حياتنا اليوم

دور البشر
في حياة الأفكار

  • Fiber Optic Strands
  • Wind Turbines
  • Man in Clean Room
  • Corn-On-The-Cob
  • Machine Unloads Harvested Processing Tomatoes
  • Injecting Tomato
  • Robot Operating Futuristic Computer
  • French Surgeon Removes Gall Bladder Through Remote Control
  • Woman Using Virtual Reality Program
  • 65c
  • Camper Hold GPS Device
  • 66a
  • 66b
  • Tourist Using Digital Camera at Coast
  • GPS on Lake
  • Statue
  • 60a

لماذا نتقبَّل بعضها ونرفض البعض الآخر
ما بين البشر والأفكار تأثير متبادل. فالأفكار تؤثر في حياة البشر حين تدخلها، إذ تغيِّر الطريقة التي يترتب بها محيطهم والطريقة التي ينظرون من خلالها إلى هذا المحيط ويتفاعلون معه. وفي المقابل يؤثر البشر في حياة الأفكار. فهم الوسيط الذي يروِّج لها ويتبناها ويرفضها، إضافة إلى أن عقولهم هي الآلة التي تبدعها، وأفعالهم هي الوسيلة التي تضعها موضع التنفيذ.
وإذا كان دور الأفكار في حياة البشر معروفاً معرفة كافية، فالنادر أن يلقى دور البشر في حياة الأفكار الضوء الذي يستحقه. وهذا ما تتناوله ليلى أمل هنا.
لو نظرنا إلى العلاقة بين البشر والأفكار عبر مراحل كثيرة من تاريخ طرفيها، لوجدناها تختلف في الاتجاه الذي يسير فيه القدر الأكبر من التأثير. ويكون ذلك محكوماً بالثقل النسبي الذي يملكه أحد الطرفين في ميزان الآخر، والطرف الأثقل يكون هو صاحب التأثير الأكبر، والأسهم الأغلى في هذه العلاقة.

وعلى مدى عقود طويلة كانت الأفكار هي صاحبة الثقل الأكبر، والتأثير الأوضح. لكن عصرنا الحاضر بخصائصه ومفرداته المختلفة، حمل الكثير من التغيير إلى ملامح تلك العلاقة، وحرك نقطة التوازن بها أميالاً لصالح البشر.

إلامَ تحتاج الفكرة من البشر
وسط تضخم حجم المعلومات؟
«الإكسابايت هي وحدة لقياس المعلومات تساوي بليون جيجا بايت، وهي ما يعادل حجم المعلومات التي يمكن أن تحتويها سبعة آلاف مكتبة بحجم مكتبة الكونجرس الأمريكي، أضخم مكتبة في العالم. إذن ماهي المعلومات التي يعادل حجمها خمسة إكسابايت؟ هي بالطبع المعلومات التي يمكن أن تحتويها 35 ألف مكتبة بحجم مكتبة الكونجرس، وهي أيضاً كل الكلمات التي تكلمها البشر منذ وجودهم على الأرض. وهي في النهاية تلك المعلومات الجديدة التي تنتج كل سنة منذ بداية الألفية الجديدة.

عصر المعلومات؟ هذا ما نعرفه عن العصر الذي نعيشه الآن. لكن هناك من يرى أن عصرنا هو عصر كل المعلومات استناداً إلى النتيجة التي توصل إليها فريق بحث من كلية إدارة المعلومات بجامعة كالفورنيا الأمريكية في دراسة شملت كل الصور التي تُنتج بواسطتها المعلومات سواء أكانت مطبوعة على الورق، أو مخزنة على وسائط إلكترونية، أو على الإنترنت. وسواء أكانت مقروءة أو مسموعة أو مرئية، وذلك للإجابة عن سؤال: ما مقدار المعلومات الجديدة التي يتم إنتاجها سنوياً؟.

وكما نعرف فإن المعلومات لا تأتي وحدها. إذ إن المعلومات هي المادة الخام للأفكار، وحين يصبح هذا المقدار الهائل من المعلومات متوافراً أمام عدد متزايد من البشر، تزداد السرعة التي تتولد بها الأفكار. إن وفرة المعلومات هي في جزء منها وفرة في أساليب الاتصال التي تنتقل خلالها، والتي توفر بدورها وسيلة فعالة لعرض تلك الأفكار، ونشرها على مساحات واسعة وبين أكبر عدد ممكن من البشر.

لكن وفرة المعلومات يمكنها أن تشكِّل تهديداً خطراً على الأفكار، وبالقدر نفسه الذي يمكنها أن تشكِّل دعماً هائلاً لها. فقد أثبتت التجربة الإنسانية خلال العقود القليلة الماضية، صدق ما توقعه عالم الاجتماع والمفكر الأمريكي هربرت سايمون حين تحدث عن الخصائص السلبية لبيئة شديدة الغنى بالمعلومات. فهذه الوفرة المفرطة في المعلومات والأفكار التي تنتجها هذه المعلومات، لابد وأن يقابلها نقص في شيء آخر، وبالتحديد في الشيء الذي تستهلكه هذه الوفرة نفسها. وهو ما عرفه سايمون بأنه انتباه من يتلقاها.

أي أن هذه الوفرة الهائلة في الأفكار، أوجدت بيئة تتسم بالتنافس الشديد بينها، هو في الأساس تنافس على انتباه البشر لها. وأصبح الحد الفاصل في حياة الفكرة واستمرارها هو مقدار الانتباه الذي تحصل عليه، وهو ما أدى إلى أن يصبح التأثير الذي يحدثه البشر في حياة الأفكار، هو التأثير الأكثر وضوحاً والأعلى صوتاً.

تواجه الأفكار الجديدة تحدياً صعباً حين تخرج إلى الحياة لأول مرة، يكون فيه اختلافها، رغم كونه العامل الذي يحمل الكثير من جاذبيتها، هو العامل الذي يهدد احتمال نجاحها واستمراها. فالأفكار الجديدة التي تدخل إلى حياتنا قدراً كبيراً وملحوظاً من التغيير، يتطلب تبنيها قراراً واعياً، متقبلاً لهذا التغيير، وأحياناً مندفعاً إليه. وبالتالي تحتاج الفكرة الجديدة إلى جذب أكبر قدر من الانتباه، لأن هذا الانتباه شرط أساسي وخطوة أولى ضرورية في قبولها واعتمادها لدى متلقيها.

لماذا يعير البشر الانتباه؟
نستطيع أن نعرف الإجابة عن هذا السؤال إذا تتبعنا ما تقوله دراسات علماءالنفس وعلماءالاجتماع وخبراء التسويق والاقتصاد، الذين يرون أننا نعير أكبر قدر من الانتباه للأشياء التي تمس الحاجة الأصيلة في التكوين الإنساني. هذه الحاجة التي تنتمي في مجملها إلى ثلاثة أنواع: الحاجة إلى المعرفة، والحاجة إلى الفعل، والحاجة إلى العلاقات الاجتماعية مع آخرين.

وعلى الرغم من وجود هذه الأنواع الثلاثة من الحاجة لدى كل البشر، إلا أن وجودها يتفاوت في حجمه بينهم، نتيجة طبيعية للتنوع الهائل في شخصيتهم وسلوكهم وخلفيتهم الثقافية والاجتماعية. ولهذا نجد واحدة منها تحتل مقعد القيادة، وتكون هي الدافع الأول الذي يحرك انتباه صاحبه، ويصبغ رؤيته للأفكار التي يجدها من حوله.

ونتيجة لاختلاف البشر في أنواع انتباههم الأساسي، فإن الأفكار التي تجذب انتباههم تختلف كذلك، تبعاً للخصائص المميزة لكل نوع من أنواع الانتباه. فالانتباه الذي تحركه المعرفة، تجذبه الأفكار المنطقية التي تطلبت جهداً عقلياً في بنائها، ولهذا نجد أن صاحبه يقيس جاذبية الأفكار بمدى جودتها، وجدواها في إنجاز المهام التي نشأت كي تؤديها. وهو يولي عناية خاصة للأفكار التي تفتح له بدورها أبواباً لمعرفة عوالم جديدة غير تلك التي اعتادها.

والانتباه الذي يحركه الفعل، تجذبه الأفكار الجريئة التي تكون وسائط للحركة والتغيير، ونوافذ يطلق عبرها صاحب هذا النوع من الانتباه حماسه وشغفه وقدرته الهائلة على التأثير والإقناع.

والانتباه الذي تحركه العلاقات الاجتماعية، تجذبه الأفكار التي تربط صاحبه بالآخرين وبالعالم. والتي يستطيع من خلالها أن يظهر ملامحه الشخصية ويوضح ذوقه وتفضيله الخاص، والتي يتقاسمها مع الآخرين داخل دائرته الاجتماعية الواسعة.

التسويق والإعلان: إلى انتباه معين
وحين ننظر للأفكار التي استطاعت أن تجد لنفسها مكاناً ثابتاً في حياة قطاعات واسعة من البشر، نجد أنها نجحت في ذلك، لأنها تمتلك ماتجذب به هذه الأنواع الثلاثة من الانتباه. ففكرة البريد الإلكتروني على سبيل المثال، تطبيق تكنولوجي عملي شديد الفعالية والكفاءة، من حيث سرعته، وكونه سهلاً ومتاحاً في كل وقت. وأداة مهمة للتأثير ولتوصيل فكرة ما لعدد كبير من الناس بكبسة زر فقط. وهو كذلك طريقة للبقاء على اتصال مع الأهل والأصدقاء وتبادل الحديث والأخبار حتى مع بعد المسافة، وازدحام جدول المهام اليومية.

وعلى مستوى آخر، نجد أن المنتجات التي أحرزت نجاحاً تجارياً كبيراً وتفوقت على مثيلاتها، كان خلف نجاحها حملات إعلانية خاطبت بتركيز وكثافة، واحداً من المفاتيح الثلاثة التي تتحكم في أبواب الانتباه. فرغم الدراسات الكثيرة التي تناولت هذا الأمر، إلا أن الواقع يقول إن لا أحد يعرف عن الانتباه أكثر مما يعرفه خبراءالدعاية والإعلان. وإننا نستطيع أن نفهم الكثير عنه ، لو تابعنا بدقة الرسائل التي تبثها إعلانات التلفزيون خلال فاصل إعلاني واحد يتخلل برنامجنا التلفزيوني المفضَّل.

هناك الرسائل التي تخاطب المعرفة، ونجدها في الإعلانات التي توضح الدور الذي تلعبه منتجاتها في إطلاعنا على مقدار أكبر من المعلومات، سواء أكانت تلك المنتجات مطبوعات أو قنوات إخبارية أو وسائل اتصال أو الإعلانات التي تسند تفوق منتجاتها إلى نتائج أساس معرفي قوي توصلت إليه الدراسات العلمية، هذه الكلمة التي لها ثقل كبير في إثارة هذا النوع من الانتباه. كذلك نشاهد إعلانات شركة عالمية لأغذية الأطفال، تخبرنا أنها تعد منتجاتها وتطورها تبعاً لنتائج الأبحاث العلمية التي توصل إليها خبراء الأغذية في معاملها.

كما نجد الرسائل التي تخاطب الرغبة في الفعل، في الإعلانات التي تقدم منتجاتها بصفتها رموز الحياة العصرية التي تضج بالحركة والصخب، أو تربط امتلاكها بامتلاك قدر أكبر من الطاقة والقدرة على الفعل. وهو ما نجده في إعلانات السيارات، والملابس الرياضية، والمشروبات، التي اشتهر واحد منها بسبب إعلاناته التي يخرج فيها بطل الإعلان دائماً من مآزق ومواقف صعبة ومحرجة، بفضل الأجنحة التي يعطيها إياه ذلك المشروب.

أما النوع الأخير من الرسائل فنراه حين تعرض الإعلانات منتجاتها ضمن الملامح الثابتة في علاقة اجتماعية فيها الكثير من الود والألفة والتناغم. فأحياناً تكون السلعة هي الرابط الذي تجتمع حوله العائلة في أوقاتها السعيدة، وأحياناً يكون الرابط الذي يتقاسم الاهتمام به عدد من الأصدقاء، أو قد يتسع هذا النطاق ليشمل البشر في العالم كله، أو في مجموعة كبيرة من الدول يخدمها هذا المنتج. كما فعلت شركة اتصالات عربية في حملة إعلانية تجمع بين الذكاء التجاري، والحس الإنساني العالي، لتقدم نفسها رابطاً يجمع عدداً كبيراً من البشر، يبقيهم على اتصال، ويعزِّز القيم التي يتقاسمونها جميعهاً على اختلاف لهجاتهم وألوان بشرتهم.

حياة الفكرة واستمراريتها
من النتائج المهمة التي أحدثتها وفرة الأفكار، هي أنها غيَّرت الاعتقاد السائد بأن نجاح الفكرة في جذب الانتباه في بداية ظهورها، كاف ليضمن لها قدرتها على الاستمرار ونجاحها على المدى الطويل. فكما تواجه الفكرة الجديدة منافسة عالية في مراحلها الأولى، فإنها تواجه مثلها في المراحل التالية من عمرها. والبداية القوية، لم تعد تعني أن النجاح أصبح مسألة وقت فقط. ولكي نفهم هذا الفارق بين القدرة على النجاح الأول، والقدرة على الاستمرار، علينا أن نعرف كيف تحيا الفكرة بعد ميلادها، وكيف يتعامل معها البشر خلال مراحل عمرها المختلفة.

في عام 1943م قدَّم الباحثان الاجتماعيان بروس رايان ونيل جروس دراسة عن الطريقة التي انتشرت بها فكرة زراعة نوع جديد من حبوب الذرة بين مزارعي إحدى مقاطعات ولاية أيوا الأمريكية. وعلى الرغم من أن هذا النوع من الحبوب كان متميزاً عن الأنواع الأخرى التي يستخدمها المزارعون منذ عقود، إلا أن استخدامه لم ينتشر فوراً بين مزارعي المقاطعة. ففي الموسم الأول، لم يقدم على زراعة النوع الجديد إلا عدد قليل من المزارعين يعد على أصابع اليدين. وفي الموسم التالي، قرر 16 مزارعاً آخرين أن يجربوا زراعة النوع الجديد. ثم انضم إليهم 21 مزارعاً، ثم 36 مزارعاً في الموسم الذي يليه. وعلى مدار المواسم التالية التي سجلتها الدراسة كان عدد المزارعين الجدد الذين يتحولون لزراعة النوع الجديد من الذرة هو 61، ثم 46، ثم 36، ثم 14، ثم 3. وفي العام الأخير لم يبق إلا اثنين من مزارعي المقاطعة يستخدمان الحبوب المعتادة، أما باقي المزارعين البالغ عددهم 259 فقد تحولوا لزراعة حبوب الذرة الجديدة في أرضهم.

احتاج الأمر في بدايته إلى هؤلاء المغامرين الذين قرروا زراعة الحبوب الجديدة على سبيل التجربة. لم يفكِّر هؤلاء في أن هناك من يقول إن الحبوب الجديدة أفضل من تلك التي اعتادوا زراعتها منذ زمن، ولكنهم لن يعرفوا إن كان ذلك صحيحاً أم لا إلا إذا جربوها بأنفسهم في حقولهم، ومن هنا أخذوا القرار الذي يقول: «إذن فلنجربها الآن . هناك بعض المخاطرة في هذه التجربة، لكن المكسب الذي سيحصلون عليه إن كانت الحبوب الجديدة أفضل من المعتادة، سيكون مكسباً مضاعفاً. إذ إن محصولهم في هذا الموسم لن يكون أفضل من سابقه فقط، لكنه سيكون أيضاً أفضل من كل المزارعين الآخرين. وبعد أن نجح الأمر معهم، تقدمت الحبوب الجديدة خطوة أخرى حين لفتت تلك النتيجة نظر مجموعة أخرى من المزارعين لاحظوا تفوق الحبوب الجديدة، واقتنعوا بزراعتها. وهؤلاء، وإن لم يكن تفكيرهم مغامراً كفاية ليكونوا أول من يزرعها، إلا أن هذا التفكير كان مرناً كفاية ليقرر ترك الشيء الذي اعتادوه وتقبل الجديد وتبنيه ما دامت احتمالات نجاحه عالية. ولو أننا مثَّلنا انتشار الحبوب الجديدة بيانياً، سنجد أنه قد تبع منحنى بدأ ببطء حين تبنته المجموعة الأولى، ثم ارتفع تدريجياً حين انضم إليهم مزارعو المجموعة الثانية.

إلا أن المنحنى لم يرتفع ارتفاعاً ملحوظاً ومؤثراً إلا حين انضمت إليه كثرة المزارعين خلال المواسم التالية. فقد فضَّل بعض هؤلاء الانتظار حتى تثبت التجربة نجاحها مع من جربوها قبلهم، وحتى يتيقنوا من أن الأمر حقيقي، وأنه لم يحدث نتيجة ظروف معينة، أو نتيجة مصادفة جيدة. وكان بعضهم أكثر تحفظاً، وفضل الانتظار أكثر حتى يصبح استخدام هذا النوع من الحبوب هو الأمر السائد والمألوف في المقاطعة. بعد ما بلغ المنحنى لأعلى نقاط ارتفاعه،كانت المقاطعة كلها قد انتقلت إلى زراعة الحبوب الجديدة، عدا تلك الشريحة التي تكره فكرة التغيير في ذاتها، ولا تجد سبباً مقنعاً كفاية لأن تترك الحبوب القديمة التي اعتادت زرعاتها سنوات وسنوات.

بعد ما نشر رايان وجروس دراستهما، لفت النموذج الذي قدمته الدراسة انتباه عدد من الباحثين في الاجتماع والسياسة والاقتصاد والتسويق.إذ وجدوا فيه تمثيلاً دقيقاً للمراحل التي تمر بها الفكرة الجديدة في رحلة حياتها، التي تتحدد كل مرحلة منها على أساس طبيعة الشريحة التي تتبناها من البشر المتلقين لها. فكل فكرة جديدة تحتاج إلى قلة مغامرة تقدم على تجربتها أول مرة. وتحتاج لمن يتقبلها بمرونة حين يرى الإشارات الأولى لنجاحها. وتحتاج أن تدعمها بعد ذلك كثرة تعطيها ثقتها وتثبت أقدامها في الأرض، كي تنتقل من كونها مجرد فكرة أخرى جديدة إلى كونها فكرة جديدة ناجحة. وهي مع ذلك ستجد دوماً من يعزف عن تبنيها، وأحياناً يعارضها، رغم نجاحها مع البقية.

خمس فئات من البشر
في التعامل مع الفكرة الجديدة
كان أحد أهم من التفتوا إلى النموذج الذي طرحه رايان وجروس، خبير الإدارة وتسويق التكنولوجيا الأمريكي جيوفري مور، الذي حوَّل هذا النموذج إلى أداة دقيقة وفعالة لدراسة عوامل نجاح المنتجات التكنولوجية الجديدة، تبعاً للمراحل التي تتفاعل فيها مع متلقيها على اختلاف طبيعتهم. إذ يمر أي نتاج تكنولوجي في رحلة عمره بخمس فئات من البشر أو المستهلكين، لكل فئة خصائصها الاجتماعية والثقافية التي تميزها، وتحكم الطريقة التي تتعامل بها مع التكنولوجيا الجديدة.

الفئة الأولى هي فئة المجددين، وهم الذين تحتل التكنولوجيا مكاناً مهماً ومركزياً في حياتهم بغض النظر عن الدور الذي تؤديه هذه التكنولوجيا. فالتكنولوجيا شيء له سحر خاص عندهم، ولذلك فإنهم يبحثون عنها، ويتتبعونها، ويقدِّرون فيها ما لا يقدره البقية. وحين تظهر تكنولوجيا جديدة على نطاق ضيق، تجدها لديهم قبل طرحها رسمياً في سوقها، وبدعاية مكثفة. وشراؤهم لها شيء لا يخضع لقائمة من المميزات والعيبوب، بقدر ما يخضع للإعجاب بفكرة التطور التي تمثلها، ومتعة استكشاف الخصائص الجديدة التي تحملها إليهم.

الفئة الثانية تضم أصحاب الرؤية البعيدة. ومثل الفئة الأولى، يتبنى هؤلاء النتاج الجديد في مرحلة متقدمة من طرحه في السوق، لكن دوافعهم لذلك تكون مختلفة. سحر التكنولوجيا وحده لا يكفيهم كي يتخذوا هذا القرار، لكن لديهم طريقة التفكير التي تجعلهم يتفهمون ويتقبلون ويقدرون بسهولة ما تقدمه هذه التكنولوجيا الجديدة ثم يجدون بكثير من الحدس والرؤية، رابطاً يربطها باهتماماتهم الأصلية. وحين يظهر هذا الرابط، فإنهم يتخذون قرار الشراء.

تنتمي هاتان المجموعتان إلى «النخبة التكنولوجية ، التي لديها دراية كبيرة بهذا العالم تجعلها أول من يعرف بكل جديد فيه، وتمكنها من تقدير هذا الجديد، ورؤية الاحتمالات الواعدة التي يحملها. هذه النخبة هي الشريحة الأولى من المستهلكين .. الخطوة الأولى في طريق التسويق. وإقبالهم على نتاج معين، هو الإشارة الأولى لكون هذا النتاج شيئاً جيداً يستحق الانتباه، ويستحق النجاح.

تأتي بعد ذلك الكثرة البعيدة عن مركز التكنولوجيا، وهي الفئات الباقية. فالفئة الثالثة هي التي تفكر في التكنولوجيا بطريقة عملية خالصة، وبعين متفحصة وناقدة، ترى دوماً احتمال أن تكون هذه التكنولوجيا الجديدة مجرد موجة رائجة ستنتهي سريعاً، ولن تترك أثراً، وبالتالي فإن الناس من هذه الفئة يحتاجون إلى «تزكية مصادر موثوقة للنتاج الجديد، ويحتاجون أيضاً أن يروا نتائج مادية ملموسة حققها هذا النتاج حين استخدمه غيرهم، قبل أن يقبلوا هم على شرائه واستخدامه.

والفئة الرابعة هي التي تقيِّم التكنولوجيا تبعاً لفائدتها العملية لها، لكنها لا تقبل على شرائها فور اقتناعها بكونها مفيدة. هذه الفئة تحتاج إلى خطوة أعلى: الاقتناع بكونها مطلوبة وضرورية. فقبل شراء نتاج معين، عليهم الانتظار والتيقن من كونه قد أصبح نتاجاً رائجاً. وحتى بعد أن يتخذوا قرار الشراء، فإنهم يتصرفون بدرجة عالية من الحذر، ويلجأون دائماً إلى الشركات الكبرى المعروفة، للحصول على أكبر قدر ممكن من الضمان.

وفي النهاية تأتي الفئة الأخيرة وهم المشككون. تلك الفئة التي لا تهمها التكنولوجيا بأي حال لأسباب عديدة، بعضها شخصياً وبعضها اقتصادياً. ويشككون دوماً في فائدتها لهم، حتى لو ثبتت فائدتها للجميع. هذه الفئة التي لا ترى في الهاتف المحمول سوى وسيلة إزعاج مروعة، ولا ترى في الكتب الإلكترونية، سوى خطراً يهدد المعرفة التي يجب أن تطبع على الورق.

تمثل الأغلبية نسبة %84 من حجم السوق، ويعطيها هذا ثقلها الكبير في ميزان النتاج الجديد. لكن تأثيرها لا يكمن في هذا الثقل العددي وحده. فالكثرة هي التي تعطي النتاج «شرعيته ، وتثبت أقدامه في السوق، وتنقله من خانة النتاج الجديد، إلى خانة النتاج المهم الذي يحتاجه الكثيرون ويعتمدون عليه في حياتهم بصورة مكثفة ويومية. ومن دون دعم الأغلبية، يصبح هذا النتاج موجة وقتية تنتهي فور أن تخفت الدهشة الأولى لاستقبالها عند النخبة.

انتباه النخبة لم يعد يكفي
حين يحصل النتاج الجديد على انتباه النخبة، يكون خطا أولى الخطوات على طريق نجاحه، لكن هذا لا يعني أن هذا النجاح أصبح مضموناً. فحصول نتاج معين على انتباه النخبة، لا يعني بالضرورة حصوله على انتباه الكثرة، إذ إن كلا الفئتين ينظر إلى التكنولوجيا نظرة مختلفة، وتدفعهما لتبنيها أسباب مختلفة. ولهذا يرى خبراء تطوير التكنولوجيا وتسويقها أن المنتجات التكنولوجية الناجحة، هي تلك التي تستطيع أن تحقق التوازن بين اهتمام النخبة، واهتمام الكثرة بها.

هذا التوازن هو الذي اعتمد عليه نجاح واحد من أكثر المنتجات التكنولوجية شهرة وانتشاراً اليوم: الآي بود. فحين ظهر أول مرة، لفت الآي بود انتباه النخبة بتصميمه الذي يقدم معنى مختلفاً لتكنولوجيا عالية المستوى، تعتمد البساطة مبدأ مهماً فيها. كان الآي بود في أول عهده نتاجاً نخبوياً بكل المقاييس، لا سيما وأنه يحمل توقيع شركة «آبل العملاقة التي يراها مستخدمو التكنولوجيا شركة نخبوية. وبعد ما فاز الآي بود بثقة هذه الشريحة بطرزه الأولى، اتجه بطرزه اللاحقة نحو الكثرة، وأعاد تشكيل صورته ليتحول من قطعة أنيقة من التكنولوجيا، إلى قطعة عملية من مستلزمات الحياة اليومية. فأصبح تصميمه أكثر عصرية، وطُرح في أشكال وألوان وسعات تخزين مختلفة، ليختار كل مستهلك ما يناسبه، تبعاً لذوقه ونمط حياته والطريقة التي يفضل أن يطالع بها أفلامه وصوره وموسيقاه.

وإذا كانت هذه النظرة الواعية إلى دور الشرائح المختلفة من البشر، قد منحت «الآي بود المركز الأول في سوق أجهزة الموسيقى الرقمية الشخصية، فإن دورها حيال منتجات إلكترونية أخرى يتعدى دور حسم مركز الصدارة في سوقها، ليصل إلى نجاح الفكرة التي تقوم عليها هذه المنتجات من الأساس. وهذا ما سنراه لو ألقينا نظرة على فكرة تكنولوجية تحاول النجاح هذه الأيام، وهي الكتب الإلكترونية. هذه الفكرة التي لم تتحرك إلى المساحة التي تصبح فيها مكوناً من حياتنا اليومية رغم الوعود الكبيرة التي يقطعها مناصروها. لكن مراقبي هذه السوق يتوقعون أن تقفز الكتب الإلكترونية قفزة هائلة بعد ما قدمت شركة أمازون نتاجها الجديد لقراءة الكتب الإلكترونية، «كيندل وهو اسم هذا الجهاز، الذي أحرز مبيعات كبيرة في الأشهر الأول من طرحه، وكسب الكثير من المؤيدين، إلى حد جعل الكثيرين يؤكدون أنه سيصبح الجهاز الأهم خلال المرحلة القليلة القادمة. فبماذا اختلف كيندل عن أجهزة القراءة الإلكترونية الأخرى ؟ والجواب: أنه لم يقدِّم نفسه للسوق على أساس كونه ابتكاراً تكنولوجياً مبهراً وحديثاً كما قدمت الأجهزة الأخرى نفسها في السوق، ولكن الصورة التي رسمها لنفسه كانت أنه وسيلة مختلفة لقراءة الكتب. أولاً ظهر في السوق عبر «أمازون عملاق التجارة عبر الإنترنت، الذي تحتل الكتب والمطبوعات واحداً من أكبر أقسامه وأهم بضائعه. أي أنه قدَّم نفسه لمستهلكين هم في الأساس الجمهور القارئ، على عكس الأجهزة الأخرى التي طرحتها في السوق شركات تكنولوجية شهيرة، تخاطب جمهوراً مؤلفاً في الأساس من متتبعي التكنولجيا الحديثة والمعجبين بها. وبالتالي، لم يتوجه كيندل إلى مخاطبة جمهور نخبوي، وإنما وسع قاعدته ليصل إلى الكثرة. كذلك راعى في تصميمه قيمة «العملانية أكثر من قيمة الأناقة والعصرية، فخرج بلون أبيض وبأزرار بارزة وبتصميم بعيد تماماً عن التصاميم التي خرجت بها الأجهزة الأخرى والتي تراعي الصورة النمطية للأجهزة الحديثة: أحجام صغيرة، وسمك قليل، وألوان معدنية مصقولة.هذه العملية والسهولة الكبيرة في الاستخدام، ستجعل دخول الجهاز الجديد حياتنا شيئاً لا يتطلب الكثير من الجهد والتعلم، وبالتالي سيكون الطريق أمامه ممهداً لدخول حياة أكبر عدد ممكن من البشر، لا بصفته ابتكار تكنولوجي مبهر سيغير مستقبل القراءة والكتاب المطبوع، وإنما كوسيلة مختلفة لقراءة ما اعتدنا عليه، بوسيلة جديدة ترتكز على التكنولوجيا. وهي الرسالة التي أكدها جيف بيزوس المدير التنفيذي لأمازون في المؤتمر الصحفي الذي طرحت فيه الشركة نتاجها أول مرة، حين قال إن شركته لا تريد لنتاجها أن يكون بديلاً من الكتاب المطبوع، لكنها تريد أن تستخدمه لخدمة القراءة في المساحة التي لا يستطيع الكتاب المطبوع أن يذهب إليها.

وكما يسير الأمر مع المنتجات التكنولوجية، يسير مع غيرها من الأفكار الجديدة التي نقابلها في حياتنا. في عالم الأدب على سبيل المثال، لو عددنا أن كل عمل أدبي يظهر على الساحة، هو نتاج ثقافي جديد، نجد أن حياته تتبع نفس النموذج. وأنه يظل نتاجاً نخبوياً لا يتجاوز محافل المتخصصين، إن لم يجد فيه القارئ المثقف ثقافة عادية بعيدة عن التخصص، أدباً جذاباً يمس عقله وروحه، يتحدث بلغة يستطيع أن يفهمها، ويعبر عن عوالم تتقاطع مع عالمه. ولو نظرنا إلى صناعة الأزياء، سنجد الكثير من «الصرعات التي تنطلق فجأة بين نجوم السينما أو لاعبي الكرة، وسنجد مثلها ما ينتشر بين مجموعات من المراهقين، لكنها تختفي من الوجود بعد حياة قصيرة. بينما تنجح تلك الأفكار الجديدة التي تنبع من ثقافة المجتمع، وتراعي ذوقه العام، وخصائصه، وحتى ميوله في الخامات والألوان.

فلكي تنجح الأفكار، فإنها تحتاج إلى أن ينتبه إليها البشر. كما أنها تحتاج القادر على رؤية جاذبيتها والتحمس لها. وتحتاج أيضاً إلى من يقتنع بصفتها العملية ويسمح لها بأن تدخل حياته وتكون جزءاً طبيعياً منها. بعبارة أخرى، إنها تحتاج إلى بشر يكتبون قصة حياتها، فيفسحوا لها المجال لتغير بدورها حياتهم، ليصبح التاريخ الإنساني في إيجازه وتفصيله، تاريخ هذا التفاعل الحي بينها وبينهم.

أضف تعليق

التعليقات