حياتنا اليوم

أحمد سلطان
شغفٌ بالخط لا يُقهر

واجه في طفولته من المصاعب لولوج عالم فن الخط العربي ما يكفي ليفت من عضد الكثيرين، ليس أقلها رفض قبوله في مدرسة الخط سنتين متتاليتين. ولكن إصرار الفتى أحمد وكفاحه للوصول إلى ما يريده لنفسه في حياته، جعل اسمه أحمد سلطان، واحداً من ألمع الأسماء في فن الخط العربي في يومنا هذا. وها هو يروي لـ عمر مصطفى* سطوراً من سيرته الحافلة بالعطاء.
حديث الأستاذ أحمد سلطان عن الخط العربي، هو حديثٌ شغف. لا يمكنك أبداً أن تستدرجه إلى حديث خالص عن نفسه أستاذاً للخط العربي، دون أن يستدرجك هو إلى الحديث عن جمال هذا الفن، وتاريخه وخصوصيته وقادته عبر العصور.

لن يفوتك أبداً في حديثك معه، ملاحظة هذا الحبور واللمعان في عينيه عند حديثه عن واحد من المئات من تلاميذه على مدار ثلاثين عاماً من تدريس فن الخط العربي، ولن يسعك إلا الإنصات له جيداً عندما يتدفق كنهر في حديثه عن روعة خط الثُلُث، أو عن الأماكن المجهولة التي يمكنك فيها مشاهدة روائع الخط في القاهرة، أو عن شيخ عزيز من أساتذته.

قضى الأستاذ أحمد عمره الحافل معلِّماً، لا تشغله قاعات العرض عن حجرات الدراسة، وهو سعيد أيما سعادة بهذا الاختيار، ولا يزال يجد ويجتهد بتواضع طالب علم لحفظ هذا الفن لسنوات ولأجيال أخرى بعيدة، وها هو يحكي حكايته..

نبدأ من عند الشجرة
كنت طفلاً عندما كنت أجلس متأملاً أخي الأكبر، يرحمه الله، وهو يكتب. كان أزهرياً مهتماً بالفنون ومحباً للرسم، وله خط جميل مثل معظم الأزهريين في ذاك الزمن. كنت أراقبه مبهوراً أوقاتاً طويلة وهو يكتب الحروف العربية بالقلم البسط ذي السن المشطوف والحبر الأسود، دون أن أسأله شيئاً أو يعلِّمني هو شيئاً، فقط كنت أشاهد.

ثم بدأت علاقتي العملية بالخط في المدرسة الإعدادية، وكان لهذا سبب طريف جداً؛ إذ أن نسبي يتحدر من قبيلة عربية تسمى قبيلة «الترابين هاجرت من شمال اليمن إلى منطقة نويبع بخليج العقبة منذ نحو 950 عاماً، ثم نزحت إلى وادي النيل منذ 400 عام. وكان أبي مهتماً جداً بتحفيظي أنا وإخوتي أنسابنا وأسماء جدودنا، حفاظاً على علاقتنا بهذا النسب وهذا الأصل، وكان يسعدني جداً وأنا طفل ذاك الشعور بالامتداد في الزمن.

شغلت بالي وثيقة شجرة العائلة وكيف أن الكثير مما أعلمه قد طرأ عليها دون توثيق. فقررت كتابة شجرة جديدة للعائلة، ولكني اكتشفت أن قبح خطي وضع شجرتي في مهب الريح.

كان أخي الأكبر قد توفاه الله، ولا يوجد حولي من يعلمني الكتابة بخط جميل، ولم أكن أعلم لهذا طريقاً واضحاً، فهداني تفكيري إلى تعلم الآلة الكاتبة، ولكنني سرعان ما تراجعت بعد اكتشافي مدى صغر حروفها وفقرها مقارنة بتلك الخطوط الجميلة المكتوبة بخط اليد.

على سلم التأهيل
«كان هذا في أوائل الستينيات عندما علمت بوجود مدارس لتعليم الخط، فتقدمت لإحداها ممتحناً، وفشلت فشلاً ذريعاً في اختبار القبول الذي كان يفترض في المتقدمين إليه قدراً من المعرفة بالقواعد. وقد وبخني بشدة المدرس الذي اختبرني، وكان من فئة الخطاطين الحرفيين الذين لم يتلقوا تعليماً إلزامياً ويمتهنون الخط. لم أفهم وقتئذ سبب هذا التوبيخ ولا ذاك الفشل، ولكن ذلك لم يكن كافياً للتخلي عن مشروعي.

في العام التالي، تقدمت إلى الاختبار نفسه، فحظيت بالنتيجة المؤسفة ذاتها مع مزيد من التوبيخ من المدرس نفسه، فلم أيأس رغم إحباطي، وفهمت أنه لكي التحق بالمدرسة أحتاج أولاً إلى تعلم أصول الخط، وهو ما نجحت فيه بعد جهد جهيد على يد خطاط حرفي آخر. وفي العام الثالث تقدمت للاختبار نفسه وكنت أول المقبولين، ونسيت شجرة العائلة إلى اليوم وبدأت رحلتي مع الخط العربي.

خطوط على طريق الأستاذ
كانت دراستي الجامعية في الحقوق، التي لم أمارسها أبداً ولم ألتحق يوماً بنقابة المحامين. إذ دفعتني معاناتي في تعلم الخط العربي على مدى سنوات، إلى تدريس الخط العربي، مجتهداً في تجنيب تلاميذي تلك المعاناة التي تعرضت لها.

وفي السبعينيات عملت مدرساً للخط في عدد من مدارس الخط بالقاهرة، ثم أنشأت مدرسة حكومية للخط العربي سميتها «ابن مقلة وكانت الأولى من نوعها في مصر التي تحمل اسم أحد أساتذة الخط، عكس باقي المدارس والتي كانت تحمل أسماءً مثل «مدرسة تحسين الخطوط .

وفي أوائل الثمانينيات رُشحت لتدريس الخط العربي بقسم اللغة العربية في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وكان أول من شغل تلك الوظيفة قبلي خطاط مصري كبير اسمه سيد إبراهيم، وظل كرسيه بالجامعة الأمريكية شاغراً بعد وفاته سبع سنوات حتى حظيت أنا بشرف الجلوس عليه حتى اليوم.

بدأت في الجامعة الأمريكية في القاهرة مشواراً طويلاً في تدريس الخط العربي لمئات الطلبة من المصريين والعرب والأجانب، ممن شاركني بعضهم بأعماله الخاصة في معارضي القليلة التي أقمتها أستاذاً للخط. هذا إلى جانب أعمالي الفنية كتصميم شعار الجامعة الذي يستخدم إلى اليوم، وتصميم عدد من أغلفة الكتب التي تنشرها الجامعة.

كان أكثر ما يشغلني هو إيصال الخط العربي إلى كل من يحبه، فكان التدريس بالنسبة لي أولوية شخصية واختياراً أعتز به، فقد درَّست كل الأعمار من الأطفال وحتى العجائز، درَّست لرجال ونساء، لعرب وأجانب، واكتشفت أن ما من مانع أبداً لتعليم الخط لأي شخص، طالما توافر لديه حب حقيقي للخط وصبر على التدرب والممارسة. وقد تراكمت لديّ اليوم خبرة طويلة في التدريس ووضع المناهج، أدعو الله أن يساعدني في طباعتها في كتاب يفيد الأساتذة والدارسين معاً.

على جدار المكتبة
ويتحدث الأستاذ أحمد عمَّا يراه أهم أعماله على الإطلاق، فيقول: «عندما بدأ د. ممدوح حمزة، المعماري المصري الكبير، في تنفيذ مبنى مكتبة الإسكندرية منذ بضع سنوات، اكتشف أن تصميم الجدارية الضخمة التي عليها أبجديات من كل العالم يخلو من أية أبجديات عربية، فانزعج الرجل بشدة واتصل بي، وكان لي عظيم الشرف بالمشاركة في هذا العمل الخالد، بتصميم الأبجدية العربية وإضافتها مع أبجديات أخرى غير عربية بحكم اهتمامي وتنوع مصادري. وأعد هذا العمل من أهم ما قمت به طول حياتي المهنية.

بمساعدة ابني الصغير محمد ذي الستة عشر عاماً والذي يسبقني كثيراً في كل ما يتعلق بالكمبيوتر؛ أنشأت موقعاً على الإنترنت سميته «موسوعة الخط العربي ، أنشر عليها كل ما أمتلكه أو أصل إليه من مراجع للخط العربي مما لا يوجد في أي موقع آخر على الإنترنت، وأرد على أسئلة الناس، وأقدم معلومات عن الخطاطين في الوطن العربي وخارجه، وأنشر أعمالاً لأساتذة الخط العربي الكبار، وأحاول تقديم المواهب غير الظاهرة مثل رسَّام مصري يعمل بالإعلانات كتب حوالي 7200 نموذجاً للفظ الجلالة بطرق مختلفة، كذلك أنشر كل ما يتعلق بالخط العربي من أخبار وأحداث وغيرها.

ولم يكن يدور بذهني قبل إنشاء هذا الموقع أن أضع به كل تلك المادة، لا سيما مع حداثة عهدي بتلك التقنية، ولكن الحاجة أم الاختراع .

أحلام لا تنتهي
ويختتم الأستاذ حديثه عن أحلامه فيقول: «إنها لا تنتهي، فأنا أحلم مثلاً بهيئة أكاديمية عربية تكون مرجعاً لكن من يريد دراسة الخط العربي أو السؤال عن تطبيقه في مناحي الحياة كافة، بعيداً عن المجهودات الفردية المحدودة، وأن يأخذ الخط العربي مكانة تليق به في المدارس العامة وفي مدارس الخط التي تنقرض وتتدهور منذ سنوات طويلة. أحلم بأن تعود للخطاط مكانته ودوره، وأن يوفقني الله في نشر مجموعة الكتب التي ألفتها مثل كتاب عن خط الثُلُث الذي أعشقه، وكتاب لمناهج تعليم الخط العربي .

أضف تعليق

التعليقات