الكتابة عملية تفكير مستمر. إنها مصفاة وجودية لكل ما يبصره الإنسان ويستأنسه من أفكار ومشاهدات وحقائق أو أخيلة. حين خطّ إنسان الكهف على الجدار أولى رسوماته عن الحيوانات وأشكالها وطريقة حركتها وتزاوجها، كان يبحث عن نفسه وعن موقعه الكونيّ ومعنى وجوده بين آلاف الكائنات الحية من حوله. وتدريجاً، وعبر مئات القرون، تحوَّل الحجر إلى قلم ثم إلى لوحة مفاتيح كما في عصرنا الرقمي هذا، وتطوّر معها وعي الإنسان بالكتابة..
رفع الإنسان بصره إلى السماء ليقرأ المستقبل في النجوم والكواكب، ثم خفضه ليتفحص أثر القوافل في الصحراء، ثم خفضه أكثر ليستكشف الأحماض النووية. ولأن الحياة فوضوية ومرتبكة ولا تخضع لقوانين التفاضل والتكامل، فقد لجأ الإنسان العربي في الجاهلية إلى الكهانة والعرافة والقيافة والعيافة والزجر والرؤية والفراسة وعلم التنجيم ليقرأ الغيب وليستفزّ بها أقصى قدر من الاحتمالات.
لكنّ التنبؤ بالكتابة ظل أمراً مرفوضاً وغير قابل للتصديق، ولذلك سمّي شاعر العرب الكبير بـ «المتنبي» فقد قيل إنه يستبق الشيء فيتنبأ بوقوعه قبل أن يحدث، ومن ذلك أنه تنبأ بموت أحد ممدوحيه وهو أبو علي هارون بن عبدالعزيز الأوراجي.
ولأننا في عصر سياسي باختلاف مدارسه الفلسفية وما بعد الحداثية، فقد اتجهت الكتابة إلى هذا المنحى التحليلي للتأشير على وضع الإنسان العربي الذي أصبح وجوده قائماً على ما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع الاجتماعية والسياسية من حوله. بل إن أشهر المثقفين والكتّاب العرب في الخمسين سنة الماضية عُرفوا بتوجهاتهم في استقراء التاريخ ومقاربة الوقائع وتخليص الضمير الإنساني من زوائد التشدد الثقافي والحضاري كأحمد مطر ومحمود درويش وأدونيس وعبدالرحمن منيف وغيرهم. ولذلك تبدو قراءة هؤلاء الكتّاب عبر استخلاص استشرافاتهم الرمزية والمباشرة أمراً يستحق الأولوية في المعالجة.
محمود درويش على سبيل المثال عُرف بوعيه السياسي المرن، وبقراءة منتجه الشعري الوفير نجد التقاطات عميقة يمكن النظر إليها كشيفرة تحذير لا مجرد محاكاة رمزية للواقع. يقول في كتابه «يوميات الحزن العادي» الصادر في طبعته الأولى عام 1973م «هل يمزح التاريخ؟ يخرج أيار/ مايو ليدخل حزيران/يونيو، والبنادق العربية تصوّب إلى كل الاتجاهات إلا الاتجاه الصحيح» في إشارة واضحة يمكن قراءتها بواقعية في سياق الأحداث الأخيرة التي تحصل في بعض البلدان العربية.
هل كان غازي القصيبي يعلم أنه يكتب موته حين كتب روايته البسيطة المعقدة «رجل جاء وذهب»؟
«يعقوب العريان» العاشق الذي يموت وحيداً في مصح السرطان بإحدى ضواحي لندن، والوزير الشاعر مات بسرطان المعدة بعد أن تنقل في مستشفيات الغرب.
إن رواية مثل رواية «فكرة» التي صدرت عام 1946م لأحمد السباعي تشير بطريقة مواربة إلى سواد المستقبل الذي ينتظر الإنسان العربي. فراعية الغنم رباب تطوف العصور التاريخية العربية لكنها في نهاية الأمر تظل راعية.
لقد ظلت الكتابة دائماً هاجس الأدباء والشعراء والرواة. يركنون إليها فتمنحهم صفاء النفس وزوال الغبش عن العيون والأذهان. إن الكتابة عن الحياة تزيد من فهمنا للحياة، كما أن عدم الاكتفاء بالممكن والنزوح بالذات إلى عوالم متخيلة أخرى هو ما يربي في الشعراء والروائيين قدرتهم على استقراء الآتي من العمر في محاولة للتطاول على جدران الحاضر والنظر إلى الغيبي البعيد.
في إطار روايات الآخر، تنبَّأ إسحاق عظيموف بالتعليم الإلكتروني، وتنبَّأ دوغلاس آدام بالكتب الإلكترونية، وتنبَّأ راي برادبيري بوصول الإنسان إلى المريخ. وفي عام 1898م ألَّف الروائي الأمريكي مورقان روبرتسون رواية سماها «العبث، أو حطام التايتان» بتفاصيل دقيقة تقارب بشكل عجيب ما حدث لباخرة التايتنك التي غرقت عام 1912م. والمؤكد من هذه الأمثلة أن البيئة هي التي تحرّض على تأليف روايات الخيال العلمي التي لاقت رواجاً كبيراً في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي مواكبة للتقدم الصناعي آنذاك. لكن هذا الجنس من الروايات لا يزال دائرة مغلقة، يتحرّج كثير من كتّابنا في اختراقها وتجريبها إلا فيما ندر.