من الأجدى تكريس هذه الموارد المالية العملاقة لتحسين الحياة الإنسانية على الأرض؟
فريق التحرير يتناول الموضوع انطلاقاً من النتائج والدروس التي راكمتها خمسة عقود من مغامرة الإنسان مع الفضاء الخارجي.
عادةً ما تحتسب الثمار، التي يجنيها الإنسان من رحلات الفضاء، بشكل غير مباشر، فإضافةً إلى ما تقدمه من معرفة علمية عن الفضاء، تطرح هذه الرحلات احتمالات لأبحاث جديدة، وإمكانات لتطوير الصناعات، وتتيح فرصة لتقديم اختراعات يمكن توظيفها مباشرةً في خدمة الإنسان.
وبذلك، نستطيع القول إن الحماس للاكتشافات الفضائية ليس للاحتمالات المعروفة التي يمكن أن تقدمها هذه الاكتشافات، وإنما غير المعروفة منها. إذ لم تكن المعرفة العلمية الدافع الوحيد لاستكشاف الفضاء، ولم تكن حتى دافعاً رئيساً في كثيرٍ من الأحيان، فالدول التي تصرف مبالغ طائلة على نشاطها الفضائي تقودها دوافع مختلفة، وقد كانت بداية العصر الفضائي بتطور تكنولوجيا الصواريخ العابرة للقارات، الذي شجَّع عليه سباق قوة ثنائي من أجل التفوق. واليوم يساق جدل منافع الرحلات الفضائية مرتبطاً بالواقع التكنولوجي والاقتصادي، ويشهد -في ظل قدرات غير متكافئة- تزايداً لعدد الدول التي تريد الانضمام إلى رَكْبِه.
بين رحلات الأمس واليوم
الأسئلة في الخمسين سنة التي مضت على عصر الفضاء لم تتغير كثيراً، فلا يزال الفضاء مساحةً تتحدى الريادة الإنسانية، غير أن الإنجازات التي تحققت لم تكن قليلة، وتأثيراته التي طالت الحياة اليومية كانت مهمة.
الجهد الأساس في النشاط الفضائي ذهب لدعم المهمات الإنسانية، التي نتجت عنها إنجازات كبيرة ولكن من دون تطور حقيقي في طبيعتها. بدأ عصر الفضاء بتوجه الإنسان إلى القمر، ووصل بعد خمسين سنة إلى المحطة الفضائية العالمية في مدار الأرض، كبناء هندسي ضخم. لذلك لم يحقق الفضاء التوقعات العالية التي أمل بها رواده في البداية وشجعهم عليها أدب الخيال العلمي. إلا أن عصر الفضاء هيّأ المدار الأرضي لاستقبال المئات من الأقمار الصناعية، التي ينقل البعض منها فوائده إلى الأرض، ويتطلع البعض الآخر صوب الفضاء لمزيد من الاكتشافات والمعرفة. تأثير هذه الأقمار على الحياة الإنسانية كان كبيراً، حيث اختصرت المسافات بين البشر، وأضافت الكثير إلى معرفتهم بالأرض كتحسين توقعات الطقس، ومراقبة واستكشاف الثروات، والمساعدة على الملاحة والإنقاذ، والصيد. وكلما تحسنت المعرفة بالفضاء، ازدادت رحلات الاستكشافات العلمية تعقيداً.
الخيبة من القمر والعودة إلى المدار
عندما وطأ الإنسان سطح القمر للمرة الأولى في أول خطوة خطاها رجل الفضاء نيل آرمسترونج في العشرين من يوليو عام 1969م من على المركبة الفضائية أبولو 11 كان العالم يراقب مذهولاً. وكان من الممكن حينها تبرير التكاليف الضخمة لإنجاز هذا المستوى، فوصول الإنسان إلى القمر كلف سنوات عشر من العمل المتواصل لوكالة الفضاء الأمريكية بالإضافة إلى تسخير الطاقات الأساسية للبلد، حيث وصل عدد العاملين في ذروة المشروع إلى أكثر من 400 ألف شخص. ولكن مع انتهاء آخر رحلة إلى القمر (أبولو 17) في التاسع عشر من ديسمبر عام 1972م كان التفكير بما سيلي ذلك محيراً.
قيل في مشروع أبولو إنه شكل برهاناً على قدرة الإنسان على أن يترك عالمه ويسافر نحو النجوم، ولكن المغزى من هذه القدرة بقي غير معروف، ولم يشكل مردوداً ذا قيمة في تطبيقات الحياة اليومية. انتهت رحلات أبولو ولسان حال المساهمين فيها يقول إن العودة إلى القمر ستكون بدون شك بطريقة مختلفة.
إننا لا نزال في الواقع نعيش عصر ما بعد أبولو. فالريادة الإنسانية التي وصلت إلى هذا الإنجاز ما زالت تشكل الدافع الأساس في البرامج الفضائية. لكن ضعف المردود العملي للتجربة القمرية وضع لهذه الريادة سقفاً. منذ العام 1972م لم يتسلق الإنسان ما هو أبعد من مدار الأرض، وحتى الريادة الإنسانية المحدودة كان لها مشكلاتها ومصاعبها. فالمكوك، الذي انطلق للمرة الأولى في 12 أبريل 1981م، كان من المفترض أن يسهِّل رحلات الفضاء القريب، بحيث تصبح روتينية، لكنه لم يقم بأكثر من 130 رحلة ولم يبرهن على أنه أكثر أماناً بعد حادثتي انفجار المكوكين تشالنجر (يناير 1986م)، وكولومبيا (أكتوبر 2003م). بينما اعتمدت الرحلات الروتينية على المركبة الروسية «سيوز» الأقل تعقيداً (وغير قابلة لإعادة الاستخدام) والتي قامت بأكثر من 1600 رحلة فضائية. ومن المشروعات الأخرى في المدار الأرضي كان هناك المحطات الفضائية الإنسانية، والتي أولتها الرحلات السوفياتية اهتماماً متواصلاً بدءاً من طرازات «ساليوت» المختلفة (بين 1971م ولغاية منتصف الثمانينيات) وصولاً إلى المحطة المركبة في الفضاء «مير» (استمرت تعمل ما بين 1986 و 2001م). ونتيجة جهد تعاوني تقوده الولايات المتحدة، تتربع أيقونة فضائية جديدة اليوم في مدار الأرض القريب (400 كلم) وهي المحطة الفضائية العالمية التي يتوقع استكمالها في عام 2012م، ولربما كانت تلخيصاً للنشاط الفضائي المأهول في العقود الثلاثة الماضية.
جاءت الرحلات العلمية في البداية في ركاب السباق الإنساني إلى القمر، كرحلات «لونا» السوفياتية المتعددة الأهداف، والرحلات الأمريكية لخدمة مشروع أبولو. بالنسبة لوكالة الفضاء الأمريكية «ناسا»، اقتصرت الرحلات إلى الكواكب القريبة على الاستطلاع، كرحلات «مارينرز» ما بين 1962 و1975م للتحليق قرب الزهرة والمريخ، بينما قامت الرحلات السوفياتية «فانيرا» إلى الزهرة و «مارس» إلى المريخ بتفحص تلك الكواكب عن قرب. وكان على الكواكب البعيدة أن تنتظر الانتهاء من رحلات أبولو إلى القمر لتنطلق بدورها، مثل رحلتي «ناسا» «بايونير1 و2» (في 1972 و 1973م) إلى المشتري ومن ثم المشتري وزحل.
تراجعت الرحلات العلمية بشكل كبير في الثمانينيات بالنسبة للناسا، حتى عادت مع رحلة «كلامنتاين» إلى الزهرة في 1989م لفحص تضاريسه، بينما لم تتطور الرحلات السوفياتية عن سابقاتها، وبالتالي نجد أن الأولوية في استكشاف الفضاء أُعطيت للرحلات المأهولة بدلاً من تلك التي تهدف إلى المعرفة العلمية فقط، ونلحظ أن النشاط العلمي جاء في ركاب رحلات الصعود إلى القمر، أو في الفسحة التي سمح بها انتهاء هذه الرحلات، ليصبح شبه غائب في الثمانينيات.
… إلى رحلات جديدة
رحلات التسعينيات جاءت بجيل جديد من المسابر الآلية الأكثر تطوراً، ودخلت دول جديدة التحدي الفضائي الاستكشافي لتصبح الرحلات الفضائية العلمية تُخرج بشكل مختلف ضمن فسحة أكبر من التعاون بين الدول. فوكالة الفضاء الأمريكية «ناسا» هي صاحبة التأثير الأساس في النشاط الفضائي، لكن الساحة الفضائية أصبحت أكثر ازدحاماً. إذ إنه بالإضافة إلى روسيا التي حافظت على خبراتها وإمكانياتها في علوم الفضاء عبر التعاون الصناعي والعالمي، واليابان التي أصبح لديها استقلالية نسبية في معظم النشاطات الفضائية، دخلت أوروبا القرن الواحد والعشرين كقوة فضائية رئيسة سمح لها تعاون بلدانها ضمن الوكالة الفضائية الأوروبية منذ 1974م، بالإضافة إلى وجود وكالات فضائية على المستوى الوطني في إيطاليا وفرنسا وألمانيا وغيرها، بتطوير تدريجي لقدراتها في كافة المجالات وتقليل اعتمادها على الدول الأخرى. أيضاً، ثبَّتت الصين أقدامها كقوة فضائية بعد عقود من الجهود المتواصلة، وواصلت الهند تطوير قدراتها الصاروخية بعد إطلاقها التجاري الناجح لأقمار صناعية في المدار القريب للأرض عام 1999م، وأنشأت البرازيل برنامجاً فضائياً هو الأهم من نوعه في أمريكا اللاتينية عام 1994م لتطوير تطبيقات الفضاء.
ومنذ منتصف التسعينيات، اتجهت كل من الوكالتين الأمريكية والأوروبية إلى تطوير سياساتهما بشكل جديد، فوضعت الناسا برامج جديدة سمحت بإدراة خاصة للمشروعات، وشجَّعت على استخدامات تكنولوجية جديدة وتقليل التكاليف. أما وكالة الفضاء الأوروبية، وبهدف بناء قدرات مستقلة، فقد وضعت منذ منتصف التسعينيات تصوراً لأشكال مختلفة من الرحلات الفضائية الاستكشافية، فأطلقت مثلاً رحلة «سمارت 1» التجريبية عام 2003م إلى مدار القمر، ورحلة المذنب «روزيتا» عام 2004م.
هذه الرحلات العلمية الآلية تخطو اليوم خطوات إلى الأمام نتيجةً لتطور المعرفة والوسائل التكنولوجية، وقد قدمت الانتعاشة الأخيرة للرحلات العلمية عينة من فوائدها وكلفتها مقابل مبالغ كبيرة صرفت في مهمات إنسانية لم تحقق الآمال المرجوة منها. غير أن النشاط الفضائي يسير من جهة أخرى في اتجاه غير المعرفي، ويستخدم الفضاء لاختبارات تكنولوجية ولتفعيل أفكار الريادة الإنسانية له.
في المنافع على تخوم المعرفة
في مقاييس المنافع، أصبح الاستخدام اليومي للفضاء عادياً عبر محطات التلفزة الفضائية أو المكالمات الهاتفية البعيدة وحتى الإنترنت، وفي معرفتنا لأحوال الطقس وفي بحثنا عن الموارد الطبيعية في الأرض ومعرفة البيئة وغير ذلك الكثير. وبالتالي فإن الدول باتت معنية به أكثر، ليس لمصالح سياسية واستراتيجية فقط، بل أيضاً في البحث عن فوائد مباشرة، خاصة لبلدان شاسعة المساحات. كما قدّم استخدام الفضاء عملياً احتمالات لتبادل منافع وخدمات تجارية، لكن ضمن الحدود التي يفرضها كون النشاط الفضائي يعتمد على قدرات الدول.
ولكن ماذا عن الرحلات الاستكشافية؟ هل يمكن لمنفعتها أن تتعدى المعرفة العلمية بالفضاء؟ عادةً ما يتم تسويق المنافع المباشرة لرحلات الاستكشاف، خاصة للمهمات المأهولة المكلفة والصعبة، بواسطة تطبيق بعض الاختراعات التي تعود فوائدها على الحياة الإنسانية بشكل عام، في هذه الرحلات. أنتجت هذه الرحلات تطبيقات في حقول تكنولوجيا الحاسوب الإلكتروني ومواد الاستهلاك والطب والبيئة وتحسين الإنتاجية الصناعية والمواصلات وغيرها، كآلات كشف الدخان، وشاشات التلفزة المسطحة، والبطاريات الطويلة الاستخدام، وأجهزة قياس التلوث وتطهير المياه، وأنظمة معالجات طبية مختلفة بالليزر لسرطان الثدي وأمراض القلب، وغير ذلك الكثير. هذه المنافع المنقولة مفيدة، ونلحظها في حياتنا اليومية في أكثر من مكان، لكن لا قيمة اقتصادية لها لتبرير كلفة النشاط الفضائي، باعتبار أنه يمكن الوصول إليها من خلال أبحاث مباشرة بشكل أرخص وأسرع بكثير.
الحديث عن قيمة اقتصادية لبرامج الفضاء هو سعي مستقل، ولا يتعلق فقط بما قد يخرج تلقائياً من اختراعات في الفضاء، بل يُنظر إليه كشكل خاص من التخطيط البعيد المدى لاستكشاف وعلم الفضاء. فمعظم الدول التي تنخرط اليوم في النشاط الفضائي تبرر برامجها الفضائية بحجة أن تطوير التكنولوجيا الضرورية للفضاء يحفِّز ابتكارات يمكن نقلها إلى صناعات أخرى. وتتعزز هذه الحوافز في عالم يعتمد فيه الاقتصاد على عنصري التكنولوجيا والابتكار، بحيث بات البعض يرى البرنامج الفضائي جزءاً مهماً من المشروع التكنولوجي الهادف إلى الحفاظ على التنافسية الاقتصادية. والوحدة الأوروبية على سبيل المثال تنظر اليوم إلى البرنامج الفضائي كجزء من استراتيجية «ليشبونة» التي تشدد على العلم والتكنولوجيا من أجل تقوية التنافسية الصناعية. والفضاء يعني في هذا المجال فتح آفاق جديدة وليس فقط تطوير ما هو موجود، أي البحث عن منافع في أقاصي حدود المعرفة، تلك التي لا نعرفها بعد.
ووراء البحث عن الجدوى الاقتصادية للنشاط الفضائي الاستكشافي يوجد أيضاً طموح لتوسيع دائرته، وربطه بنظرة أوسع مدلولاً سياسياً واقتصادياً. فوكالة الفضاء الأمريكية «ناسا» على سبيل المثال، تضع احتمالات لمشاركة القطاع الخاص في الرحلات الفضائية ربما بعد انتهاء خدمة المكوك الفضائي في عام 2010م. وقد تم إجراء اختبار أولي لرحلة مكوكية تجارية في عام 2004م. لكن الأمور ليست على قدر كافٍ من الوضوح؛ وذلك لأن الحكومات وحدها هي التي تملك الطريق نحو الفضاء، كما أن تعريف جهود القطاع الفضائي في إطار «الخاص» تثير إشكالية، في رأي البعض؛ لأنها توظف تكنولوجيا طوّرتها الأموال الحكومية وتدخل في إنتاجها أجزاء مستعارة من البرامج الحكومية، كما أن من المتوقع أن يكون المشتري الأساس الحكومة أيضاً. وفي نهاية المطاف، لكي يصبح نشاط القطاع الخاص ذا معنى فقد يتطلب الأمر جهداً أكبر لبنى تحتية فضائية قد تكون فوق قدرة بلد واحد.
هذا الربط بين النشاط الاستكشافي ومنافع أخرى، الذي لا يخدم بالضرورة هدف المعرفة، ولا تدخل في اعتباراته أهداف لمشروعات اقتصادية محددة، يتأسس على نتائج غير معروفة قد تقود القطاع نحو التضخم أو الترف.
في الرحلات المأهولة وجدلها..
الخطوة الإنسانية الكبيرة جداً في الفضاء تبدو صغيرة جداً أيضاً في الوقت نفسه. وقليلة هي الأماكن التي يمكن أن تطأها قدم بشرية، من المساحات الشاسعة للفضاء، (باستثناء المريخ وبعض الأقمار)، وهي تجعل للريادة الإنسانية الفضائية مدلولات ضعيفة مقابل مشقاتها وتكاليفها ومخاطرها، ولذلك تبقى وجهات النظر حول أهمية الرحلات الإنسانية موضع جدل مستمر. فالبعض يرى أن المعرفة العلمية ليست الهدف الوحيد ولا الرئيس، وما يثير الحماس من الرحلات ليست المعلومات التي تعود بها بل فعل الإنجاز في تحقيقها. واعتمد الخيال العلمي حول الفضاء منحىً ريادياً «للبحث عن حياة جديدة وحضارات جديدة، للذهاب إلى أماكن لم تطأها قدم إنسان سابقاً»، كما كان يطالعنا مسلسل الخيال العلمي «ستار تراك». لكن بين هذه التطلعات وبين الواقع بوناً شاسعاً، والبحث عن الحياة اليوم تختصره معرفة ما إذا كان هناك وجود لمياه في مكان يمكن الوصول إليه (القمر أو المريخ أو بعض الكواكب السيارة) أو في سبر أعماق الكون في البحث عن كواكب ما بعد النظام الشمسي قد تظهر إمكانيات للحياة.
إن التفكير الأكثر واقعيةً حول المهمات الإنسانية يربط هذه المهمات بمبررات الاكتشاف العلمي والمعرفي نفسه. فالاستكشاف من هذا المنظور هو عملية تفاعل مادية ومعنوية مع المحيط. ومن دون تدخل إنساني يصعب تسمية العمل المعرفي استكشافاً، وإنما هو مجرد عملية تحسس عن بعد. وينظر إلى التدخل الإنساني فيما يمكن أن يقدمه من قدرة على الربط بين الأمور التي لا تستطيع الآلة أن تنجزها، والخبرة البشرية تستطيع أن تتعامل مع أمور غير متوقعة تعجز عنها الآلة. لكن السؤال يبقى هنا ما إذا كانت تلك اللحظات التي يكون فيها التدخل الإنساني ضرورياً توازي الجهود التي قد يتطلبها. المهام الإنسانية، التي أعطيت لها الأولوية في العقود الماضية وما زالت لها، لم تقدم أي اختراق تكنولوجي رئيس يبدل جوهرياً أداء الرحلات المأهولة في الفضاء.
وللجدل أيضاً اعتبارات أخرى مستقلة عن معرفة الفضاء. فالسعي إلى الفضاء في إطار مهمات مأهولة غلب عليه عنصر سباق الوصول، الذي رافق بداية عصر الفضاء في الصعود الإنساني إلى القمر. بعد القمر كان التطلع إلى المريخ الوجهة اللاحقة للرحلات المأهولة في برامج وكالة الفضاء الأمريكية ناسا. لكن النتائج العملية لمشروع أبولو وقفت بوجه مشروع كبير آخر. كما بدأ يغذي أيضاً سجالاً آخر حول أولويات الرحلات المأهولة أو العلمية في أوروبا، والتي اعتبرت حتى اليوم أن سقف وكالتها الفضائية هو الأبحاث والرحلات العلمية فقط، واستثنت المهمات المأهولة. وفي جدل لم يحسم بعد، جرى إنشاء مشروع أوروبي «أورورا» (2002م) بدعم من مجموعة من الدول الرئيسة وليست كلها، بهدف دراسات الاحتمالات وإعداد رحلات آلية إلى القمر والمريخ، على أن يؤخذ القرار بشأن رحلة مأهولة إلى المريخ في عام 2015م. ويشرح أحد المسؤولين الأوروبيين المنطق وراء هذا البرنامج: «بعد عشرين أو ثلاثين سنة بحال حصلت هكذا رحلات، تريد أوروبا أن تكون شريكاً متساوياً في إطار تعتقد أنه يجب أن يكون عالمياً».1
لم تعد الرحلات الفضائية الإنسانية تثير حماس الجمهور كالسابق. ويعتقد البعض أن السبب يعود إلى موقف الحذر من برامج يمكن أن تشكِّل منطلقاً لسباق جديد غير مجدٍ. المهمة المأهولة الأكبر اليوم هي «المحطة الفضائية العالمية»، وتعبر في هذا التوجه عن روح للتعاون بعد انتهاء مرحلة السباق. وفي وضع تملك فيه الولايات المتحدة وروسيا القدرات الوحيدة حالياً لمهمات مأهولة، فإن الدول الأخرى ترى للتعاون وظيفةً عملية لتطوير قدراتها في هذا المجال. ويبدو أن المحطة الفضائية عكست توجهاً لأن يكون التعاون أبعد مدى، لكي تصل إلى هذا الثقل والحجم، بحيث وصفت بأكبر عمل هندسي في التاريخ، وهو يعطي الشركاء حقوق استخدام داخل المحطة لم تكن لديهم في السابق، ولا عجب أنهم يرسلون أرفع ما لديهم من مختبرات، وبهذا يتولَّد صرح كبير وثقيل من صروح مختبرات التكنولوجيا.
المحطة الفضائية العالمية:
ثقل فضائي ومعنوي
في نوفمبر 1998م انطلقت المركبة «زاريا» من بايكونور في كازخستان، وفي ديسمبر من نفس العام انطلقت المركبة «يونيتي» من على متن المكوك الفضائي لتنضم إليها وتشكل النواة الأولى من المحطة الفضائية العالمية. تتألف هذه المحطة من مجموعة مختبرات فضائية على ارتفاع 400 كلم عن سطح الأرض، وبوزن سيصل عند الانتهاء من تركيبها في 2012م إلى 450 طناً -أربعة أضعاف وزن المحطة التي سبقتها «مير»- وستصل كلفة بنائها إلى 100 بليون دولار. وستشكل هذه المحطة الأيقونة الفضائية للعالم في بداية القرن الواحد والعشرين. ذلك أنها ثمرة تعاون تقوده الولايات المتحدة مع 14 دولة أخرى، وتتحمل أعباءه الأساسية وكالة الفضاء الأمريكية «ناسا»، وتسهم وكالات الفضاء الأوروبية والروسية واليابانية والكندية في تقديم المختبرات والأمور الأخرى، كما تسهم الوكالة الفضائية البرازيلية في توفير بعض المعدات.
الوظيفة العملية للمحطة الفضائية ستكون مخبرية. ففي مجموعة مختبرات ستُجرى أبحاث مشتركة تتطلب جاذبية ضعيفة ومتعلقة بتكنولوجيا النانو وبعلم المناعة وأبحاث زرع الخلايا وغيرها بالإضافة إلى اختبارات عملياتية متعلقة بالفضاء. لكن من الصعب اعتبار أن العمل المختبري هو مبرر وجودها؛ لأن التجارب نفسها يمكن إجراؤها على الأرض في أنظمة محاكاة الجاذبية الضعيفة. والموضوع الوحيد الذي يحتاج سكناً فضائياً دائماً هو اختبار التحمل البشري للرحلات الفضائية الطويلة، ولهذا يراها البعض مقدمة تأهيلية بشرية لرحلات فضاء طويلة إلى المريخ مثلاً. وحُددت لهذه المحطة أيضاً مهمات أخرى تجارية لتشجيع رحلات فضائية خاصة، وتعتزم الناسا فسح المجال للقطاع الخاص للقيام برحلات إليها بعد خروج المكوك الحالي من الخدمة في عام 2010م، كما وقد تتطلع دول لديها برامج فضائية لكنها ليست شريكاً في المشروع، كالهند والصين، إلى دخول هذه المحطة من الباب التجاري، رغم أن هذا النشاط سيكون رمزياً.
الفضاء وحدود الاستكشاف
لا تخلف حساب فوائد عصر الفضاء القصير انطباعاً مؤثراً. لا بل يظهر مفارقة. فما كان يترك انطباعاً قوياً مع بداية عصر الفضاء هو الريادة الإنسانية، والكل يذكر الخطوات الأولى على القمر، لكن ما انتهى إليه عصر الفضاء هو أن الانطباع الأهم خلفته بصمات الإنسان الآلية في أصقاع الفضاء، والصور الاستكشافية المذهلة التي وصلت منها. وهو في الوقت نفسه انتصار للقدرات الإنسانية بشكل ما، ويعطي تقديراً أكبر للتطور التكنولوجي وللمعرفة. كانت الإطلالات المعرفية المهمة تأتينا عندما يكون النشاط الفضائي متحرراً من الاعتبارات الخارجة عنه، رحلات بايونير وفوياجير إلى الكواكب البعيدة بعد الانتهاء من رحلات أبولو، والانتعاش الاستكشافي العلمي بعد انتهاء الحرب الباردة. وربما إذا جرى التركيز على المعرفة، سنقترب أكثر من الفضاء ومن الاستفادة منه، كما هو الحال اليوم مع رحلات تهدف إلى التسلق أكثر وتكتفي باختراق أقل، وكما كانت الملاحة البحرية الشراعية في أول طريقها.