يستضيف هذا الباب المكرّس للشعر قديمه وحديثه في حلته الجديدة شعراء أو أدباء أو متذوقي شعر. وينقسم إلى قسمين، في قسمه الأول يختار ضيف العدد أبياتاً من عيون الشعر مع شروح مختصرة عن أسباب اختياراته ووجه الجمال والفرادة فيها، أما الثاني فينتقي فيه الضيف مقطعاً طويلاً أو قصيدة كاملة من أجمل ما قرأ من الشعر.. وقد يخص الضيف الشاعر القافلة بقصيدة من آخر ما كتب.. أو قد تختار القافلة قصيدة لشاعر معاصر.
تُعد قصيدة الحُطيئة «وطاوي ثلاث» واحدة من القصائد الخالدة في ديوان الشعر العربي لجهة قدرتها الدائمة على الإمتاع والإدهاش، التي تسمو على عوامل الزمان والمكان.
الشاعر والكاتب يحيى البطاط يقدِّم قراءته في ديوان الأمس لهذه القصيدة الفذَّة بكل المقاييس، للعناصر الفنية التي ضمنت لها خلودها.
أما لديوان اليوم فاختارت القافلة قصيدة للشاعر موسى الأمير بعنوان دموع الوداع.
طالما يراودني سؤال عن السر الذي يجعل قصيدة ما قادرة على استقطاب اهتمام وشغف السامعين والقرَّاء عبر الزمن، فلا تمل الأجيال من استعادة أبياتها بشغف وفرح، دون كثير اعتبار للعصر الذي قيلت فيه، أو الظرف الذي تزامن مع ولادتها.
أتساءل: هل يكمن السر في اللغة؟ أم في معاني القصيدة ومقاصد جملها؟ وهل للموضوع علاقة بالحدث الذي قيلت فيه تلك الأبيات؟ أم أن السر مرتبط بشخصية شاعرها؟
ربما تكون كل هذه الأسباب محفزات للتلقي، لكنها لا تصيب صميم الفكرة. فخلود القصيدة أعلى شأناً من شهرة قائلها، وبقاء القصيدة حية في ضمائر الناس أبعد مرمى من مجرد مناسبة قولها.
في الغالب لا أجد إجابة وافية تهديني إلى ذلك السر.. سر خلود قصيدة ما.. وسر إعجاب الناس بها. غير أن مفتاحاً هداني إلى كشف بعض جوانب السر، وهنا لا أدَّعي كشفاً، ولا سبقاً على أحد، فالأمر برمته لا يتعدى كونه محاولة شخصية، أو ذاتية لاستكناه حقيقة الجمال الفني لبعض القصائد.
حسناً، ليس في الأمر مبالغة، وسأختصر مفتاحي بكلمة واحدة، هي (التشكيل). نعم، التشكيل هو المفتاح الذي يمكن أن يقود في معظم الأحيان إلى بعض من ذلك السر.
وأقصد بالتشكيل هنا، البناء الفني للقصيدة، البناء الذي تتضافر فيه جملة عناصر، ابتداءً باللغة وسياقاتها، مروراً بمعمار القصيدة، وحبكتها الفنية، ثم بتوالي الصور المترابطة موضوعياً وبنائياً، وأخيراً صدق العاطفة الذي لا غنى عنه في أي عمل فني. تماماً كما يستعين الفنان التشكيلي بجملة عناصر فنية لرسم لوحته، كالخامة واللون والضوء والظل والموضوع.
هذا التشكيل، أو الموالفة الناجحة بين كل تلك العناصر، هو ما يسبب الصدمة، وانعقاد اللسان، والصدمة، ويمسك بلبّ المتلقي. إنه البوتقة التي تتفاعل فيها عناصر العمل الفني، لتولد كيمياء جديدة سأطلق عليها مجازاً كيمياء الدهشة.
أضيف إلى ذلك الزمن الداخلي للنص، الذي تتشكل على ضوئه الحكاية، ففي أي عمل فني أصيل يعتمد اللغة خامةً له. لا بد من زمن تتعاقب خلاله الوحدات، الصوتية والبنائية. وتصب بجملتها في وظيفة اللغة، لتوصل رسالتها إلى المتلقي من دون جهد.
نحن نعلم أن تلقي اللوحة التشكيلة لا يستغرق زمناً، لأن رسالتها محمولة بصرياً وتتوجه إلى عين المتلقي مباشرة، وهي مكونة من الألوان ودرجاتها وتشكلاتها في فضاء اللوحة. غير أن النص الشعري، نص شفاهي بالدرجة الأولى، يستلزم زمناً لكي يصل، وفي طيات ذلك الزمن تكمن عبقرية نص من النصوص.
أن تبني لوحة تشكيلية، بخامة لغوية، يعني أن تسرد حكاية، ولكي تسرد حكاية، لا بد لك من زمن، ولكي تنتج الزمن، لا بد لك من ضابط إيقاع ماهر!!
والشاعر المخضرم الحطيئة (أبو مُليكة جرول ابن أوس العبسي، أدرك الجاهلية وأسلم في زمن أبي بكر)، ها هنا هو ضابط الإيقاع الماهر، أو المايسترو الذي أدار بنجاح باهر أدوار العازفين في سيمفونيته. ففي نصه الشهير الذي مطلعه (وطاوي ثلاث) تتضافر عناصر التشكيل اللغوي: الحكاية، توالي الصور، الانفعال، اللغة بتقلباتها المدهشة، اللون وحركته وظلال الأبطال، وأخيراً الزمن. تتضافر كلها لتحقق معاً نصاً تشكيلياً، يتمتع بطاقة عالية، قادرة على السفر لأكثر من 1400 سنة ليصل إلينا، وكأنه نص كتب قبل ساعات فقط.
لنقرأ معاً حكاية رجل وزوجته وثلاثة أبناء، يعيشون في بيداء مرملة، فقراء جياعاً، حفاة، عراة، مستوحشين، كأنهم بُهُم. خمسة بؤساء كأنهم أشباح يعيشون في مكان منقطع عن الحياة، ويؤلفون معاً القاعدة الداكنة في بيداء اللوحة، التي يصفها بأنها بيداء لم يعرف لساكنها رسماً، أليست هذه هي صفات اللامكان واللازمان؟!
وطاوي ثلاث عاصب البطن مرمل
ببيداء لم تعرف لساكنها رسـمـا
أخا جفوة فيه مـن الإنـس وحـشة
يرى البؤس فيها من شراسته نعما
تفرّد في شعـث عـجـوزا إزاءهـا
ثلاثة أشباح تخالـهـم بـهـمـا
حفاة عراة ما اغتذوا خـبـز مـلة
ولا عرفوا للبُرّ مذ خلقوا طعمـا
هذه المقدمة التصويرية، أشبه ما تكون بلقطة بعيدة طويلة، تقدِّم لنا مشهداً عاماً لحالة هذه الأسرة البائسة. بعد البيت الرابع تتحرك فجأة عناصر اللوحة، عندما، يظهر في الأفق المظلم شبح لشخص، ربما يكون وحشاً، أو وهماَ. وقد يكون ضيفاً. ولكن لا وقت هنا للتخمين، فلا بد من حل لهذه المعضلة.
ويحار الأب ماذا سيقدم من طعام بعد أن تأكد له أن هذا القادم ضيف، وليس لديهم ما يسد رمقهم.
الابن يتحرك ويبادر، حاثاً أباه أن يباشر بذبحه ليقدِّمه طعاماً للغريب!! وإلا فإن الضيف سيظن بهم الظنون على حد قول الابن، (سيظن لنا مالاً فيوسعنا ذماً) وسيدعي أننا حرمناه من الطعام.
رأى شبحاً وسط الظلام فـراعـه
فلمّا بدا ضيفاً تسوّر واهـتـمـا
وقال هيا ربّاه ضـيفـاً ولا قـرىً
بحقّك لا تحرمه تالليلة اللحـمـا
فقال ابـنـه لـمّـا رآه بـحـيرة
أيا أبتى اذبحني ويسّر له طعـمـا
ولا تعتذر بالعدم علّ الـذي طـرى
يظنّ لنا مالا فـيوسـعـنـا ذمّـا
وبعد تردد، يهم الوالد بذبح ابنه، وفي تلك اللحظة يظهر العنصر الثالث المتحرك في زاوية اللوحة، قطيع من حُمُر الوحش، ساقها الظمأ إلى بركة الماء القريبة.
الأب يتوقف عن فعلته المكروهة، ويستعيض عنها بفعل آخر، حيث ينطلق ليصطاد واحداً منها، ينتظر أولاً حتى تطفئ الحُمُر ظمأها، قبل أن يأتي بواحد منها إلى الخيمة بعد أن يطلق عليه سهماً من كنانته.
فروى قلـيلاً ثـمّ أحـجـم بـرهةً
وإن هو لم يذبح فتاه لقـد هـمـا
فبيناهم عنت على الـبـعـد عـانة
قد انتظمت من خلف مسحلها نظما
ظماء تريد الماء فانساب نحـوهـا
على أنّه منها إلى دمها أظـمـى
فأمهلها حتّى تروّت عـطـاشـهـا
وأرسل فيها من كنانته سـهـمـا
فخرّت بجوض ذات جحش فـتـية
قد اكتنزت لحماً وقد طبّقت شحما
قاربت اللوحة على الانتهاء الآن، فقد انفكت عقدة الحكاية بظهور قطيع من حمر الوحش، ونجاة الولد من موت محقق بعد أن كاد يكون وليمة للضيف الغريب، كما انتهت معاناة الأسرة برمتها من كونها ستوصم بالبخل، عندما يظن الناس أنها امتنعت عن إطعام ضيفها.
غير أن الحطيئة يرفض أن يتوقف عند هذا الحد، فاللوحة لم تكتمل بعد، وما زالت بحاجة إلى بعض اللمسات بالألوان الفاتحة المفرحة هنا وهناك، ليعادل بها تلك القتامة التي استهل بها لوحته.
انظر إليه كيف يجعل كل شيء يرقص بألوان الفرح في تلك اللحظات الختامية من ملحمته:
فيا بشره إذ جرَّها نـحـو قـومـه
ويا بشرهم لمّا رأوا كلمها يدمـى
وباتوا كراماً قد قضوا حقّ ضيفهـم
وما غرموا غرماً وقد غنموا غنما
وبات أبوهم من بـشـاشـتـه أبـاً
لضيفهم والأُمّ من بشـرهـم أُمّـا