الرحلة معا

تفاؤل عربي

إذا سلَّمنا المقود لإحساسنا العارم بالتأخر العربي على كل الأصعدة فإن أحداً لن يلومنا. كما أننا، في الوقت نفسه، لن نصل إلى شيء، غير ما وصلنا إليه من الأسى والأسف على تردي أحوالنا وانكسار إرادتنا وطموحنا. في السنتين الأخيرتين، على الأقل، بدأت أشعر بأننا أفضل، وأن حالنا مقدور عليها إذا تفاءلنا ووضعنا (يأسنا) الكبير جانباً. أشعر، والشعور ابن عم الحلم، بأن أمتنا بدأت، وإن ببطء، تتفهم نفْسها المعاصرة. في كل أصقاع الأرض العربية هناك عدد من المثقفين العتاة يتنازلون علناً عن الارتباط بالأحلام الكبيرة لينتسبوا إلى عالم الواقع. يحدث ذلك في السياسة والاقتصاد والثقافة وعلم الاجتماع. وبينما كان هناك في مراحل سابقة من يصرخ في وجه الآخر: إما كل شيء أو لا شيء، صار الأغلب الأعم يؤمن بنظرية التدرج للخروج من المأزق. وبنى كثير من المفكرين آراءهم الحديثة على غير ما بنوا عليه تلك الآراء القديمة، التي لا يجوز أن نحكم عليها بالبطلان بقدر ما نضعها في ظروفها الزمانية والمكانية المناسبة.

لم يعد العربي، وليكن ذلك في تصوري فيما بعد العام 2000م، سائراً بين حكمين: إما حكم المكابرة أو حكم جلد الذات. فلا الأولى أوصلتنا إلى نتيجة ترتجى ولا الثانية بعثت فينا الهمة والعزم على النهوض من سباتنا. بل ربما سقطنا جرَّاء اجترار الحالتين في هوة سحيقة فقدنا معها قدرتنا على التوازن والتصرف بحكمة مع واقعنا وقيمتنا الحضارية بين الأمم. وربما، أيضاً، تسببت حالة الاجترار هذه في قفز بعض الأفكار المتربصة لتصطاد في مائنا العكر وتؤكد على رسوخنا في حالة اليأس، إلى حد اتهامنا بافتقادنا القدرة على الحياة والتجديد.

اليوم تنتشر عبر الأرض العربية الشاسعة عدوى الحوار، وهي عدوى حميدة تؤسس لمنطلقات جديدة ومتغيرة في التفكير والتداول ومبادلة الآخر أفكاره ورؤاه. ليس الآخر الشقيق أو المجاور فقط، بل الآخر البعيد أيضاً، الذي يقيم معنا علاقات مصالح مشتركة ومتشابكة لا يمكن فك ارتباطها بالتشنجات والإلغاءات. وبينما كانت هذه العدوى، عدوى الحوار، مستبعدة أو كامنة، جرى مؤخراً تأسيس عدد من المنابر التي أطلقت الأفكار والألسنة والأقلام لتفصح عمَّا تراه، بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معها. المهم، وهذا ما يثير طرفاً من التفاؤل، أن الناس تتعلم الآن على الاختلاف وتدير شؤونها تحت مظلات وطنية، بقدر ما تتيح لها الفرصة تمنحها حالة من الاطمئنان إلى المستقبل.

وما يمكن أن يلاحظه المراقب في الحوارات الدائرة أنها تتجاوز العادة القديمة في قصر الحوار على النخب الرسمية إلى إجراء الحوار بين هذه النخب ونخب المجتمع المدني بكل أطيافه وألوانه، مما يمهِّد لخلق مسؤولية جماعية أو (مجتمعية) تجاه القضايا الراهنة والاشتراك في نقلها إلى حالة بنَّاءة تعود بفائدتها على الجميع دون استثناء أو استئثار.

الحوار، أيضاً، بصفته سبباً رئيساً للتغير المنشود خلق مجموعة أسباب أخرى لا تخطئها عين المراقب. فالتعليم مثلاً، باعتباره المُبشِّر في نهوض المجتمعات والمؤثِّر في حركتها، يخضع الآن لحوارات متعددة لا تسبقها شروط أو أجندات جاهزة. وبات الناس يطالعون في محافل رسمية وشعبية الكثير من الأفكار الجادة والحادة فيما يتعلق بأطره ومناهجه ومخرجاته. يحدث ذلك في الوقت الذي تُبدي فيه النخب الرسمية استعدادها للاستماع والتجاوب، بعد أن أدركت أن نواتج العملية التعليمية لا تؤثر فقط في المسار المعيشي اليومي للناس، بل تؤثر في أمنهم النفسي والاجتماعي. وبالتالي أصبح من الجائز أن يبدأ التغيير في هذه العملية من النخب الرسمية نفسها، ويكون دور نخب المجتمع رفد هذا التغيير بالاستعداد لمناقشته على قاعدة المصلحة العامة وتجنب الأحكام المسبقة في حقه، الأمر الذي سيضعنا على الطريق الصحيح لتحقيق نهضة تعليمية ترفع من قدر حضورنا وتأثيرنا في مسار حضارة اليوم والمشاركة في صناعتها.

وإذا كان الحوار المفتوح حول مسائل التعليم سبباً من أسباب حالة التفاؤل فإن الإعلام العربي يمثِّل سبباً آخر لهذا التفاؤل. وأكاد أجزم أن الإعلام العربي تجاوز حالة الحوار والتداول إلى حالة من التطبيقات الصحيحة التي نراها على الأرض. فهذا الإعلام توافر له منذ سنوات الكثير من الإمكانات والتقنيات التي وضعته في مصاف المنافسين الكثر حول العالم. أما صناعة التحليل والحوار وبناء الرؤية المؤثرة في الرأي العام فقد تطورت بما لا يقاس بما كان يحدث قبل بضع سنوات، حين كان أداء الإعلام العربي تقليدياً وعاجزاً عن الوصول إلى الأسئلة الكبرى التي تدور في أذهان الناس. وأظن أن الإعلام العربي بالذات سيواصل تطوره مدفوعاً بالمنافسة المشتدة على هذا الصعيد من جانب وبالمتغيرات العربية المتسارعة من جانب آخر.

ولأن هذه الزاوية بدأت تضيق على موضوعها فإن ما أردت قوله هو أن هناك الآن ما يمكن أن نسميه ردم الفجوات العربية. تلك الفجوات الكائنة بين ما يتطلع إليه الناس وما هو قائم بالفعل. هناك في الأفق نوايا وأعمال صادقة على كل مستوى، سواء أكان مستوى رسمياً أم شعبياً. المهم هو أن يشجع المسؤول والمثقف العربي الظروف والعوامل الذاتية والموضوعية التي تكفل ردم هذه الفجوات، لئلا يطول بقاء العربة أمام الحصان.

أضف تعليق

التعليقات