هناك رفيق يستيقظ معك صباحاً، وتلقي عليه التحية ليلاً، لا يتوانى عن مصاحبتك ساخناً كان أم بارداً، يقول لك أنت اخترتني وأنا بين يديك الآن، املأني كما تشاء، ولكن كن رقيقاً معي كيما أكون رفيقك دائماً!!
هذا الرفيق نحتاج إليه في بعض الأوقات نتمسك به، وقد نقدِّمه كهدية قيِّمة لأصدقائنا لكي يتذكروننا. ومع أن هذا الرفيق يصاحبنا في بيتنا وفي مكاتبنا، إلا أنه ذو خصوصية عن بقية أدواتنا التي نستخدمها طيلة اليوم، وغالباً لا نختار غيره.. هو ليس لغزاً إنما دعابة ذهنية لنفكِّر به، ولنلتفت إلى أناقته، أو لونه، أو شكله.. وعموماً، هو كوبنا الرفيق.
ماذا لو انتابك شعور ما عند رؤية أحد أصدقائك أو أقاربك يرتشف القهوة من كوبك.. هل ستغضب أم تحزن أم أنك ستكتئب! أم ستهرول مسرعاً نحوه وتعطيه كوباً آخر، أم تصمت وتقول في نفسك: لا ضير من ذلك!! هل تراه تعدياً على ممتلكاتك الخاصة بشكل مؤقت أم أنه دعابة من صديق لاستفزازك!!
من الممكن أن تطرق كل هذه المشاعر باب فكرك لمجرد أن أحدهم جاء وأخذ كوبك، الذي تعودت أن تلمسه عند كل صباح ومساء. ولابد أن نتذكر كيف كنا نصرخ ونحن صغاراً بجملة واحدة نكررها مراراً وتكراراً «لا تلمس كوبي». إذن أكوابنا عنوان شخصيتنا منذ الصغر. كيف لا، وهي الملمس الأول للتعرف إلى أدوات الطعام، فالطفل يشرب قبل أن يأكل، ومن ثم يمسك بالكوب قبل الملعقة.
حينما كنا صغاراً، كانت اختياراتنا حسب ألواننا التي نحب. وكان لنا الحق في انتقائها، أزرق كان أم أحمر، أو حتى أصفر ولنقل بنفسجياً، هي كلها ألوان تقبع في ذاكرة كل منا، وغالباً ما نختارها بعناية فائقة، إما لون نحبه ونفضله، أو شكل غريب نرسمه بداخلنا، أو مزيناً بالبالونات أو دوائر ملونة أو قطط أو رسوم كرتونية.
ظلت هذه العادة معنا حتى كبرنا وكبر معنا هذا الحب والشغف بأشياء نحملها بداخلنا، وربما أينما ذهبنا حتى في حقائب السفر. هل هذا عيبٌ فينا أم هو تشبث بعادتنا القديمة! هي أمورٌ لا يمكن تفسيرها وربما تبقى في دائرة فلسفة نفوسنا منذ الصغر.
ومع ما نتمتع به من ذائقة، صغاراً كنا أم كباراً، فإننا لا نستطيع أن نخفي وعينا في خصوصية الاختيار، أو الانتقاء كوننا نستطيع وبكل حريه أن نختار ما نحب دائماً. ولكن ما سر العلاقة في اختيار كوبك رفيقك مربعاً كان أم دائرياً، عميقاً شفافاً كان أم ملوناً، المهم أنه كوبك والأهم أنه اختيارك، وأنه ذائقتك التي تنطلق منك شخصياً من دون تدخل الآخر.
كلما كبرنا كبرت معنا عاداتنا التي تحفها الطفولة من كل جانب، فضحكاتنا واختياراتنا وألواننا نختزنها في طفولتنا ونعبِّر عنها ونحن كبار كما كنا صغاراً.
إن كينونتنا دائماً ما تقودنا إلى العالم الحسي، وتخير الأشياء التي حولنا بذكرياتنا الطفولية، وربما الخجولة منها، بنبض فكرنا الصغير والذي يتحول يوماً بعد يوم إلى عادة نستطيع أن نلمسها، وأن نقترب منها أكثر، وأن نترجمها بأحاسيس عدة.
وبهذا تتوالى الذكريات واحدة تلو الأخرى، ويبقى هذا الرفيق منتظراً في المطبخ أو على طاولة صغيرة في غرقة الجلوس أو قرب سريرك، أو بين أوراقك المبعثرة هنا وهناك. وأينما كان ومتى ما شئت، فهو حاضرٌ ينتظر أن تأخذه، وتستمتع به، هذا هو الرفيق حاله حال أشيائنا التي نحب.
على أية حال من يراجع ما يمر بحياته اليومية ربما لا يلتفت إلى أبسط الأشياء التي تحف به، وربما ينساها أو يهملها، ولكن في لحظة، أو أثناء رشفة، سيتذكر جمال الكوب الذي بين يديه وقصة اختياره، وربما لا يكون لديه أي احساس به، ولكن ربما يمر في خاطره شيء وهو يقرأ هذه السطور.