حياتنا اليوم

هل شاهدت المحرِّك؟

هل ألقى أحد نظرةً على محرك سيارة أخيراً، وشعر أنه يشاهد آلة عفى عليها الزمن؟

ما زالت المحركات، ومنها محرك السيارة، تقوم بكل ما كانت تقوم به منذ نحو قرنين من الزمن، وهي حصة كبيرة مما يمكن تصنيفه من أدوات النهضة الصناعية. وما زالت فكرة المحرك راسخة عميقة الجذور في الحضارة المعاصرة برمتها. فالمحرك، هذا الجهاز المعقَّد المكون من قطع كثيرة مختلفة الأشكال، حين يُعطى إشارة التشغيل تتحرك أجزاؤه دفعةً واحدة كجسد دبَّت فيه الحياة فجأة، لتقوم بحركات مختلفة لا يشبه بعضها البعض، ولكن ضمن عمل مترابط متجانس كي تنجز مهمة واحدة، بفعالية واختصار للوقت، كانت تأديتها في الماضي إما غير ممكنة أو تحتاج إلى مراحل عديدة وزمن طويل.

لقد كانت قدرة الإنسان على إنشاء مثل هذه الأجهزة تجسيداً لمستوى جديد من الكفاءة التي اكتسبتها عبر الكفاح مع العلم الصناعي والمعرفة الميكانيكية. وكأنه انتقل من خلاله من الأداة الثنائية الأبعاد إلى الأداة الثلاثية الأبعاد. ولا شك في أن مشهد المحرك -أي محرك- نتج منه انفعال حماسي ودهشة شديدة حين رآه الناس في المرات الأولى، وحرَّك في النفوس ما يمكن تسميته مجازاً عاطفة «التقدم .

إنه مشهد مدهش لجهاز اختلف في تكوينه وتشكيله وحركته عن أي شيء ألفه الإنسان من قبل، أكان في شكل أدوات المحرك السابقة أو حتى في حركة الإنسان أو النبات أو الحيوان. هيكل مكوَّن بشكل غير معتاد غير متواز، يساره لا يشبه يمينه، لكل جزء من أجزائه شكل لا يَدرُج بالضرورة في أية علاقة شكلية مع أي جزء آخر بل يخضع للوظيفة التي يقوم بها، ولكن المشاهد يدرك في نهاية المطاف أن كل هذه الأجزاء بوظائفها مترابطة ضمن وظيفة المحرك الأساسية كائنة ما تكون.

وربما انتقلت هذه الدهشة في إنجاز المحرك لوظيفته، إلى مجالات أخرى لتشكِّل استفادة من العبقرية الجديدة التي مثَّلها المحرك لتحقيق تغيير رئيسي ونقلة في مستوى الأداء فيها. ولا شك في أن فكرة الأجزاء المختلفة المتداخلة التي تؤدي مجتمعة وبانسجام عام وظيفة واحدة يمكن مشاهدتها في أوجه نشاط كثيرة حولنا في الحياة المعاصرة. إن من يقف أمام فرقة للموسيقى السيمفونية، وحتى من دون أن يغض «السمع عن الألحان الصادرة عنها، يرى مشهداً لمحرك بكل ما في كلمة محرك من معنى. حركة عازفي الكمان في اتجاه، ونافخي الأبواق في آخر، والطبول والدفوف، وعازف البيانو كل في دنياه. كلها تتحرك بإشارة تشغيل، وتستمر في هذه التحركات غير المتوائمة فتخرج معزوفة بديعة في تنوعها تامة في انسجامها. ومشاهد شبيهة نراها أو لا نراها على هذه الدرجة من الوضوح في عمل خط سير صناعة السيارات أو فرق إنتاج الأفلام، أو إدارة الشركات أو حتى كرة القدم.

وربما تكون أهم سمات المحرك الفكرة، أنها تُخضِع الجزء، رغم فرادة دوره، لخطة الكل في عملية التشغيل الكبرى فيكون -وكما كان يذكر أحياناً من باب الاستنكار في وصف وظيفة الفرد ضمن الفريق- عتلة في محرك كبير. ورغم أن هذه الفكرة نفسها ليست جديدة تماماً في علاقة الفرد بالجماعة، إلا أنها في المحرك وصلت إلى ذروة جديدة في الفعالية. ويعود ذلك بالدرجة الأولى إلى أن الإنسان على أبواب العصر الحديث اكتسب قدرة جديدة على تصور «كلّ أكثر تعقيداً بهذه الأجزاء المختلفة لم يكن الإنسان نفسه قادراً على جمعها في خياله لتشكل سوية هذا التشييد المدهش.

ثم، ألا يمكننا اعتبار المحرك أحد أجمل منحوتات العصر الحديث، لا في حالة السكون فقط، بل في حالة التشغيل أيضاً؟ لو لم يكن كذلك لما تجرأ بعض صانعي أرقى الساعات بطرح موديلات ذات هيكل زجاجي يمكنك من خلاله أن ترى محرك الساعة، الذي يعود إلى عصر يسبق حتى محرك الطاقة والوقود.

أما اليوم وقد غزت حياتنا الأجهزة الإلكترونية التي تحرك الأشياء بالإشارات الرقمية، هل بدأت النفس الإنسانية تنسى دهشة المحرك إلى دهشة جديدة مختلفة؟ هل تحل الفرق الافتراضية على الشاشات المسطحة، مكان الفرق الثلاثية الأبعاد، وتعرفنا على صناعة أخرى. حياة أخرى؟

أضف تعليق

التعليقات