كان الفن، ولا يزال، مستودعاً لهواجس نفس الإنسان. والشعر فنٌّ ائتمنه الشعراء على مشاعرهم وأفكارهم، وحالاتهم النفسية التي تعكس واقعهم وتعاطيهم معه: قبولاً أو انسجاماً، أو نفوراً وهروباً..
الدكتورة أمل الطعيمي تتناول ثلاث حالاتٍ نفسية استوعبها الشعرُ العربي القديم للتعبير عن التعامل مع الواقع: القلق، والحلم، والتكيف..!
موضوعي.. وعصابي..!
القلق بصمة كثيراً ما نجد أثرها في قصائد الشعراء العرب.. وهو أحياناً “قلق موضوعي” تثيره أحداث عاصفة بالوجدان مؤججة سخط النفس على كل شيء حتى الذات.
وهو أحياناً “قلق عصابي” مبعثه ملابسات مجهولة – أو معروفة – في حياة الشاعر أجبرته على أن ينظر إلى الحياة بمنظار أسود، و يرى ضياءها ظلاماً واتساعها ضيقاً.
وأبو العلاء المعري كان نموذجاً واضحاً لهذه السوداوية، فهو يخلع انفعالاته الداخلية ليسقطها على الطبيعة من حوله، غير مكتفٍ بما في نفسه من سخط و قلق:
إذا الفتى ذم عيشاً في شبيبته
فما يقول إذا عصر الشباب مضى
جربت دهري وأهليه فما تركت
لي التجارب في ودّ امرئ غرضا
أما ابن المعتز، الشاعر الأمير الذي حاوطته الخطوب مذ كان طفلاً وجرعته الأيام مرارة لا تتناسب ومكانته، فإنه يقول:
يوم سعد قد أطرق الدهر عنه
جاء سراً و ما رأته الخطوب..!
وقد أسقط ابن المعتزّ ما في نفسه من قلق وتشاؤم على الطبيعة التي اشتهر بوصفها:
فكأن الهلال يهـــوى الثريا
فهما للوداع معتنقانِ
إنها صورة قاتمة اختارت عناق الوداع لا عناق اللقاء لما فيه من مرارة وأنفاس قلقة متشائمة. وكان بشار بن برد محباً ضعيفاً يجتاحه القلق والضيق والتبرم من إقباله على النساء وإعراضهن عنه، فكان ذلك محرضاً على القلق، ومن ثم الشكوى لما فعلته حبيبته “خشـّاب”:
أخشّابُ حقاً أن دارك تزعج
وأن الذي بيني وبينك ينهجُ
إلى الله أشكو أن بالقلب كربة
من الشوق لا تبلى و لا تتفرجُ
ويقول أيضاً :
تقطـُّع نفسي حسرة بعد حسرة
إذا قيل تغدو من غد لا تعرجُ
على صهوة الحلم.. والوهم..!
كان القلق يدفع بالشاعر إلى الهروب إلى حيث تتعاظم الأماني و تتعدد في النفس. مع أنها لا تتحقق بالضرورة، و لهذا قد ينشدها المرء بالهروب إليها لا انتظارها أو العمل من أجلها. ومن هنا سيطرت الرغبة، في الهروب من الواقع، على الشعراء. وهو سلوك يستبدل فيه الشخص الوهم أو أحلام اليقظة بالواقع ليتجنب صراعات الحياة أو يخفف من حدتها.
ومع المرأة كان البحتري أكثر الشعراء هروباً من عالم الواقع إلى عالم الأحلام، ففي هذا العالم يلتقي حبيبته التي تبادله حباً بحب، وهناك لا صدود منها ولا فراق.. بل لقاءات مستمرة يتنعم بها:
وطيف طاف بي سحراً فأذكى
حرارة لوعتي وجوى حشائي
وفي طيف الخيال شـِفا المعنى
وريُّ الصـاديات من الظماء
ويقول:
بتُّ ليل التمام أسهر بالوصـ
ــــــل بطيف الخيال وهو كذوبُ
وقد كان تقدمه في السن أحد أسباب رفض المرأة له، و لهذا كان الشاعر يستسلم للحلم الجميل حتى وإن كان على علم بسبب العزوف عنه:
وإني لأشتاق الخيال وأكثر الز
يارة من طـــيف زيارته غـِبُّ
أما بشار بن برد الكفيف البصر الدميم الوجه الجاحظ الحدقتين المحاطتين بلحم أحمر غليظ.. إضافة إلى ما تركه الجدري من التشوه.. فما كان ليرضى بهذا الواقع المرير الذي نفر الجلساء منه، و لهذا ثار على واقعه بالهروب منه وبالبحث عما يمكنه من أن يستعلي بنفسه فقال:
عميت جنيناً والذكاء من العمى
فجئت عجيب الظن للعلم معقلاً
وغاض ضياء العين للقلب فاغتدى
بقلبيَ ما قد ضــيع الناس حُصّلا
وعلى ما كان من يأس و تشاؤم و سوداوية عند أبي العلاء المعري بسبب ما لاقاه في حياته؛ فإنه يعزي نفسه بشعره محققاً لنفسه فيه ما يتمناه من تميز و ما يشعر أنه جدير به. فامتلأت قصائده بما أراده لنفسه في اللاشعور:
وقد سار ذكري في البلاد فمن لهم
بإخفاء شمس ضوؤها متكاملُ
يهم الليالي بعض ما أنا مضــمر
ويثقل رضوى دون ما أنا حاملُ
وإني وإن كنت الأخـــــير زمانه
لآت بمــا لم تستطعه الأوائلُ
أما ابن الرومي فقد اشتدت معاناته من الناس الذين طالما سخروا منه و أشبعوه نكاية و تجنباً لذا لم يجد من يأخذ بثأره منهم سوى أبياته فراح يرفع من قدر نفسه و يفاخر بعقلة و سداد رأيه ونفاذ بصيرته فقال:
إذا ضاقت الأخلاق أفضت خلائقي
إلى سعة مثلي إلى مثلها يفضي
إذا ناهض العلياء قوم فقصروا
فاني حري أن يتم لـها نهضي
تكييف النفس والواقع..!
ومثلما كان الحلم هروباً من الواقع؛ كانت الحكمة وسيلة من وسائل التكيف النفسي معه. ويحمل “الأنا الأعلى” في النفس الإنسانية مهمة هذا التكييف لتنسجم مع متطلبات العالم الخارجي بأحداثه الطارئه أو طبيعته الملازمة، وهو يؤديها بالتعلم واختبار الواقع بالتجارب التي تُكسب القدرة على تقبل الأحداث وتطويع النفس لها، فتكون التجربة الإنسانية بمثابة تدريب نفسي على تلقي المصائب والتكيف معها في إطار عقلي إرشادي للذات.
وفي مثل هذا نجد أبا فراس فراس الحمداني يعترف ويتكيف:
أُسرتُ وما صحبي بعُـزْلدى الوغى
ولا فرسي مهر و لا ربه غمر
ولكن إذا حُـمّ القضاء عـــلى امرئ
فليس له بـر يقيه ولا بحر..!
فارس شجاع ومحارب صنديد و أمير مرفّه يجد نفسه أسيراً ذليلاً. ومع ذلك يتمنع على الانهيار والضعف، ويتماسك متكيفاً مع ما ألم به:
تهون علينا في المعالي نفوسنا
ومن خطب الحسناء لم يُغلها المهرُ
هذا التكيف هو نفسه الذي يعنيه علي بن الجهم الذي يعلن عن رأيه في قوله:
هي النفس ما حمّلتها تتحملّ
وللدهر أيامُ تجور وتعدل
المتنبي، على ما كان عليه من إحباط متكرر، يُعتبر شيخ المتكيفين مع واقعه الذي لا يريد التصالح معه.. لقد كان يدرك ما معنى الأمن وما معنى الخوف.. ويختزل ذلك في بيت شهير يقول فيه:
وما الخوف إلا ما تخوفه الفتى
ولا الأمن إلا ما رآه الفتى أمنا
وكأن المتنبي طبيب نفسي يعرف أبعاد هذا الإيحاء ويؤكد أن الشعور بالخوف أو الأمن، وغيرهما، إنما هو رهن لإحساس المرء بما حوله. وهذا ما يراه علماء النفس الذين يعتبرون النفس البشرية هي التي تعطي للأشياء جزءاً كبيراً من حقائقها. وفي الشعر قد يعطي الشاعر حقيقة خاصة ليبسطها ويتكيف مع واقعه.. وهذا ابن الجهم يقول حين سُجن:
قالت: حُبستَ، فقلتُ: ليس بضائرٍ
حبسي، وأيُّ مهندٍ لا يُغمـدُ..!
والبدر يدركه السواد فتنجلي
أيامه وكأنه متجددُ..!
———————————————————————————
في “أنا” الشهيد..!
شعر: سامر فهد رضوان – سوريا
قصيدة فائزة في مسابقة القافلة الذهبية، فرع الأدب..
خلافاً لما وهبتني الطبيعةُ
أسريتُ من ضعفِ ذاتي، وذاكرتي، وجَبلَّةِ روحي
إلى مطلقٍ في الدلالةِ
لم أبغِ أنْ أصلَ الآهَ في لغتي
إنما اخترتُ منهلها،
واستطعتُ إليها،
سوى أنني كنتُ إلاّ قليلا
وكانَ إذا اهتزَّ ما يمنحُ الروحَ معنى تجدُّدِها،
أستميلُ الصعودَ بأنْ نتحالفَ آناً،
ونبدأَ سِفْرَ السموِّ بلا خجلٍ،
غير أنّي نسيتُ السبيلا
فذكَّرني قمرٌ أنهكوا وجهه بمدائحهِمْ
ورمى من أشعتهِ سلّماً.. فصعدتُ
رويداً… سريعاً
وعانقتهُ،
وخلعتُ له بُرْدتي
فغدوتُ ببردته نيّراً
وصنعتُ بنا مستحيلا
سأسعى إذن لابتلاعِ النجومِ،
ورأبِ السماءِ بأخيلتي،
ولأكنْ لغزَ أزرقِها،
وامتدادَ وظائفها،
وآخرَ من سوفَ يعرفُ معنى ارتفاعِ السؤالِ،
كارتفاعي إلى قامةٍ صرتُها،
وانتباهي إلى أن كلتا يديَّ سحابٌ.. سحابْ
وأنّي أضيقُ إذا ما اتسعتُ،
ولو فتحتْ أحرفي بابَها
لاستحالَ هطولي غزيراً كما تشتهيني البلاغةُ
واعتقدَ الجمعُ
أني أسيرُ إلى مأتمي مسرعاً كالشهابْ
ولكنني أتبسَّمُ حين أراني عليّاً،
وكلُّ الكواكبِ ترفعُ أبصارَها باتجاهي،
وأحزنُ حينَ أراها سرابْ
تيمّمتُ بالنورِ،
زلزلتُ نفسي،
وأخرجتُ أثقالها،
ثم أضمرتُ لغزاً فكانَ الوضوحُ حليفي
وآلمني أنّ كلَّ الأيامى
حلمنَ بوجهيَ
كأني على وعدهنَّ سآتي بلا فرسٍ
وسلاحي صبابتهنَّ
دخلتُ احتفالاتِهنَّ بوهجي،
وقربني من مرادي
بقاءُ النوافذِ مفتوحةً في ليالي الحصادِ،
….
سأسيح حتى أطالَ الخفايا،
وأحفرَ نفسي عليها،
وأُغضبَ كل الذينَ سيأتونَ بعدي إليها.
تُرى ما الذي يمنحُ الأفقَ معنايَ إنْ غبتُ
قالتْ نساءٌ.
فقلتُ أنا كالحضورِ
انتهائي ابتداءٌ
فقلنَ: سنبكي عليكَ طويلا
– لماذا؟
– لأنَّ الطموحَ انتهى
كنتُ أُدركُ أني وصلتُ الذرى
غيرَ أني تذكَّرتُ سلَّمةً لم أطأْها
ولم أختبرْ فوقها قدرتي في السموِّ
رفعتُ دمي،
ثم حددتُ سَمْتَ الدخولِ إلى نقطةِ البدءِ
لاينتُها
فإذا بالدخولِ يحدِّدُني مركزاً!!!!
* * *
تذكرتُ في لحظةِ الكشفِ أمي،
وفضلتُ قبلَ عبوري مضائقَ هذا الخلودِ
مصافحةَ النورِ فيها،
وتطمينَ مرضاتِها أنني سوفَ أعبرُ دونَ ضحايا،
وأن جسوري لمرمايَ دفءَ دعاءٍ
إذا مَسَّهُ ثغرُها…
انطلقَ البرقُ كيما يشكّلَ خارطةً،
ومضى الرعدُ منطلقاً كحصانٍ
يناشدني أنْ أقودَ بيانَ تسارُعِهِ
عندها قَبَّلتني
وقالت:
إلهي تقبَّلْ بنيَّ على حالهِ
ثم أبصرتُ في عينها دمعةً تتهاوى،
فآثرتُ أن أنحني،
وأغني لها: أنت “سِتُّ الحبايبِ”
غادرتُ أحزانها
علّني أهتدي فأعيدَ ابتسامتها
فجأةً:
وأنا في أعالي نشيدي
سَرَتْ شائعاتٌ بأني انتقلتُ إلى رحمةٍ
فحزنتُ
وأنزلتُ كوكبَ دمعٍ وسربَ عصافيرَ
باركتُها
فاستقلّت فضائي
وصارتْ إذا ذُكرَ الشعرُ
ناحتْ عليَّ طويلاً،
وعلَّمتِ الخلقَ أنَّ دمايْ
إذا مسَّها شاعرٌ
سوف تخرجُ من روحهِ لعناقِ مدايْ
ومن يومها ظهرتْ كربلاءُ
فهم يندبونَ فراقَ أنايْ