السفر حالة بشرية قديمة تغيَّرت وسائلها وبقيت على حالها: بشر يذهبون، وبشر يؤوبون، وآخرون ربما لا يكتب لهم خط رجعة لأسباب متعددة. من أبرز من صوَّر حالة السفر (المضنية) في شعرنا العربي ابن زريق البغدادي في قصيدته الشهيرة لا تعذليه، التي قال فيها:
ما آب من سفر إلا وأزعجه
رأي إلى سفر بالعزم يزمعه
كأنما هو في حل ومرتحل
موكـل بفضـاء الله يذرعــه.
ومن المسافرين في هذا الزمان، من يعرف شعور ابن زريق هذا من كثرة ما استعدوا للسفر وكثرة ما أصابهم من قلق ومشقة الطريق وأتعبهم تغيُّر المناخات والثقافات والوجوه، لكنهم يظلون دائماً على سفر، حيث كُتب عليهم، لطلب الرزق أو الدراسة أو حضور المنتديات أو إجراء الاتفاقيات، أن يمتطوا ظهور الدواب الحديثة، السيارات والطائرات، ليصلوا إلى أهدافهم الجغرافية في مشارق الأرض ومغاربها.
ويقال إن مشقة السفر وقلقه لم يتغيرا، على الرغم من تغيُّر الدواب وتحقيق سهولة الوصول إلى جهات المسافرين بما لا يمكن أن يقاس بأية صورة من الصور في السابق. والسبب في ذلك هو أن الحالة النفسية للمسافر بالسيارة والطائرة هي نفسها الحالة التي ركبت الإبل أو الخيل أو البغال. الفرق فقط في طي المسافات من أشهر إلى أيام ومن أيام إلى ساعات.
وربما تكون الطائرة، وسيلة السفر الأسرع في أيامنا هذه، أضافت عبء مغادرة الأرض إلى كاهل الحالات النفسية للمسافرين، حيث لا يوجد مسافر واحد في العالم لا تنتابه رهبة بقائه معلقاً في الهواء لساعات غير ضامن عودته إلى أمه ومستودعه الطبيعي: الأرض.
لكن، وهذا هو بيت القصيد، سيبقى السفر حالة مطلوبة ومزعجة في نفس الوقت، كما صوَّر ابن زريق في أوائل القرن الخامس الهجري. واليوم، أكثر من السابق، نشأ سفر السياحة في بلاد العالمين، حيث يهبط ويقلع الملايين يومياً في مدن العالم. والهدف فقط هو قضاء أيام ممتعة لا تخلو من اكتساب التجارب والتعلم والتسوق والتزود الثقافي والحضاري.
ومثلما سترون في ملف هذا العدد، فإن السفر أو حالاته عبارة عن كتاب يقلِّب الإنسان المسافر صفحاته، بينما لو بقي في مكانه فإنه لن يقرأ سوى صفحة واحدة من هذا الكتاب. ولذلك، بعد أن تقرأوا هذا الملف، لا تبخلوا علينا بتجاربكم في السفر، فقد نجد لديكم ما يثري هذه الحالة البشرية الأزلية ويفتح آفاقاً جديدة على تفسيرها وفهمها.