نستضيف في هذا العدد الشاعر ناجي داود الحرز، ليطل على ذاكرته ويكشف لنا عن بعض خباياها والظلال التي تكتنفها، ويقدِّم لنا بعضاً من آخر نتاجه. وللشاعر حضوره في المشهد الثقافي السعودي عامة والأحسائي على وجه الخصوص، إلا أن من أهم ما يميز الحرز هو أبوته لعدد من الأقلام اليافعة والطاقات الشعرية الشابة التي كان يرعاها من خلال منتدى الينابيع الهجرية الأدبي الذي أسسه الشاعر لهذه الغاية، وأصدر كتابه «شعراء قادمون من واحة الأحساء» مبشراً بعدد منهم. والشاعرالحرز أصدر: نشيد ونشيج، 1414هـ؛ وخفقان العطر، 1420هـ؛ وقصائد ضاحكة، 1422هـ؛ والعنقود، 1426هـ؛ وصلوات في محراب العشق،1429هـ؛ ومعجم شعراء منتدى الينابيع الهَجَرية، 1434هـ. وترجمت مختارات من شعره إلى الأوردية والإنجليزية.

ليت شعري أقوافٍ في يدي …
أم قوارير من الدمع مِلاءْ؟

من ديوان الشاعر (أمين نخلة) قفز هذا البيت فجأة إلى ذهني عندما بدأتُ في تأمل الأبيات التي اخترتها مادةً لهذه الرؤية من ديوانَي شاعرين كبيرين فُتنتُ بهما ولاأزال وهما (الشريف الرضيّ) و(علي ابن المقرّب), ربما ليقيني بأن الشاعر لا يبكي إلا عندما يحس بفورة بركان غيرته على كل ما هو جميل في هذا الكون وغضبه من كل عبثٍ بكينونة ذلك الجمال, كما قال أحد الشعراء المعاصرين:
نحنُ الذين إذا بكينا هيّـأَ الـ
إنسانُ كوكبَهُ لميلاد الظفرْ
وهل استقامتْ هذه الدنيا سوى
بنزيف أعيننا الذي فيها انهمَـرْ؟

يقول (الشريف الرضيّ) المتوفّى عام 406 هجرية:
لو على قَدْر ما يحاول قلبي
طلَبي لم يقرّ في الغمد عضْبي
همّةٌ كالسماء بُعدًا و كالريح
هبوبا في كل شرقٍ وغربِ
ونزاعٍ إلى العُلى يفطم العيسَ
عن الوِرد بين ماءٍ وعُشبِ
رُبّ بؤسٍ غدا بنعمــاءَ
وبُعْدٍ أفضى إليّ بقربِ
أتقـرّى هذي الأنام فيغدو
عجَبي منهمُ طريقـًا لعُجبي
وإذا قلّب الزمانَ لبيبٌ
أبصر الجدّ حربَ عقلٍ ولُبِّ
أمقامًـا ألذُّ في غير علياء
وزادي من عيشتي زادُ ضبِّ؟
دون أن أترك السيوف كقتلاها
رزايا من حرّ قرعٍ وضربِ
ومن العجز إنْ دَعَا بك عزمٌ
فرآك الحسامُ غيرَ ملبّي!

ويقول (علي بن المقرّب) المتوفى عام 631 هجرية:
على مَ وفي مَ ظُلمًـا تَلحيَاني ؟
ذراني لا أبـاً لكما ذراني
وحسبكما فما سمعي بمصغ ٍ
ولا واعٍ لما تتحدثان
وفي همم إذا جاشت أرتني
قُرى (عمّان) ميلاً من (عُمَانِ)
إذا سُولمْـتُـمَـا فتناسياني
وإنْ أُسلِمْـتُـمـا فتذكّراني
فمثلي من يُقيم صغى الأعادي
ويُستعدَى على نِوَبِ الزمان
وما ذكر المنيّة عند أمرٍ
أحاولُهُ بثانٍ مِن عناني
إذا يومي أظلّ فما أبالي
بسيفٍ كان حتفي أو سنان
ومَن يَكُ عمرُهُ المكتوب تسعـًا
فلا يخشى المنيةَ في الثمانِ

نفس الهمّة العالية و نفس الطموح المتوثب ونفس التحدي ونفس المغامرة ونفس التجربة والحكمة!, أعتقدُ أنّ وجعـًا ما وحّدَ هذين العملاقين, وسأحاول أن أثبت بما سأعرضه من تراثهما الشعري أنهما اقتسما مهمة الدفاع عن القيم السامية والسجايا الحميدة بطريقتهما الخاصة, فالشاعر (علي بن المقرب) يندد بكل من يتنكّب عنها وإنْ كان أقرب المقربين إليه, و(الشريف الرضيّ) يشجَى ويندب كل من رحل مضمّخـا بعبيرها الأبدي, أو يشيد بكل مَن يعين على نائبة أو يشد أزر من وقع في محنة.

فعندما يدعو (ابن المقرّب) إلى شد عصا الترحال والهجرة عن مواطن القهر والضيم ولو على أطراف الأسنة بقوله:
قمْ فاشددِ العيسَ للترحال معتزمـَا
وارمِ الفجاجَ بها فالخطبُ قد فَقُمـَا
ولا تلَفّتْ إلى أهلٍ ولا وطنٍ
فالحر يرحل عن دار الأذى كَرَمَا
لا يقبل الضيمَ إلا عاجزٌ ضرِعٌ
إذا رآى الشرَّ تغلي قدْرُهُ وَجَمَـا
وذو النباهة لا يرضى بمنقصةٍ
لو لم يجد غير أطرافَ القنا عِصَمَا
وذو الدناءة لو مزّقتَ جلدتَهُ
بشفرة الضيم لم يحسس لها ألمَـا !

يجاوبه (الشريف الرضي) داعياً لحط الرحال وللندم على أولئك الذين وَفَوا لكرامة الإنسان حتى توسدوا الثرى:
أقولُ لركبٍ خفافِ المزادِ
وقد بدّلوا بالوَضاءِ الشحوبَا
ألمّوا بأجواز تلك القبور
فعرّوا الجيادَ وجُزُّوا السبيبا
قفوا فامطروا كل عين دمًـا
بها, واملأوا كل قلبٍ وجيبا
ولا تعقروا غير حَبّ القلوب
إذا عقر الناس بزلا و نيبا

إلى أن يقول:
لقد شغلتني المراثي لكم
بوجدي على أنْ أقولَ النّسيبا
وكنتُ أعُدُّ ذنوب الزمان
فبعدكُمُ لا أعُدُّ الذنوبا

وعندما يبوح (ابن المقرَّب) بشجاهُ من ابن عمٍّ له عزيزٍ على قلبهِ تنكّر لكل دواعي الحُب والألفة والشهامة و أبدلها بالجفاء وبالقطيعة والشح بقوله:
وضقتُ ذرعاً بابن عمٍّ محبَّبٍ
إليّ وإنْ لم تسق أرضي مخائلُهْ
فكم ليلة عللتُ نفسي بذكرهِ
وسكّنتُ قلبي فاطمأنّت بلابلُه
فلما التقينا كان حظي جفاؤه
وكان لغيري برُّهُ ونوافله

يجاوبه (الشريف الرضي) واصفاً ما آل إليه حاله بعد رحيل صاحبٍ وفيٍّ له بقوله:
وإني إذا قالوا: مضى لسبيله
وهِيلَ عليه التّرب من جانب اللحدِ
كساقطةٍ إحدى يديهِ إزاءَهُ
وقد جبّها صرفُ الزمان إلى الزّندِ

وجليٌّ ما يؤول إليه أمر إنسانٍ دُهي بفقدان إحدى يديه! ولا يكتفي (الشريف الرضي) بهذا المقدار من الأسى المرّ, بل يذهب أبعد من ذلك بكثير فهو يشعر بأنه كلما وارى واحداً من أحبابه الأدنين إنما يواري الثرى عضواً من أعضاء جسده:
مالي أودع كل يوم ظاعنا
لو كنت آمل للوداع لقاءَ
فرغَت يدي منه وقد رجعَتْ به
أيدي النوائب والخطوب ملاءَ
أحبابي الأدنين كم ألقى بكم
ذا الماء من ألمٍ أغصَّ الماءَ
إلاّ يكن جسدي أصيب فإنني
فرّقته و دفنتهُ أعضاءَ

وكلما ألحّ (ابن المُقرّب) على شكوى ما يكابده من أقرب المقربين إليه كقوله :
أرى العُلى تقتضيني غير وانيةٍ
عزمًا يُبيّنُ عن فضلي وعن حسبي
وما نهضتُ له إلا وأقعدني
خذلانُ قومي وعيثُ الدهر في نشبي
والمرءُ يسعى بلا رهطٍ ولا جِـدةٍ
كالسهم يُرمى بلا ريشٍ ولا عقِبِ !
أو بقوله:
فليت أخلاّئي الذين ادّخرتهم
جلاءً لهمّي لا عَلَيَّ ولا لِيـَـا

يُلحُّ (الشريف الرضي) على مبادلة أحبائه له مودةً بمودةٍ ووفاءً بوفاء وهو يودعهم واحداً واحداً معتبراً فراقهم إيّـاهُ أعظم نوائبه وأدهى خطوبه:
قعدتُ بمدرجة النائباتِ
يُمِرُّ الزمانُ عَليّ الخطوبا
على الهمِّ أُنفِقُ شرخَ الشباب
وأعطي المنايا حبيبـًا حبيبـَا

وحتى في حال العشق والوجد والوله لا يجد (ابن المقرب) من الأدنين إلا مبالغاً في لومه وعذله :
عذلُ المشوقِ يزيدُ في بُرَحائهِ
ويثير نار الوجد في حوبائهِ
فاترك ملامته و دعه وشأنه
في نوحه وحنينه وبكائهِ
يا عاذل المشتاق مهلا واتّئدْ
في لومه فهو العليم بدائه
يا عاذلي لا عشتَ إلا أخرسا
أعمى أصمّ ترى بقلبٍ تائهِ
أربيتَ في لومي و زدتَ ولن ترى
قلبي مطيعَكَ في اتّرَاكِ هوائه

أومسرفاً في تأنيبه ومشيراً عليه بسلوان من آلمه فراقُهم من أحبابه:
أراهُ الهوى ما لم يكن في حسابهِ
فأقلقهُ عن صبره واحتسابهِ
فلا تؤلماهُ بالملام فإنه
يثير جواهُ واتركاهُ لما بهِ
أعيذكما من وجدهِ وغرامهِ
ولوعاته يوم النوى واكتئابه
فهل لكما أن تذهبا لا شفيتما
لشأنكما أو تقصِرا عن عتابهِ
تريدان منه سلوةً وتناسيا
وصبرا؟ لقد بالغتما في عذابهِ

أما (الشريف الرضي) فيجد أصحابه محدقين به حافّين برحله يقفون معه على منازل أحبابه الخالية يشجون لشجائه ويبكون لبكائه:
أيا لله أيُّ هوىً أضاءا
بريقٌ (بالطويلعِ) إذ تراءى
ألمَّ بنا كنبض العِرق وهْنــًـا
فلما جازنا بلغ السماءَ
طربتُ إليه حتى قال صحبي:
لأمرٍ هاج منك البرقُ داءَ
ولم يك قبلها يقتاد طرفي
ولا يمضي بلبي حيث شاءَ
خليليَّ اطلقا رسني فإني
أشَدّكما على عزمٍ مَضاءَ
أبَتْ لي صبوتي إلا التفاتا
إلى الدمن البوائد وانثناءَا
فإنْ ترَيَـا إذا ماسرتُ شخصي
أمامكما فلي قلبٌ وراءَا
فيالي منه يُصْبيني أنيقـًا
بساكنهِ و يبكيني خلاءَا !
أُنادي الركبَ: دونكمُ ثراهُ
لعلّ به لذي داءٍ دواءَا

ومرة أخرى وفي أبيات لا أجمل ولا أروع ولا أشجى يقول (الشريف الرضي) مؤكدا على أنّ أصحابَه شركاؤه في تلك المواقف بالحنين وبالدموع وبالوجد والأسى:
قال لي صاحبي غداة التقينا:
نتشاكى حَرَّ القلوب الظّمَاءِ
كنتَ خبّرتني بأنك في الوجد
عقيدي وأنّ داءَك دائي
ما ترى النّـفْـرَ؟ والتّحمّلَ للبينِ؟
فماذا انتظارنا للبكاءِ؟
لم يقُلها حتى انثنيتُ لما بي
أتلقّـى دمعي بفضل ردائي!

أتمنى أن أكون قد وفقت في التقاط هاتين الصورتين الافتراضيتين واللتين أزعم أنهما تمثلان و جهين لشعورٍ نبيلٍ واحد.

نصوص
ناجي داود الحرز

اغتسال..
لم يبرد الشوقُ
مذ أشعلتَ ذاكرتي
وَجْدًا
ووزعتَ قلبي في زواياهُ
منذ اختصرتَ بحلمٍ واحدٍ
عُمُري ..
وفي حكاية لقيانا
حكاياهُ .. !
أقسمتُ ..
دع هذه النيران تغسلني
مِن الدّوار ِ
فقد شاخت وصاياهُ .. !
فأنتَ
آخرُ عنوانٍ يلوِّح لي
ولا يبوحُ بشيءٍ
مِن نواياهُ.!
***

قلتُ للريح ..
قلتُ للريح : تعالي نتبارى
إنّ بُعدي عنكِ
ما عاد انتصارا ..
أيقظي كل المتاهات فقد
آن لليل بأن يلقى نهارَا
وانزعي عنك الأساطير التي
ملأَتْ هذا المدى الرحبَ
انكسارَا
فلقد جئتُكِ
وجهـًا واحدًا
ويدًا
تنطفُ غيمـًا واخضرارَا
***
مالذي أسدى لي الحلمُ
ولم
يمتشقْ نهرًا
ولم يمسَسْ جدارَا ؟
ما الذي يغسلني
من سفَهِ الصبرِ
والآمال تزداد اصفرارَا ؟
آنَ للماء
بأن يهتكَ عن
نزق الجذر الذي امتدّ
السّتارَا.
***

بين نظرتين ..
جائحةٌ ..
هذه الفكرة التي تراودني
كلما اعتصرتِنِي أنتِ
بين نظرتين
وابتسامةٍ لا تشيرُ إلى شيء !
جائحةٌ
ولكنني أستسلمُ للرّيبةِ
وأبقى ممعنـًا في التوجّسِ
أدمنتُ .. أدمنتُ
هذه النار التي تطهّرني
من عقم دوران الشمس
حول بيوتنا الساذجة !
أربعون سنبلةً
ولا شيء يعصف بي
أكثر مِن مواسم الوجد
التي يحسبها الظمآنُ ماءً
بين نظرتين
وابتسامةٍ لا تشير إلى شيء !
مَن سيعرفُ قاتلي ؟
وقسماتُ وجهكِ
مخبّـاةٌ هنا
هنا .. في سويداء خيبتي ؟
مَن سيقتص منكِ
وعمركِ عمْرُ إشاعة الفرحِ
التي أتدثر بها
عندما أسافرُ
بين محطات الحرقة والنحيب ؟
مَن سيخبرُك بموتي ؟
وأنا
أتأرجحُ
أتأرجحُ
أتأرجحُ
أمامَكِ ..
بين نظرتين
وابتسامة ٍ لا تشير إلى شيء .
***

نزيف ..
على الأريكةِ
التي اكتنزَتْ بعبيرها انحنَى ..
كسحابةٍ توشك على النشيج .!
ومدّ يدَه اليُمنى
يتحسّسُ تضاريسَ خيالها
المحتدم ِ كسَيـف .. !
أمـّا يده اليُسرى
فكانت على خاصرتهِ
تحاول كبحَ
جماحِ
نزيفِ
غيابهِا .
***

المرآة ..
المرآةُ تتقصّفُ
كورقةٍ يابسةٍ
كلما لا حظَتْ أنني أهمُّ بالنحيب !
هي تعرفُ
إلى أيّ مدىً
ستأخذني نوبة يأسٍ أخرى
أوّل مرةٍ
أعلنتُ أمامها انكساري
انشطرَتْ
كبابٍ داهمتهُ الريحُ فجأةً !
وبقيَتْ كذلك
لم تعد قادرةً على رؤيتي
فزاوية التجلد المزيفةُ
التي اتكأتُ عليها طويلاً
انحرفَتْ
ناحيةَ تيهٍ أبديّ ..
هي تعرفُ
أنّ الوقت متأخرٌ جدًا
الأسئلة لن تجد مكاناً
في ورقةٍ مزدحمةٍ
بالأساطير ِ.. والمواجعِ
والخيبات المتراصّة !
من أين سآتي بتبرير ٍ
لكل خطوةٍ عرجاء
موّهتها بشطرٍ أو شطرين
من رزنامة مفخّخة ؟
وهل ستصدّق هي
أنّ هذه التي بيديّ مشكاة؟؟