حياتنا اليوم

المقهى المعاصر في المدينة العربية
الزبائن، المقاعد، الأحاديث حتى القهوة تغيرت

  • 4
  • 0000301332-050
  • 112671039_ecc7385ed7_o
  • BJ001955
  • YOSF0130

المقهى.. هذا الجزء الحميم من المدينة والذي غالباً ما كان معلماً من معالم العديد من أحيائها يشهد اليوم تحولات كبيرة جداً في مدننا العربية. ولا تقتصر هذه التحولات على تكاثر المقاهي بشكل غير مسبوق، بل أيضاً في ظهور أنماط جديدة من هذه المقاهي تختلف كثيراً عن تلك التي ألفناها حتى سنوات معدودة خلت، كما أن بعضها يبدو نقيضاً لها ولوظيفتها التاريخية.
القافلة تجولت في المقهى العربي المعاصر الذي يزداد حضوره زخماً في المملكة، كما هو الحال في القاهرة وبيروت والمغرب، كاشفاً عن جملة تحولات طرأت بإيجابياتها وسلبياتها على الحياة الاجتماعية في المدينة العربية المعاصرة.

المقهى في المملكة
يكبر شيئاً فشيئاً، وفيه شبه غريب بالمدن
ياسر اليحيى
المقاهي في المملكة ليست مقطوعة من شجرة إن صح التعبير. إذ يتصل نسبها بأنماط وأشكال كان أكثرها حداثة وتطوراً المقهى العصري الذي نشاهده اليوم. فالحجاز حيث المنطقة الأكثر تفاعلاً مع غير السعوديين هو المكان الأعرق لجهة المقاهي أو المركاز ، الشكل الأولي لمقهى اليوم حيث كان يجتمع أصحاب الاهتمامات المشتركة، أدب، طرب، ثقافة، ترويح، لعب ورق، كيرم، يجلسون على كراسٍ خشبية طويلة متقابلة، كل كرسي منها يسع أكثر من ثلاثة أشخاص، وتُدار القهوة بينهم والشيشة والشاي الأحمر وشاي النعناع اعتماداً على مزاج الجلسة، ونمط الحديث المتداول فيها. أما في نجد فقد كان الوضع مختلفاً، حيث لم تكن المقاهي بطابعها الاجتماعي مكاناً مشهوراً، وربما لهذا السبب كان لمجالس الأعيان وشيوخ القبائل ووجهاء المنطقة دور المقهى في الحجاز. كانت قهوة الشيخ فلان، تعني تجمع الأعيان عنده في وقت معين حيث تُدار القهوة العربية التي يتم إعدادها أمام نظر الضيوف الذين يجلسون على الأرض ويستندون إلى أرائك ووسائد مصنوعة من شعر الماعز ووبر الجمال، حيث كانت الأحاديث تتمحور حول الطقس والمطر و(الحيا) الكلمة التي تعني الحياة ويراد بها الزرع الذي ينبت إثر سقوط الأمطار، كما كان للتجار قهوتهم التي يجتمعون حولها في مجلس أكثرهم ثراءً.

المقاهي في الأحساء وأبها وعرعر وبقية مناطق المملكة تكاد لا تخرج عن نمطي الحجاز ونجد، ولكن بتفاوت يعكس المسافات الفاصلة جغرافياً واجتماعياً، ستجد في الأحساء مقاهي مشهورة لملاَّك مزارع النخيل، وستجد في أبها والطائف مراكيز معروفة وربما ما زالت إلى الآن تعمل، فالمقهى يبقى، بصرف النظر عن هيئته وأثاثه، مكاناً يجسِّد معالم القرية والمدينة.

عالم جديد يحل محل القديم
الكراسي الخشبية العارية من أية وسائد إسفنجية حلت محلها مقاعد جلدية داكنة اللون محشوة بالإسفنج الناعم وأرائك مخملية وثيرة ذات ألوان زاهية. النادل بلباسه المرقع وطاقيته المزركشة ويده الخفيفة القادرة على حمل عدة أكواب دفعة واحدة، وصوته المردد لطلبات الزبائن خشية نسيانها، حل محله نادل من نوع آخر، ممشوق القامة، يرتدي زياً موحداً طبع عليه شعار المقهى الذي يعمل فيه، وسيم، يتقن العربية والإنجليزية، يتأبط ألبومات المقهى، ويلقي عليك تحيةً عند دخولك أو خروجك، لا يعلق على ما يراه مهما كانت المواقف محرضة على ذلك، ولا يشارك الزبائن نقاشاتهم. الأكواب الزجاجية التقليدية التي نحتتها أصابع الزبائن الخشنة غدت أكواباً لامعة بيضاء، صفراء، زرقاء، ومصنوعة من فولاذ أحياناً، مقابضها كبيرة تسمح لليد بأن تحتضنها بشكل كامل. حتى القهوة أصبحت موكا و لاتيه و اسبريسو . أم كلثوم كوكب الشرق، هي الأخرى استبعدتها الحداثة من أثاث مقاهيها. يكاد المقهى الجديد يفقد الصلة التي كان يتمتع بها المقهى القديم مع المجتمع العربي، فالمقاهي كما يقول أحدهم مدن صغيرة تشبه إلى حد بعيد المدن التي تحتضنها، فهل مقاهينا هي مدننا الصغيرة؟

الروَّاد الجدد..
روَّاد المقاهي الجدد هم في معظمهم شبان تتراوح أعمارهم بين 15 و 35 سنة. يلبس بعضهم الجينز وقبعات البيسبول الأمريكية، ويلبس آخرون الشمغ المنشاة والثياب الغالية، وآخرون تعكس ملابسهم نمط حياتهم المتوسط، الجميع يمتلك هاتفاً نقَّالاً، البعض يعلّق جهازه بشريط زاهي اللون على رقبته، والبعض الآخر يخبئه في محفظة جلدية فاخرة، والبعض يضعه عارياً على الطاولة.

يتحدثون بالعربية فيما بينهم وعندما تعييهم البلاغة، يستعينون بمفردات إنجليزية. وقد لا يعودون إلى العربية حتى ينتهي سرد الحكاية. تدور أحاديثهم حول السيارات الفارهة أو ذات الدفع الرباعي، والشأن الثقافي أحياناً، ينتقلون إلى الحديث عن ألبومات الفيديو كليب للمغني الشاب وألبوم تلك المغنية الفاتنة. يتخلل أحاديثهم تبادل مقاطع بلوتوثية طريفة. ويضحي من الضروري أن يتمتع الواحد من هؤلاء الرواد بالقدرة على الحديث في كل هذا وأكثر، ومشاركة الآخرين في اتخاذ القرار الصعب بين الهيزل نَت لاتيه و كراميل كريتو ، وبين معسل العنب أو التفاح.. ذلك أن هذه القدرة هي المفتاح الذي يفتح لك باب هذا المجتمع المغلق، ليقبلك عضواً فيه.

ويحكي أحد هؤلاء الشباب عن امتناعه عن تذوق المعسل إلى أن أدرك أن العلاقات بين زملاء القهوة تتوثق وقد تتحول إلى مصلحة وعمل، عندما يجتمعون على المعسل. وعندما يصبح الموسم كروياً تنقلب المقاهي إلى صالات سينمائية مهيأة جداً لمتابعة المباريات الرياضية، قهوة، موكا، لاتيه، اسبريسو، وكل ما يجعل الفم مراً لدرجة اللذة!

وتكاثرت هذه المقاهي أينما كان في الرياض كما في جدة والخبر والأحساء. تراها في المراكز التجارية وفي الأسواق الجديدة، وفي الدور الأرضي من معظم مباني المكاتب الكبيرة أو بجوارها.

سموم بدل الهموم
ستجد وأنت في طريقك إلى خارج المدن محال كبيرة مضاءة بأضواء كثيفة، هي الأخرى مقاهٍ ولكنها تختلف قليلاً. في هذا النوع من المقاهي تُدار الشيشة والمعسل بشكل أكثر من عادي، إنها أماكن يفترض فيها أن تكون مناطق منزوعة الهموم استراحات وفي سبيل هذا، توفر هذه المحال كل ما يمكن أن ينتزع منك همك أو بالأحرى تفكيرك بهمك، قنوات فضائية بعيارات ثقيلة أحياناً ولكن لزبائن مخصوصين، يسمحون لك بتدخين الشيشة حتى الثمالة، وقد تجد من يتحدث معك في المواضيع العامة، ولكن لا تأخذ الموضوع بشكل جدي، إنه حديث عابر لتمضية الوقت لا أكثر.

المكان الثالث يتمدد ويتنوع
ربما تكون المقاهي قد نجحت اليوم إلى حد ما في تكريس مفهوم المقهى كمكان ثالث، بعد المنزل، والعمل أو الجامعة. فلم يعد الشباب يعتبرون المقهى مكاناً غريباً يروِّحون عن أنفسهم فيه، بل هو وجهة منطقية للالتقاء بالأصحاب، كما يكون المنزل وجهة طبيعية للالتقاء بأفراد العائلة. ولذلك نجد أن كثيراً من الشباب، فتيات كن أو فتيان، يداومون عادةً على الذهاب إلى مقهى واحدٍ تصاحبهم فيه الألفة.

إذن قالمقهى لم يعد مكاناً للقهوة فحسب وإن كانت تُدار فيه بأسمائها المختلفة. إنه مكان يكبر شيئاً فشيئاً، به شبه غريب بالمدن من جهة التمدد وجهة التنوع، إنه مدينة صغيرة ، وهي -أي المدن- مقهىً كبير.

مقاهي القاهرة..
تودِّع الرومانسية
محمد خير
ربما لا تتلازم كلمتان بقدر كلمتي المقهى و القاهرة ، فإن اندمجتا في عبارة، فلا بد أن تحيلا المستمع إلى عالمين لا ثالث لهما، العالم المحفوظي الذي أجادت السينما نقله، حيث الكراسي المتلاصقة في أزقة الحسين أو الغورية، والطاولات تشتعل بمنافسات ألعاب الطاولة والدومينو، يجول بينها الصبي ملبياً هذا ومداعباً ذاك، بينما المعلم متربع في صدارة المقهى، يرصد الزبائن بنصف عين، وبالعين الأخرى يراقب الإيراد النقدي.

أما العالم الآخر، فهو ذلك الذي تحفل به كتب النقد وحكايات السياسة، حيث المقهى هو الموطن الحقيقي لصعاليك الأدب، ومسكن الندوات والمناظرات التي ضاقت بها الأماكن الأخرى.

حسناً، ماذا بقي من هذا وذاك؟ وهل تتسع قاهرة ما بعد الألفية الثانية لكل هذه الرومانسية؟

مقاهٍ لكرة القدم والإنترنت
مما لاشك فيه أن المقهى كمشروع تجاري ، لا يزال مشروعاً مفضلاً لكثير من المصريين. إنه المشروع المضمون الذي لا يخسر أبداً، حتى بعد أن وصلت تكلفة شراء مكان للمقهى إلى ما يساوي نصف مليون دولار في الأحياء الراقية كالمهندسين والزمالك، بينما لا تزيد في المناطق الشعبية على بضعة عشرات من الآلاف، ففي بلد شديد الحرارة، تتسم منازله بضيق المساحة، بلد يعج بالعاطلين من العمل، وأرباب المعاشات العجائز وأصحاب المعاش المبكر إثر تصفية القطاع العام، بلد كهذا لايمكن أن يخسر فيه مشروع المقهى، حتى لو تغيَّر هذا المقهى نفسه من حيث طبيعة المكان المختار، أو نوعية المشروبات والخدمات التي تقدم للزبائن.

تعج القاهرة بأكثر من 12 ألف مقهىً، خلاف الزوايا الصغيرة الغُرْزَة ومنصات الشاي المتحركة التي تخدم عمال التراحيل والبناء، فهذه يصعب حصرها، وتحاول الدولة منذ سنوات أن تحد من ازدياد المقاهي، فتارة تمتنع عن إصدار التصاريح اللازمة، وتارة تزيد من إجراءات استصدار مثل تلك التصاريح، ولكن عبثاً. فقد ازدادت الظاهرة وتزداد كل يوم. وأضيف إلى أسباب استشرائها عاملين أساسين، أولهما، هو حصول إحدى محطات التلفزة على الحق الحصري لنقل أهم بطولات كرة القدم العالمية والعربية، ومع عشق المصريين المعروف لكرة القدم، اشترك العديد من المقاهي في خدمة بث تلك المحطة العربية، بل افتتحت مقاهٍ خصيصاً لبث تلك المباريات.

أما العامل الثاني، فهو الإنترنت، ذلك العالم الذي دخله المصريون على استحياء في نهاية القرن المنصرم، ثم انفتحوا عليه فجأة بعد أن تعرفوا إلى إمكاناته المدهشة. وعلى الرغم من أن وزارة الاتصالات المصرية قد أنشأت المئات من نوادي المعلوماتية في مختلف أرجاء البلاد، إلا أن هذا لم يحد من ازدياد مقاهي الإنترنت حتى أصبحت في كل مكان، وقد حاولت السلطات في البداية أن تمارس بعض الرقابة على تلك المقاهي، إلا أن عددها في ازدياد حتى يكون من المستحيل على أي كان أن يراقبها، وقد أضيفت إليها مزية مهمة، هي إمكانية ارتياد الفتيات لها من دون مشكلات، ونظرات مستريبة، كالتي توجه إلى الفتيات اللاتي يرتدن المقاهي العادية.

غير أن المقاهي الواقعة في الأحياء المترفة، احتوت ظاهرة الإنترنت، بأن أدخلت خدمات الإنترنت اللاسلكي (wireless)، مما يتيح لمن يمتلك جهاز كمبيوتر محمولاً (laptop) أن يستخدمه وهو جالس على مائدته المفضلة، وبسرعات عالية. تنافست تلك المقاهي بضراوة في تقديم تلك الخدمة، حتى أن بعض الشوارع في منطقة المعادي والمهندسين، لا تحتاج فيها إلى دخول المقهى، إذ يكفى أن تجلس في سيارتك وتفتح جهاز الكمبيوتر الخاص بك، حتى تتلقى خدمات الإنترنت المحلقة في الأثير.

المرتادون الجدد: شبَّان وسياح
هذه الخدمات الجديدة في مقاهي القاهرة أحدثت انقلاباً في نوعية مرتاديها، من حيث العمر والمستوى العلمي والثقافي، فلم يعد القطاع الأكبر من مرتاديها يتشكل من أرباب المعاشات والعمال البسطاء، فتدريجياً أصبح المقهى مركزاً لجذب شباب متعلم من الجنسين، ينتمون إلى الطبقة الوسطى فأعلى، ويختفي تدريجياً المقهى التقليدي، تختفي معه المقاعد الخشبية لصالح تلك البلاستيكية، وتختفي مشروبات السحلب و التمر هندي و العنَّاب لصالح المياه الغازية والبيرة الخالية من الكحول، وتتقلص ألعاب الدومينو والطاولة لصالح الألعاب الإلكترونية، ويختفى الحواة والمغنون الشعبيون لصالح شاشات التلفزيون الضخمة، وتندر الجلابيب والعمائم لصالح الجينز والمعاطف الجلدية.

غير أن تلك التغيرات على أهميتها الظاهرية، تخفي تغيرات أعمق وأخطر في دلالاتها، فالمقهى تاريخياً لم يكن مجرد مكانٍ للترويح عن النفس، بل كان أيضاً محلاً للقاء، للحوار والجدال وفض المنازعات والتواصل الاجتماعي. وليست مصادفة أن احتل المقهى مكانة مهمة في الأدب المحفوظي. أما اليوم، فيبدو مرتادو المقاهي كل في عالمه الخاص، ومن المدهش أن الإنترنت وهو وسيلة تواصل بين الفرد والعالم، قد جعل الفرد منفصلاً عن الجالس بجواره على بعد سنتيمترات، كل يخاطب العالم الافتراضي بطريقته.

هل ينقرض إذاً المقهى التقليدي؟ يبدو هذا توقعاً مبالغاً في التشاؤم، وإن تجدر الملاحظة أن آلاف المقاهي المنتشرة في القاهرة تبدو كمقاهٍ ولكنها لا تحمل من المقهى سوى المقاعد والمشروبات، هي أقرب للأحياء العشوائية منها للأحياء الشعبية، غزيرة وفقيرة ومزدحمة ولكن لا روح لها، أما المقاهي التاريخية مثل الفيشاوي و ريش فقد طالتها العولمة منذ زمن، تبحث بين أرجائها فلا تجد سوى الشعر الأشقر والعيون الزرقاء.

بيروت.. تنوع وازدهار يستثنيان المقهى الشعبي
شوقي الدويهي
عرفت مدينة بيروت تاريخياً نوعين من المقاهي: المقاهي الشعبية التي كانت حكراً على الرجال ممن يلعبون بالورق إما للتسلية وإما للمقامرة فضلاً عن تدخين النرجيلة (الشيشة)، والمقاهي المعاصرة والمختلطة للطبقة الوسطى وما فوق تقدم إضافة إلى القهوة بعض المأكولات الخفيفة. غير أنه منذ أواسط التسعينيات تطور المقهى المعاصر حتى اختلف كثيراً عمَّا كان عليه قبل عقد أو عقدين من الزمن. وأصبح نمطاً مستقلاً بحد ذاته. كما ظهر نمط ثانٍ لا يمت بصلة إلى غيره.

مقاهٍ وسط بيروت مثالاً
يحضر النمط الأول أكثر ما يحضر في وسط المدينة الذي أعادت إعماره وترميمه شركة سوليدير . ويكاد قطاع المقاهي يطغى ظاهرياً على كل ما عداه من نشاطات اقتصادية في هذه المنطقة. وفي معظم هذه المقاهي يقع المرء على أناس يأكلون ويشربون وسط رائحة الدخان المنبعث من النراجيل. واللافت على هذا الصعيد أن مدخني النارجيلة هم في غالبيتهم من الشباب ذكوراً وإناثاً. وإن كان مشهد هؤلاء قد أثار الاستغراب والاستهجان في بداياته -خاصة مشهد الفتيات المدخنات- إلا أنه أضحى بسبب انتشاره الواسع لاحقاً ظاهرة مجتمعية بكل معنى الكلمة، وإن كان كثيرون لا يزالون يرفضونه.

فقد انتقلت النرجيلة بكامل عدتها من مقاهي الذكور الشعبية إلى هذه المقاهي الحديثة والمختلطة، من دون أن يقرب ذلك هذه المقاهي من المقهى الشعبي التقليدي في شيء. ناهيك عن أن الأسعار في هذه المقاهي تتجاوز إلى حد بعيد القدرات الشرائية للطبقة الشعبية.

الزبائن يتبدلون والاهتمامات أيضاً
فخلافاً للمقاهي الشعبية التي يتردد عليها روادها بصورة شبه يومية ولأغراض محددة، فإن زبائن مقاهي وسط المدينة يتبدلون إلى حد كبير كل يوم، الأمر الذي لا يجعلها مطبوعة بفئة بعينها على غرار المقاهي الشعبية.

وفي هذا الإطار، تختلف المقاهي المعاصرة في بيروت اليوم عن تلك التي كانت موجودة فيها قبل عقدين من الزمن. إذ تميز بعض تلك المقاهي آنذاك بطغيان نوعية معينة من الرواد من ذوي الاهتمامات المشتركة على غيرهم. ولعل المثال الأشهر في ذلك كان مقهى الهورس شو في شارع الحمراء، الذي كان يعد معقلاً للمثقفين العرب وليس اللبنانيين فقط، وقد نجح مقهى الاكسبرس في الشارع ذاته في خلافته على ذلك خلال سنوات الحرب.. الأمر الذي يعتبر اليوم شبه مفقود بالكامل.

تضم مقاهي اليوم خليطاً من الناس، سواء على صعيد الجنس، أو على صعيد الفئات العمرية، فهي أمكنة تتجاور داخلها أمزجة وأهواء مختلفة تعبِّر عن نفسها بأشكال متنوعة تتجلى في سلوكات متنافرة إذا ما قورنت بما نعرفه عن المقاهي الأخرى. وبما أنها تقدم جملة من الخدمات مأكلاً ومشرباً فمن غير الممكن معرفة السبب الذي يقف وراء ارتياد هذا الزبون أو ذاك لها، وذلك خلافاً للسبب المعروف سلفاً لمن يرتاد المقهى الشعبي.

إلى ذلك فإن زبائن هذه المقاهي هم زبائن لا تربطهم بعضهم ببعض أية علاقة أو معرفة. وبهذا المعنى هي أمكنة تتجاور فيها هويات مجهولة الأمر الذي يحقِّق، إن شئنا، مفهوم المدينة كمكان يتخفف فيه الفرد من انتماءاته الأولية. وتتنوع هوية من يرتاد هذه المقاهي بتغير ساعات النهار. فزبائن ساعات الصباح غير زبائن بعض الظهر، وكذلك زبائن المساء. كما يتلوَّن المقهى بألوان مختلفة تبعاً لساعات النهار، الأمر الذي يستتبع تبدلاً في أجواء المقهى بحيث تطغى عليه خلال ساعات الصباح أجواء هادئة لا يعكِّرها سوى صوت الموسيقى، فيما تطغى على فترتي بعد الظهر والمساء أجواء أكثر صخباً.

مقاهي الإنترنت..
تنوُّع في تقديم الخدمة الواحدة
هناك نمط آخر من المقاهي شهد انتشاراً واسعاً منذ ما يقارب العقد من السنين، ألا وهو مقاهي الإنترنت.

خلافاً لجميع أنواع المقاهي الأخرى، يتميز مقهى الإنترنت في كونه يقدِّم خدمة واحدة لاغير. وفي حال توافر خدمات أخرى كتقديم السندويشات أو بعض المشروبات الباردة أو الساخنة، فالخدمات هذه لا تشكل سبباً لارتيادها.

وخلافاً كذلك لأنماط المقاهي الأخرى، أكانت شعبية أم حديثة حيث هناك فئات من جميع الأعمار، فروَّاد مقاهي الإنترنت هم من فئة الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و 25 سنة وهم من الجنسين مع غلبة للذكور (في تقدير أولي يشكل الذكور حوالي %70 فيما الإناث %30).

ويخطئ من يظن أن مقاهي الإنترنت تشكِّل نموذجاً واحداً. فهناك فروقات كبيرة بين مقهى وآخر سببها الموقع الذي يحتضن هذا المقهى أو ذاك. ثم هناك فروقات تطال هذه المقاهي قوامها نوع الخدمة التي يقدمها كل منها، كالأسعار أو سرعة وبطء التواصل. وعلى العموم هناك نوعان من مقاهي الإنترنت. النوع الأول هو الذي يقع في الشوارع الرئيسة التي تقدِّم فقط خدمة الاشتراك بالإنترنت وما يرافقها من نشاطات أخرى قوامها الاستئثار بألعاب Net Work. وهذا النوع من المقاهي يوفر لرواده جانباً كبيراً من الخصوصية التي تسمح لهم بتصفح شبكة الإنترنت من دون قيد أو شرط. ويقول أصحاب هذه المقاهي أو من يديرونها إنه ليس من مهامهم تربية العالم ، ولا من مهامهم لعب دور الشرطة المُحافِظَة على الأخلاق .

هناك نوع آخر من المقاهي التي تقع في الشوارع الرئيسة لكنها لا تؤمِّن الخصوصية . وعدم تأمينها هذه الأخيرة مرده المكان الذي يوضع فيه الكمبيوتر بحيث تكون الشاشات مكشوفة أمام الجميع. هذا النوع من المراقبة غير المباشرة، إن جاز القول، لا يمنع صاحب المقهى من التدخل أحياناً في حال حصول تجاوزات طالباً من الزبون ترك الموقع. فالجدير ذكره على هذا الصعيد أن الإنترنت في لبنان لا يخضع لأية رقابة كما هو الحال في العديد من الدول التي تقوم بفلترة هذه المواقع.

في النهاية وعلى ضوء ما تقدم، وبمعزل عن مدى استمرار هذه النماذج من المقاهي الجديدة أم لا، يمكننا القول إن المقهى بصيغته التقليدية قد أصبح إلى حد بعيد من الرواسب التي تعيش أيامها الأخيرة. ولا أدري ما إذا كان علينا التفتيش عن اسم جديد نطلقه عليها غير اسم المقاهي.

المقهى في المغرب
عربي وغربي
رؤى عبدالباري
يستيقظ في الثامنة صباحاً، يتناول فطوره في منزله أحياناً، وأحياناً يغادره دونه، ليتجه إلى القهوة . متنفسه الوحيد حيث يهرب إليه من متاعب الحياة وأعبائها. يشرب قهوته هناك، ويدخِّن، وقد يجد من أصحابه من هو مثله، فيتبادلون الحديث، أو يجلس وحيداً غارقاً في همومه، أو سارحاً في أحلامه التي يصعب تحقيقها. يقرأ الجريدة ويتابع آخر الأخبار المحلية، فإن أنهى فنجان القهوة، أتاه الشاي والحلوى المغربية، حتى تدق الساعة الثانية عشرة معلنةً وقت الرحيل والبدء بالقيام ببعض واجبات الحياة.. وربما البحث عن عمل. فيودِّع مقهاه، إلى أن يراه في اليوم التالي.

للطلبة والعاطلين من العمل
في المغرب، المقهى هو قهوة ، سواءً أكان هذا المقهى مقهىً مغربياً شعبياً، أم مقهىً فرنسياً كمقهى لا جون بلو أو بريوش دوري . وفي الفترة الصباحية من دوام عمل عادي قد لا ترى سوى الشبان والكبار من العاطلين من العمل والمتقاعدين، أما في بقية اليوم، فقد تجد صغاراً وكباراً يرتادون المقهى، من سن الثامنة عشرة وحتى الستين.

ومن المقاهي ما يرتاده الشبان فقط، كمقاهي الإنتــــــــرنـــت، أو كمـــا يسميها المغربيون الســايــــبــــــر ، أما المقاهــــي الأخــرى فهي تستقبل جميع الفئات العمرية والاجتماعية، فتجد العاطلين والمتقاعدين من العمل، والطلبة والطالبات الجامعيات.

ولم يعد المقهى كما كان سابقاً، مكاناً يلتقي فيه أبناء الذوات ليرفِّهوا عن أنفسهم. فكثرة المقاهي وتنوع مستوياتها جعلتها مقصداً للجميع. ففي المدينة الواحدة، كمدينة القنيطرة مثلاً، تجد أكثر من خمسمائة مقهى، في الأحياء الراقية والشعبية وما بينهما، والكثير الكثير من المقاهي على شاطئ البحر. ويكثر روَّاد المقاهي في مواسم معينة، لعل أهمها المواسم التي تحددها كرة القدم. فالمغربي نادراً ما يتابع مباريات كرة القدم في منزله. ويفضِّل في ذلك المقهى. كما يزداد عدد مرتادي المقاهي من الشباب في يومي السبت والأحد، وهما يوما العطلة، إذ يروِّح العاملون والطلبة عن أنفسهم بعد عناء أسبوع طويل.

التأثير الفرنسي
لا يترك مجالاً للأمريكي
وتتميز المقاهي المغربية بإرضائها لجميع الأذواق، شبابية كانت أم غير ذلك، فهي مؤلفة من جزءين، الجزء الداخلي، وهو الجزء الذي تقدم فيه المأكولات الدسمة، وفيه مكان للإنترنت وشاشة تلفزيون، وآخر خارج المحل حيث تنتصب الطاولات والكراسي في الهواء الطلق لتشاهد المارة ويشاهدونها. وكثيراً ما تستطيع سماع الراديو الذي يعمر به داخل المحل خارجاً لينتقل خليط من الأنغام المغربية الأندلسية والشبابية والشعبية، بالإضافة إلى الفرنسية والإسبانية والإنجليزية بين الرواد الجلوس خارج المقهى، وحيث تسمع المصطلحات المغربية الفرنسية، وحيث قوائم الطعام عادةً ما تكون بالفرنسية وقليلاً ما تكون مترجمة إلى العربية. أما التأثير الأمريكي فلا يكاد يذكر، ذلك أن النكهة الفرنسية والمغربية تغلبه، ولا تدع له كبير مساحة ليظهر فيها.

ولأن البطالة لم تترك مجالاً للاختيار بين الأعمال، فقد تجد من نادلي المقاهي المغربية شباناً يحملون شهادات عليا، ومنهم من يحمل شهادات في مجال خدمة المطاعم، والبعض الآخر منهم يعمل في المقاهي كي يزيد دخله بالإضافة إلى عمله الأصلي. وسريعاً ما ينشأ ود متبادل بين مرتادي المقهى من الشباب، وبين النادل، ويصبحون أصدقاءً ربما يجمعهم مقهىً آخر في يوم آخر.

أضف تعليق

التعليقات