قد لا يكون الرجل نجماً بالمفهوم التقليدي للكلمة، ولكنه كذلك في عالمه الخاص المؤلَف من مكتبة وقرَّاء يرتادونها في طلب الكتب، ويغادرونها وهم يحملون مع الكتب صداقة ومودة للبائع والمثقف والمطلِّع جيداً دهري محمد خير، الذي يرسم لنا الشاعر
عبدالرحمن ثامر صورته الشخصية.
عندما تدخل إلى مكتبته، يستقبلك مبتسماً وواقفاً بالتأكيد. وحين تودعه تكون قد حملت معك بعض الكتب وصورة في ذهنك لرجل أسمر مبتسم، مطلِّع، وجدير بالثقة. هكذا هو دهري الذي ساقه القدر من «الخرطوم بحري» إلى العمل منذ اثنتي عشرة سنة بين رفوف الكتب وكراسي القراءة في إحدى مكتبات مدينة الخبر، فأصبح صديقاً حقيقياً للكتاب والورقة والقلم، كما هو صديق لكل من يزوره بين كتبه حتى ولو كان ذلك لأول مرة.
من الطفولة إلى مشارف الماجستير
في الثلاثين من شهر ديسمبر عام 1965م، استبشرت عائلة الشيخ طه محمد في السودان بولادة آخر أبنائها: دهري. ونشأ الطفل وسط عائلة كبيرة مؤلفة من أب وأم وثمانية أخوة وأخوات.
كان والده يتكسب من العمل الحر الذي أمَّن الاستقرار والعيش الكريم لأسرته. غير أن هناء العيش تعكَّر بقسوة عندما كان دهري في الثامنة من عمره وأصبح يتيم الأم. الأمر الذي زاده تقرباً من أبيه، ودفع بأخواته الست الأكبر منه سناً إلى إحاطته بمزيد من العطف والرعاية.
تابع دهري دراسته بتفوق دائم في مدينة الخرطوم بحري. وبعد انتهاء المرحلة الثانوية, انتقل بطموحه إلى أم درمان لينتسب إلى جامعتها الأهلية سعياً إلى التخصص في اللغة العربية. وهناك أيضاً لم يفارقه التفوق. غير أن «الحياة تجبرنا أحياناً على أن نتخلى عن اختياراتنا وأن ننعطف في مسالك أخرى» كما يقول دهري، فاضطر إلى قطع دراسته في مرحلة الماجستير، ليخوض معترك العمل موظفاً في أكثر من مجال في بلده، إلى أن ساقه القدر في زيارة أولى إلى المملكة، حيث وضعه أمام منعطف مختلف، انتهى به في أحضان المكتبة.
بين أحلام الطفولة وعالم الكبار
يقول دهري إنه كان يحلم في طفولته بأن يصبح كابتن طائرة، يقطع مسافات الأرض، ويتوقف للاستراحة في مطارات العالم، يهبط من الطائرة ببذلة الكابتن ويقطع ساحة المطار ببذلة الكابتن، ويدخل على عائلته فجأة، ببذلة الكابتن.
ويضيف: «لم تجرِ الأمور كما كنت أشتهي.. فمع الأيام ازددت حباً للغة العربية. وكان زوج أختي ملحقاً ثقافياً ومقدِّماً لبرنامج ثقافي في التلفزيون، وقد أثَّر كثيراً على توجهي الدراسي لاحقاً».
ولا يبدو على دهري كبير أسف للتحول الذي فرضه الواقع على أحلام الطفولة. إذ إن علاقته بالكتاب انقلبت شغفاً تجاوز الأثر الذي تركه في نفسه قريبة المثقف، وأصبح العيش مع الكتاب في المكتبة نمط حياة ممتعاً بالنسبة له.
لم يخطر بباله أبداً أن يعمل يوماً في مكتبة. فما قاده إلى هذا العمل هو بحثه عن لقمة العيش الشريفة. ولكنه وجد وسط الكتب عالماً رائعاً جعله يتعلق بها إلى حد التعامل معها وقوفاً. فيقول: «كل يوم أحب الكتب والمكتبات أكثر، حتى الوقوف الطويل أحببته، وأصبحت أتجنب الجلوس، وحتى في المنزل أتعامل مع الكتب وقوفاً».
سألناه وهو يرتِّب الكتب على الرف خلفه: «هل يمكن أن يمر يوم من دون أن تقرأ؟». فأجاب بهدوء وثقة: «من دون مبالغة أؤكد لك أنه قد لا يمر كتاب بمكتبتي من دون قراءته أو الاطلاع جيداً عليه. تعودت القراءة بحيث بات يصعب عليَّ التوقف عنها. ولا أتخيل مرور يوم عليَّ دون أن أقرأ ولو صفحات قليلة».
صديق القرَّاء
عندما تكون مع دهري في مكتبته، يمكنك أن تلحظ بسرعة أنه مختلف عمَّا ألفته في باعة الكتب الذين يكتفون بإرشادك إلى الجناح الذي قد تجد فيه ما تطلبه. فالرجل يعرف كل كتاب في مكتبته: مكانه، موضوعه، محتواه، وفي أحيان كثيرة يعرف كتباً أخرى تناولت الموضوع نفسه ولكنها غير موجودة عنده.. وإذا اقتضى الأمر وتبادلت وإياه أطراف الحديث عن كتاب معيَّن، بدت لك معرفته واسعة ومفيدة لك. وفيما يروح يحدثك عن محتوى الكتاب أو عن إصدار جديد مرتقب، أو يرد على أسئلتك التي مهما كثرت، فإنها تبقى دائماً موضع ترحيبه، لا بد وأن تترك رقته في الكلام وابتسامته الدائمة أثرها في نفسك، فتجد نفسك تتعامل معه كصديق مثقف ومطلع، أكثر بكثير مما هو بائع.
بادرناه بالسؤال: «هل تعلم يا دهري أنك صديق محتمل لكل من يقصد من مكتبتك؟». فأجاب بعد فترة صمت على طريقة أهل النيل: «أعيش حياتي بلا أعداء. أنا قريب جداً من الصداقة ومنفتح عليها ومستعد دائماً لها. وأعامل الجميع على هذا الأساس».
ومن يمضي بعض الوقت مع دهري في مكتبته، يلاحظ بالفعل مدى قربه من الزبائن، الذين نادراً ما يتحدثون إليه بطريقة رسمية. إذ يبدو على معظمهم أنهم يعرفونه منذ زمن طويل، وتجمعهم إليه الألفة والصداقة الشخصية. فكثيراً ما تسمع وأنت تتصفح عناوين الكتب، صوتاً من خلفك يقول: «السلام عليكم.. كيفك
يا دهري؟»، «السلام عليكم يا بوشهد، بشرني عنك وعن الأولاد»، «مساء الخير دهري.. كيفك وكيف الأهل؟» وأيضاً «مرحباً يا زول.. لك وحشة».
ويتأثر كما يؤثِّر
هكذا وضعت الأيام دهري في محطة رائعة يلتقي فيها بعقول كثيرة ليست ذات شكل واحد، ولا من فئة عمرية واحدة ولا جنس واحد. وكما يترك الرجل أثراً عميقاً في كل من يمر بمكتبته، فهو يتأثر بدوره بهم. ويقول مسترجعاً مواقف عديدة: «أتأثر كثيراً بزبائني. ولم أكن أتوقع مثل هذا التأثير عندما بدأت عملي في المكتبة. فقد قابلت أناساً من طبقات ومستويات لا تعد ولا تحصى. إذ أستقبل هنا أساتذة ومثقفين ومسؤولين وبسطاء وآباء وأمهات وأطفال.. وبكل صراحة، أصبحت بسبب ذلك أقرب إلى الالتزام النفسي والأخلاقي والاجتماعي، وتغيَّرت حياتي كثيراً».
الكتاب حتى في البيت
تغيَّرت حياة دهري كثيراً، ولكنها قائمة على ثوابت لا تتزعزع. فإلى جانب انغماسه حتى الغرق في عالم الكتاب خلال وجوده في مكان عمله، فإن الرجل الذي جعلته الظروف يقدِّر قيمة الحياة العائلية منذ نعومة أظفاره، حريص على إحاطة ابنته شهد وابنيه محمد وخالد بكل الاهتمام والعطف اللذين يعرف قيمتهما وقدرهما منذ أن كان طفلاً بمثل أعمارهم.
ويطيب لدهري أن يحدثك، وقد أصبحت صديقه، عن أبنائه. فيتوزع حديثه على جانبين: مدى تعلقه بهم، وحرصه على أن يبث فيهم روح العلم وحب الدراسة كي يصلوا إلى أعلى المستويات في دراساتهم، وليحققوا ماعجز هو عن تحقيقه.
وبالنسبة للرجل، فالمسافة الفاصلة مابين شغفه بالكتاب في مكتبته، والمكانة الكبيرة التي تحتلها عائلته في نفسه، ليست كبيرة على الإطلاق. فضمن اهتمامه الشديد بأبنائه وبتربيتهم، يحضر الكتاب، والتشجيع على القراءة.
والكتاب في بيت دهري ليس فقط مادة تثقيف وتربية للأولاد، ولا هو أيضاً لقراءاته كلما أمكنه ذلك، بل هو أيضاً رمز راق وأنيق وفريد من نوعه لحسن ضيافة الرجل الذي يقول: «كل من يزورني في بيتي أهديه كتاباً».