كثيراً ما تنتج أفلام كان من الممكن أن تحقق نصاباً فنياً متكاملاً، لولا خفوت آليات تنفيذ جزئيات مهمة منها. قد يكون الموضوع ممتازاً، والفكرة التي يبثها جيدة، ولكن يأتي السيناريو ضعيفاً فيفقد الفِلم كثيراً من قيمته ويضعف حبكته.. أو قد يكون الشريط الصوتي والموسيقي المصاحب غير ملائم لأحداث الفِلم أو مبالغاً في توظيفه الدرامي، أو غير ذلك، ولكن قد يبقى المحصل النهائي جديراً بالتوقف والتأمل والنقاش.
ذكريات الطفولة المؤلمة
يتأنى كثيراً مخرج الفِلم السعودي القصير «ظلي لم يعد يتبعني» قاسم المسري في سرد أحداث فِلمه الذي تبلغ مدته خمساً وعشرين دقيقة، وهو من تأليف وبطولة يوسف أبو راكان وهاشم العبدالله، تمثيل أمجد قريش، ومحمد قريش، وأحمد رمزي.
يسرد الفِلم معاناة شاب (فهد) خرج من مستشفى الأمراض النفسية بعدما قضى بها ست سنوات نتيجة أزمات نفسية، ألمَّت به جراء القسوة التي كان يتعرَّض لها إبان طفولته على يد والده. يخرج وحيداً ساهماً يجر خلفه حقيبته وهو مطأطأ الرأس والروح.. يخرج فهد ويذهب إلى بيت العائلة فتهاجمه الذكريات الأليمة. الأب القاسي الذي كان يضربه لأقل الأسباب. والقسوة هذه غير مبررة على المستوى الدرامي في سرد الفِلم أو على مستوى الواقع، إلا بقدر يسير من الاجتهاد المسرحي التضخيمي، أو كما يدعي لسان حال الأب أنه أسلوب تربوي يريد منه أن يربي ابنه على مبادئ الرجولة والأخلاق الفاضلة.. في حين أنه يخطئ في أسلوبه هذا. فهو يعتقد أنه يقوّم ابنه وينبهه إلى الأخطاء التي يرتكبها، حتى لو كانت أخطاء غير ذات بال ولا تستوجب الذكر.
أداء مسرحي بتكريس عالٍ
هكذا يطرح الفِلم موضوعه بكثير من تكريس التمثيل المسرحي للممثلين يوسف أبو راكان، الذي قام بدور فهد، وهاشم العبدالله الذي أدى دور الأب. إنهما يجتهدان في زج المشاهد في زاوية التراجيديا السوداء، وتكثيف ذلك بالمؤثرات الصوتية والموسيقى الحزينة. نشاهد الأب وهو يضرب ويعنّف ابنه بطريقة وحشية على تصرفات هامشية لا تعني أية انحرافات في السلوك، مثل كسره كأس الماء الذي سقط منه عفواً.. تعود ذاكرة الشاب إلى تلك التفاصيل ويجدها مجسدة أمامه، بلعبة إخراجية تضع الشاب في الحدث الماضي وكأنه يحدث أمامه في اللحظة الراهنة. وحتى يكون معبِّراً عن هذا الماضي يجتهد المخرج في تصوير تلك المشاهد باللونين الأبيض والأسود. ثم تنتقل الذاكرة بالشاب من فترة الطفولة إلى فترة الصبا…
يتنقل الشاب في زوايا البيت فيتذكر لحظات المعاناة مع والده الفظ، وأنه كان له بالمرصاد في كل صغيرة وكبيرة.
ثم من خلال انسياب موَّال عراقي حزين يفهم المشاهد أن «فهداً» يعاني من فقدان حنان الأم، إذ تقول كلمات الموَّال:
«يايمَّة ليش العمر ضيعته من دونك يايمَّه
وسنين مرت عليّ مو شايف عيونك يايمَّه.
العين قد ما بكت حتى بيها انعمت ولو دوروا بالقلب
وبروحي يلقونك يا يمَّه.. يا يمَّا»..
لحظة التطهير في تراجيديا مركّزة
في تلك اللحظة يظهر الأب، ويدخل حجرة «فهد» الذي عاد بعد ست سنوات قضاها في المصحة النفسية. يستقبله والده بكثير من المودة، ويحضنه والدموع تنهال من عينيه، وكأنه ندم على القسوة التي كان يعامل بها ولده. هنا تبرز لحظة التطهير التي أرادها المؤلف، لتظهر في سياق الفِلم ضمن أداء تراجيدي عالٍ.. نرى في لقطات متتالية الأب وهو يحتضن ابنه عندما كان طفلاً، ولقطة أخرى بعدما صار صبياً، ولقطة ثالثة وهو مراهق، ورابعة عندما صار شاباً يافعاً مكتمل الرجولة، في تواؤم مع تلك اللقطات والمشاهد التي ظهر فيها الأب يضرب فيها الابن.. يفتح حقيبته ويخرج منها بروازاً يحمل صورة أمه، يحتضنه ويجهش بالبكاء في أداء مسرحي خالص. فيتمتم بجمل تبوح بما يعانيه، وتخرج منه بنحيب حارق وعويل مرّ.
ينتهي الفِلم ويترك للمشاهد كثيراً من الأسئلة المفتوحة، منها ما الدافع وراء قسوة الأب؟. كيف كانت تسير حياة الأب وابنه دون أم وزوجة؟ وربما تساءل المشاهد بينه وبين نفسه عن العقد النفسية التي يسببها العنف. وكيف يصبح الإنسان فاقداً لوزنه الروحي، وبالتالي عديم الفاعلية والحيوية إلى درجة تجعل ظله لا يتبعه. وهي كناية عن تشتت الوجدان والمكوِّن النفسي، حيث يصبح وجود الإنسان في حيز وظله وأثره في حيِّز آخر.