الرحلة معا

الجامعة واحة والجنادرية جامعة

تتوقف “القافلة” بين وقت وآخر لتستضيف قلماً عربياً مرموقاً، لرؤيته عمق مهم، خاصة في هذا الزمن العربي الحرج، الذي يتطلب المزيد من وقفات التفكير والمراجعة. في هذا العدد نستضيف المفكر العربي مُنح الصلح في هذه المقالة..

حين أتصفح مجلة كالقافلة يستيقظ في نفسي الشعور بحاجتنا اليوم إلى واحات جديدة للثقافة العربية، واحات يتبادل فيها المثقفون العربُ الفكرَ والعلم، ويطلعون من خلالها على تراثهم وعلوم العصر، ويمتحنون فيها قيماً يحملونها وأفكاراً جديدة متضاربة تطرح عليهم بلا هوادة.

كنا هكذا أيام الجامعة. كانت الجامعة الأميركية في بيروت واحة للشباب العربي، وكان الشباب العربي يتعرف فيها بعضهم إلى بعض ويتبادلون المعارف والشعر والأدب. كانت واحة للعربية والعروبة معاً، للفكر والعلم والأحلام القومية أيضاً. وكانت هناك جمعيات أدبية تجمع هؤلاء الشباب وتقدم للموهوبين منهم المنابر والمجلات يكتبون فيها، فتتكون منهم نخب تعرف القديم أكثر مما يعرفه الآباء، وتساهم في الجديد أيضاً. كان هناك الشوام والعراقيون وشبان من الجزيرة العربية أذكر منهم – والذاكرة تخونني – عبد الله بلخير وعمر السقاف وزياد الشوّاف وغيرهم. وبرز العديد من هؤلاء الشباب السعوديين في تلك الجمعيات الثقافية كالعروة الوثقى إما كشعراء أو ككتاب في مجلة الجمعية.

من جملة ما أذكر ما كان لكتاب أمين الريحاني من أثر في الشباب العربي في تلك الفترة. فقد نجح الريحاني بأجمل “تحقيق صحفي” كُتب باللغة العربية “ملوك العرب”، في بث رومنطيقية عن الأجيال العربية الوافدة إلى الجامعة، تشدهم نحو الجذور.. نحو الجزيرة. فالشبان كانوا يقرأون بشوق الكتاب الذي جاء في زمانه ملحمة أدبية وسيرة تاريخية في آن واحد. وأثمر معرفة ومودة وولاء عند الشباب العربي لمهد الحضارة العربية.

لقد استعدت كثيراً من هذه الذكريات عندما دعيت للمشاركة في الجنادرية لسنوات عديدة، لأشهد أهم مهرجان ثقافي يجمع المثقفين العرب من داخل البلاد العربية ومن المنتشرين في العالم، كما يجمع الكثير من المهتمين بالثقافة العربية والمحبين لها، فله دور تجاه هؤلاء ودور تجاه أولئك. يتعرف المثقفون فيه بعضهم إلى بعض فوق أرض الجزيرة، يتعرفون على سعودية أخرى غير التي كنا نراها من الخارج. كان المهرجان يقدم للناس الجزيرة العربية الحقيقية القديمة والجديدة أيضاً.

ربما لواحدنا أن يقول اليوم إن الفكرة في تنظيم هذا المهرجان قبل أكثر من عقدين حملت شعوراً ما بوجود خطر آتٍ من بعيد، وأن في أمكنة من العالم تتجمع رياح معادية يعود بعضها إلى عدم فهم أوضاع العرب بشكل عام، والمملكة بشكل خاص. كأن هذا المهرجان أقيم – من جملة ما أقيم من أجله – للمساهمة في تدارك أخطار والاستعداد لمواجهة الرياح. وكان الذين يحضرون الجنادرية يسمعون منها ما لم يكونوا يسمعونه في سواها، كانت لنا فرصة للتعرف بالسعودية النامية بالبشر قبل الحجر كما يقال. أدباء وعلماء وأصحاب رأي من المملكة ينتشرون بين المثقفين العرب يناقشون الزوّار من الشخصيات الأجنبية وقادة الفكر والأساتذة الجامعين والخبراء بكفاءة كبيرة. فكان هؤلاء يرجعون إلى بلادهم يحملون زاداً من المعرفة مختلفاً عما أتوا به، عن المملكة والمنطلقات التي ينطلق منها عرب الجزيرة وكل العرب. فإذا كانوا في الغرب يتحدثون كما نسمع اليوم عن الإصلاح الضروري للمجتمعات العربية فان مثقفيهم الذين زاروا الجنادرية كانوا قد سمعوا قبل ذلك دعوات الاصلاح من مثقفي الجزيرة وقادتها.

عرفت الجنادرية المثقفين العرب مع غيرهم بالانتاج الثقافي السعودي في الماضي والحاضر، ودفعتنا جميعاً على مختلف ديارنا إلى النظر في صحة الكثير من انطباعاتنا السابقة، بل إلى الفخر بالانسان العربي السعودي وما يمتاز به من نظرة ثاقبة ومقدرة على المواجهة الفكرية في الداخل والخارج. يضاف إلى كل هذا من روح الجنادرية مواسم جائزة الملك فيصل. هذه الجائزة التي لم تمنح منذ بداية نشوئها حتى اليوم إلا لمستحق، بقطع النظر عن الجنسية والدين، إذ تُعطى لمن يُسهم إسهاماً قيماً في أي مجال يقف فيه العربي وغير العربي، المسلم وغير المسلم على قدم المساواة لمحض جدارته. وقد حضرت احتفال منح هذه الجائزة لشخصيات مهمة مثل الباحث الأردني فهمي الجدعان والرئيس البوسني علي عزت بيغوفيتش، كان لكل ذلك أثر بالغ في الإفساح عربياً وعالمياً لإيجاد مناخ مستقبلي تمضي المملكة فيه بروحية واثقة معاصرة. ومن يستمع إلى العديد من البرامج التلفزيونية اليوم يشعر بيقظة ما يعيشها العربي الجديد، لا بالتطرف المشبّع بالذات، بل بهذا الانفتاح والتواضع والثقة في النفس وتقدير خطورة الزمن وخطره.

طبعاً نحن نسأل أنفسنا قبل أن يسأل الناس كيف يجوز أن يترك عربي لغير عربي حق الإدعاء بالغيرة على الإصلاح أكثر منه، وهو صاحبه وموضوعه وأساسه. إن الاصلاح ليس زينة بل هو ضرورة وأساس للغد. مع فارق أن الإصلاح الذي كثيراً ما نُدعى إليه اليوم يكاد لا يكون الاصلاح نفسه الذي كان المثقف العربي يسمع به في الماضي.

كنا أيام الجامعة نستمع إلى أساتذة غربيين يسردون أخباراً ووقائع عن الإصلاحات في بلدانهم، وكنا نشعر أنهم صادقون ومفيدون لنا، وهو شعور كثيراً ما يفتقده اليوم المثقف العربي أو غير المثقف عندما يسمع طروحات الإصلاح. وكأن المصالح السياسية النافرة اليوم تضر بنزاهة الكلام عن الإصلاح الذي كان ولا يزال بنظرنا ليس منه بديل..!

أضف تعليق

التعليقات