ازدياد سخونة الأرض ككل، وتوقع وصول معدل هذه الزيادة خلال القرن الجاري إلى ما يتراوح بين 4 و 6 درجات مئوية، صار حقيقة علمية لا ينقضها أحد. ولكن لهذه الزيادة التي تبدو – رقمياً على الأقل – محتملة، آثاراً بالغة الخطورة تتجاوز حالات الطقس هنا وهناك لتشمل أوجه الحياة التي نعرفها ككل، حسبما يبدو في هذا التقرير المعتمد على بحثين نُشرا أخيراً في كل من المجلتين الفرنسيتين “سيانس اي ڤي” و”الاكسبرس”.
“بعد غد” هو عنوان فيلم سينمائي جديد حول ارتفاع حرارة الأرض، وتتمحور قصته حول موجة عملاقة تضرب شاطئ مدينة نيويورك فتكتسح المدينة برمّتها وتدمر ناطحات السحاب فيها. وفي ندوة صغيرة عقدها تلفزيون “سي. إن. إن” حول “علمية” الفيلم والتوقعات التي يطلقها، أجمع عدد من العلماء على أن ارتفاع حرارة الأرض يحمل مخاطر مناخية، وإن كانت مختلفة عمّا نراه في الفيلم، فإنها لن تكون في الواقع أقل ضخامة مما نراه فيه.
المناخ بعد مئة سنة
لا يمكن للأرصاد الجوية مهما كانت متطورة أن تتوقع حالة الطقس في مكان معيّن لأكثر من عشرة أيام. إذن، لا أمل في معرفة ما سيكون عليه المناخ في عام 2100م. هذا هو الاعتقاد الشائع، لكن الواحد لا ينفي الآخر. فعلم الإرصاد الجوية محدود في إطار زمني ضيق ويقوم على دراسة التحولات الجوية في محيط معيّن ووفق معطيات محددة، أما علم المناخ فيقوم على دراسات القوانين الفيزيائية التي تسود الأرض، وانعكاس تبدل أحد المعطيات على مجمل التوازن القائم، الأمر الذي يسمح بوضع تصورات مستقبلية طويلة الأمد.
في عام 1990م، وضع “اجتماع الخبراء الحكوميين حول المناخ” تقريراً جزم فيه أن حرارة الأرض تتجه إلى الارتفاع بشكل خطير في القرن الحادي والعشرين، وذلك بسبب النشاطين الصناعي والزراعي وبعض معالم حياتنا اليومية مثل النقل والتدفئة وباقي المؤثرات التي تقذف في الجو كميات كبيرة من الغازات أبرزها ثاني أكسيد الكربون. هذه الغازات تستقر في الطبقات العليا من الجو، فتزيد من نسبة أشعة الشمس المأسورة في الأرض، بدلاً من أن تتركها تعود إلى الفضاء الخارجي، وهذا ما يسمى بظاهرة “الاحتباس الحراري”.
وفي السنوات القليلة التالية لذلك الاجتماع، تكثفت الأبحاث والدراسات بدءاً بالطبقات السفلى للقشرة الجليدية في القطبين، وصولاً إلى تصميم المشبهات الخاصة على شاشات الكومبيوتر.. وقُرع جرس الإنذار في العالم بأسره للصورة المثيرة للقلق التي ارتسمت أمام العلماء حول مستقبل العالم.
معطيات علمية لخيال أدبي
تأكد العلماء وبالإجماع، أن حرارة الأرض سترتفع خلال القرن الجاري. والاختلاف الحاصل هو حول المدى الذي سيبلغه هذا الارتفاع في هذا المكان أو ذاك. ففي حين يرى البعض أنه لن يتجاوز 1.4 درجة مئوية في بعض الأماكن يتوقع البعض الآخر أن يصل إلى 5.8 درجات. وإذا أخذنا المعدل الوسطي لهذه التوقعات، ألا وهو ارتفاع 4 درجات مئوية فقط.. لوجدنا علماء المناخ يحذرون من تغير معطيات الحياة على وجه الأرض بشكل يشبه أفلام الخيال العلمي.
في مقدمة التقرير الذي نشرته مجلة “الاكسبرس” الفرنسية حول الموضوع، كتب برونو كوت مقدمة أدبية متخيلة حول سيدة عجوز ولدت اليوم ولا تزال حية في عام 2100م وتتابع أخبار أحفادها: الذين هم في كانبيرا بأستراليا يتهددهم حريق مستعر منذ أسابيع، والذين هم في كوبا تتهددهم الأعاصير المدمرة، والعاملون في مدينة شيكاغو الأمريكية يختنقون في جو ملوّث، حيث من النادر أن تنخفض الحرارة عن 40 درجة مئوية.. من دون أن تنسى أقربائها في براغ ودريسدن الذين تتهددهم فيضانات الأنهر سنوياً.. وإلى أحفادها في فرنسا، تروي العجوز ذكرياتها حول التزلج على الثلج، فالصغار لم يعرفوا التزلج لقلة عدد المنتجعات في جبال الألب. أما جبال البيرينيه فلم تعرف الثلج من سنوات، تماماً كما هو حال جبل كليمنجارو في أفريقيا الذي لم يعرف اللون الأبيض منذ عام 2020م..!! وسيندهش الصغار أكثر عندما تروي لهم العجوز رحلتها السياحية إلى جزر المالديف التي ابتلعها البحر كما هو حال العديد من الجزر الاستوائية.
هذا النص الأدبي ليس قصة لفيلم سينمائي. فهو مبني على حسابات دقيقة يجمع على صحتها 3000 عالم وخبير يضمهم “تجمع الخبراء الحكوميين حول المناخ”. فعلى ماذا تقوم هذه التوقعات المتشائمة؟
“لم نعرف هذا الحر سابقاً”
تؤكد المعطيات المتوافرة من علوم الأرض والأرصاد الجوية خلال القرن الماضي، أن نسبة ثاني أكسيد الكربون ازدادت في الغلاف الجوي للأرض بنسبة 30% خلال قرنين من الزمن، والسبب الرئيس في ذلك استهلاك الطاقة (خاصة الفحم) من دون تدابير وقائية كافية على الصعيد البيئي، ويشكل هذا المصدر نحو ثلاثة أرباع هذه الإضافة، أما الربع الأخير ويقدر بنحو 1.6 بليون طن فسببه التصحر وتدمير الغابات. كما زادت نسبة غاز الميثان في الجو بنسبة 151 في المئة، وأكسيد الأزوت 16 في المئة.
أدى كل ذلك إلى ارتفاع حرارة الأرض ككل درجة مئوية واحدة خلال القرن العشرين. وما هي درجة مئوية واحدة؟ هل يستحق الأمر كل هذا الاهتمام، طالما أننا نعرف أن الفروقات الحرارية في المكان الواحد قد تتبدّل أكثر من 20 درجة بين الليل والنهار؟
والجواب هو أن خطورة هذه الزيادة “الطفيفة” تكمن أساساً في جانبين:
أولاً:
أنها ليست موزعة بالتساوي على كل سطح الأرض. فهي في القطبين أعلى منها في مناطق أخرى. وإذا كانت الأرصاد الجوية لم تسجل حالة الطقس في القطبين طوال القرن الماضي لمعرفة فروقاته الحرارية، فالمؤكد وما شاهدناه في الصور الفوتوغرافية هو انهيار وذوبان جبال جليدية عديدة في القطبين، وارتفاع مستوى سطح البحار أينما كان في العالم حوالي عشرة سنتيمترات خلال القرن الماضي.
ثانياً:
أن هذه الزيادة كانت كافية لتغيير المعطيات التي تسود فيزياء العوامل المناخية مثل حركة التيارات المائية في المحيطات، والتيارات الهوائية الباردة والساخنة.. الأمر الذي تُرجم عملياً بحالات طقس أكثر عنفاً في السنوات الأخيرة، مثل الحر الشديد صيفاً، والفيضانات والأعاصير المدمرة شتاءً.
الكثيرون منّا ينتقدون أولئك الذين يعبرون عن ضيقهم من الحر صيفاً بقولهم “إننا لم نَرَ مثل هذا الحر سابقاً”، فتعتقد بأن هؤلاء نسوا أو تناسوا حرّ الصيف السابق أو الأسبق.. ولكن أرشيفات الأرصاد الجوية، صارت تعطي هؤلاء الحق في ما يقولون.
فالسنوات الخمس الأكثر سخونة على صعيد الأرض بأسرها تقع في العقد الأخير من القرن العشرين. أسوأها كان عام 1998م (زيادة معدل الحرارة العام 0.55 درجة مئوية)، أما في عام 2003م، ورغم أن الزيادة كانت مشابهة تقريباً (0.6 درجة مئوية) فقد أدّت موجة الحر التي ضربت فرنسا إلى وقوع الكارثة التي يذكرها الجميع وتمثّلت في مصرع أكثر من عشرة آلاف شخص من المسنّين بنوبات قلبية أو بعوارض ناجمة عن الجفاف والحر.. وفي هذا المجال يقول الباحث جان لوي دوفرين من المركز الوطني للأبحاث العلمية في فرنسا: “الكل صار على قناعة بأننا ندمر نظامنا المناخي.. والمؤسف هو أن لا عودة إلى الوراء..”.
فماذا يخبىء المستقبل؟
تقول التوقعات المعتمدة على المشبّهات الكومبيوترية إن حرارة الأرض سترتفع نتيجة نمط الحياة الحالي بما يتراوح بين 4 و 6 درجات مئوية حتى نهاية القرن الجاري. ويسارع هؤلاء إلى التوضيح أن العالم الصناعي المسؤول الأول عن هذه القضية، لن يدفع من ثمنها أكثر مما سيدفعه غيره. ففي حين أن دول جنوب شرق آسيا وسواحل أمريكا الجنوبية لن تعرف زيادات تتجاوز الدرجتين المئويتين، سترتفع حرارة القطب الشمالي، حيث لا يوجد أي نشاط صناعي بما يزيد على العشر درجات مئوية.. ويعود هذا الاختلاف إلى عوامل بالغة التعقيد، غير أنه بإمكاننا تلخيصها بشكل عام بالقول إن الحالات المناخية الإقليمية المعروفة حالياً ستتحرك شمالاً لتحل محلها الحالات التي كانت جنوبها.
واستناداً إلى الخرائط التي أعدها الخبراء الحكوميون الذين أشرنا إليهم سابقاً، فإن معدل الحرارة في جنوب الجزيرة العربية سيرتفع من 3 إلى 4 درجات مئوية، أما وسطها وبلاد الشام والصحراء الإفريقية فستعرف زيادة تتراوح ما بين 4 و 5 درجات مئوية، كما هو حال معظم الولايات المتحدة الأمريكية، والبلقان والهضبة الإيرانية.
ويسارع العلماء إلى فك الارتباط بين هذه السخونة المتوقعة والجفاف. فيقولون إن المناطق المطرية والجافة ستتحرك شمالاً، وعليه، رسم هؤلاء خرائط تُظهر أن زيادة معدل الأمطار في جنوب الجزيرة العربية مثلاً خلال مئة سنة ستبلغ نصف مليمتر يومياً، وفي وسطها سيزداد بمعدل ربع مليمتر. أما بلاد الشام وحوض المتوسط بأسره فستعرف انخفاضاً في معدلات الأمطار يتراوح بين ربع ونصف مليمتر من معدلاتها اليومية.
ولكن هذه الفروقات التي تبدو صغيرة جداً ذات آثار على الأحوال الجوية تجحظ لها العيون. فالأمطار والأعاصير وموجات الحر والجفاف الموسمية تتحدد بالفارق الحراري بين كتلة هوائية باردة وأخرى ساخنة، أو بين تيار بحري ساخن وموجة هوائية باردة، وأية زيادة مهما كانت طفيفة على هذا الفارق تؤدي إلى حالات طقس أعنف وأقوى.. وعليه، يتوقع العلماء كماً هائلاً من حرائق الغابات صيفاً، وكوارث مطرية وأعاصير ذات عنف لم يسبق للإنسان أن شاهده. وفي أوروبا على سبيل المثال، فإن ارتفاع الحرارة المتوقع بين 4 و5 درجات مئوية سيؤدي سنوياً إلى انخفاض كمية الثلوج على جبال الألب مقابل زيادة الأمطار، الأمر الذي يعني أن بنية الأنهار كما هي حالياً ستكون عاجزة عن تصريف كميات أكبر من المياه، كانت سابقاً تصلها ببطء من خلال ذوبان الثلوج على مدى أشهر السنة.. وهذا ما سيؤدي بدوره إلى تهديد كل المدن الواقعة على ضفاف الأنهر بفيضانات سنوية غير مسبوقة.
وإذا كانت مثل هذه التوقعات تقع في إطار العموميات وتفتقر إلى الأرقام الدقيقة، ففي حال البحار والمحيطات تختلف المسألة.
جزر ومدن قد تختفي
إذا كانت زيادة حرارة الأرض درجة واحدة قد أدت إلى رفع مستوى البحار عشرة سنتيمترات، فإن زيادة الحرارة في القطب الشمالي 10 درجات مئوية ستؤدي إلى ارتفاع مستوى البحار والمحيطات نحو المتر الواحد. ويتوقع بعض العلماء أن يذوب في الصيف كل البحر المتجمد حول القارة القطبية ليعود ويتجمد شتاءً.
والواقع أن ارتفاع مستوى البحار لا يعود إلى إضافة حجم الجليد البحري بعد ذوبانه، لأن هذا الجليد يشبه قطعة ثلج في كوب ماء، لا يؤدي ذوبانها إلى زيادة حجم الماء. بل إن أسبابه تعود إلى عوامل أخرى مرافقة منها:
1 –
ذوبان جزء من الثلوج القارية على اليابسة وانتقالها إلى البحار كما هو الحال في غرينلندا مثلاً.
2 – تمدد الكتلة بفعل الحرارة الإضافية.
3 –
ديناميكية التيارات البحرية التي تزداد عنفاً عندما تتسّع مجالات حركتها، التي كانت تحد منها سابقاً مساحات شاسعة من الجليد.
ما يسهل تصوره هو أن ارتفاع سطح البحار متراً سيؤدي إلى تغير شامل يطال كل أوجه الحياة البحرية كما نعرفها الآن، وأعظم تأثيراته سيكون على المدن الساحلية في العالم.
قد تذهب أفكار البعض هنا إلى مدينة البندقية في إيطاليا، حيث ستصبح السياحة حكراً على الغوّاصين. وقد يقول البعض إن معظم المدن الساحلية تقع على ارتفاع يزيد عن المتر الواحد فوق سطح البحر. ولكن علماء البحار يؤكدون بسهولة أن ارتفاع سطح البحر متراً واحداً يعني أن الأمواج الناجمة عن الأعاصير البحرية ستضرب كيلومترات عديدة داخل اليابسة التي لم تكن تصلها سابقاً. ويؤكد هؤلاء أن “مناطق الدلتا” العامرة اليوم على مستويات لا تعلو كثيراً عن سطح البحر كما هو الحال في بنغلادش ومصر، ستشهد من الكوارث البحرية ما يجعل مساحات هائلة منها غير صالحة للسكن، وسيشهد العالم نزوح مئات الملايين في اتجاه العمق القاري البعيد عن الشواطئ. وإلى ذلك فإن عدداً كبيراً من الجزر الاستوائية الصغيرة التي لا تعلو كثيراً عن سطح البحر، ستصبح تحته وتغمرها المياه، إما إلى الأبد وإما في مواسم سنوية محددة، لتختفي منها كل الحياة النباتية والحيوانية التي نعرفها اليوم.
ومن الأمثلة المعطاة عن أثر الحرارة على الحياة البحرية هناك الحاجز المرجاني الأسترالي، وهو الأكبر في العالم، ويأوي نحو 1500 نوع من الأسماك. لقد خسر هذا الحاجز 27 في المئة من مساحته خلال القرن الماضي. وقبل فترة قصيرة أصدرت الأمم المتحدة أطلساً جغرافياً للمناطق المرجانية في العالم، وتوقعت زوالها كلها خلال القرن الحالي، مشيرة إلى أن حجم الكارثة التي يمثلها انقراض المرجان على نوعيات الأسماك وكمياتها، سيكون هائلاً على الصعيدين البيئي والاقتصادي.
إلى عالم مختلف تماماً
ونظراً إلى الجدية التي ميّزت اجتماع الخبراء الحكوميين في عام 1990م، وصدقية تقريرهم الواقع في ثلاثة آلاف صفحة.. انطلق العلماء في شتى الميادين إلى وضع تصوراتهم المستقبلية كل حسب اختصاصه، على ضوء احتمال زيادة سخونة الأرض، والمدهش أن ما من مختص في أي وجه من أوجه الحياة أو في أي من العلوم إلا وتوقع تحولات دراماتيكية في مجال بحثه.
ففي الزراعة على سبيل المثال تأكد أن زيادة الحرارة وارتفاع نسبة ثاني أكسيد الكربون يعجلان في نمو النباتات. واكتشف العلماء في مركز “سيماغريف” الأوروبي المتخصص في هذا الشأن أن أشجار الصنوبر صارت تنمو اليوم أسرع من السابق بمرتين ونصف المرة. وأن أشجار السنديان المزروعة حالياً تنمو عشرة سنتيمترات سنوياً أكثر مما كان الحال عليه قبل قرن من الزمن.
وبالنسبة للزراعات الموسمية مثل القمح والذرة، فقد قلّ الوقت الفاصل ما بين زراعة البذور والحصاد بشكل لحظه المزارعون أنفسهم في السنوات الأخيرة. أما الأشجار المثمرة فقد تقدّم موعد قطاف معظم أنواعها بين عشرة أيام وثلاثة أسابيع. وفي نهاية القرن المقبل، قد يزهر التفاح مثلاً في أواخر الخريف ومطلع الشتاء، وستنضج ثماره في شهر مارس(آذآر) بدلاً من يوليو(تموز)، إذا تركت عواصف الشتاء وأمطاره وثلوجه أزهاره على الأشجار؟!
أما الحياة الحيوانية فستتأثر (كما هو معلوم من زيادة الدرجة الواحدة حتى الآن) على ثلاثة صعد: اضطراب روزنامة البرنامج الحياتي للنوع الواحد مثل مواعيد التكاثر والهجرة وما شابه، وحركتها في اتجاه البيئة الملائمة، وإعادة تنظيم نفسها وفق تفاعلها مع الأجناس الأخرى المحيطة بها. وخلال العشرين سنة الماضية فقط، رصد العلماء انتقال عشرات الأجناس من الطيور والحشرات وحتى الحيوانات الثديية نحو 200 كيلومتر شمالاً.. ومن المرجح أن هذه الهجرة صوب الشمال ستزداد وتتسع خلال القرن الجاري، بشكل يوجب إعادة رسم خارطتها بالكامل.
وعلى الصعيد الصحي، سارع الأطباء وعلماء الأحياء إلى تدارس ما ستكون عليه أمراض نهاية القرن الجاري. كان من السهل عليهم التصور أن الذين يعانون من الربو وأمراض الجهاز التنفسي سيكونون من بين الأكثر تأثراً. ولكن ما يصعب تصوره هو حال الأمراض المعدية وانتشار فيروساتها، والحشرات الناقلة لها.
فإذا صدقت التوقعات المتعلقة بهجرة الحيوانات والحشرات شمالاً مع ارتفاع الحرارة، فإن البعوض الناقل للملاريا سيصل إلى أوروبا في منتصف القرن الجاري. وستخرج الأمراض المعدية مثل: التيفوئيد والحمى الصفراء من مناطقها الجنوبية حالياً لتطال أماكن عديدة إضافية لم تكن تعرفها سابقاً. أما الكوليرا فمن المرجح أن تجد أرضاً خصبة حيثما ارتفعت الحرارة والرطوبة وقلّت مياه الشرب النظيفة.
ومن المصادر الكبرى للقلق على الصعيد الصحي، هناك عائلة فيروسات الزكام الشتوي. فإن كان البعض يعتقد أن ازدياد الحرارة في المناطق الجافة سيلجم هذه الفيروسات عن النمو والانتشار، يتوقع البعض الآخر أن تؤدي الحرارة المرتفعة في المناطق الرطبة جداً إلى زيادة عدائية هذه الفيروسات وشراستها.
هل هناك بصيص ضوء؟
ما سقناه في هذا التقرير لا يعني أن البشرية ماضية إلى هلاكها، حتى لو صحّت كل هذه التوقعات. كل ما هنالك أن العالم كما نعرفه سيكون مختلفاً جداً. فهناك من يرى أن قرع جرس الإنذار اليوم على هذا المستوى من الجدية سيدفع البشرية إلى التصرف مع كوكبها في شكل أفضل. فلا شيء يمنع اكتشاف وسائل حرق الوقود والاستفادة منه بطريقة سليمة بيئياً أكثر مما هو حاصل الآن. ويضرب هؤلاء مثالاً البنزين الخالي من الرصاص الذي كان تطوراً كبيراً في هذا المجال. ولا شيء يمنع الحكومات من الانتقال في مكافحة تدمير الغابات الآسرة لثاني أكسيد الكربون، من مرحلة التحذير والتذمر الحالية إلى سنّ تشريعات وفرض عقوبات في غاية القسوة توقف عملياً تراجع الغطاء الأخضر للأرض. ويزيد المتفائلون أن الغابات الاستوائية لا تزال تستطيع أن تطبب نفسها بسرعة إذا توقفت الاعتداءات عليها.
ويشير آخرون إلى أن خطوات كثيرة بدأت تتخذ لمواجهة مناخ نهاية القرن. فالمركز البريطاني للأبحاث على المناخ “تيندال سنتر” صار يوصي مهندسي البناء بأن يأخذوا في حسبان مشاريعهم معدّل ضغط رياح يزيد ما بين 5 و 10 في المئة عمّا هو حالياً. وفي اليابان بدأت زراعة الحدائق فوق أسطح ناطحات السحاب والمباني الكبرى، بعدما بيّنت الدراسات أن طبقة من التربة بسماكة 8 سنتيمترات مغطاة بالعشب والشجيرات على السطح، تخفّض معدل الحرارة داخل المبنى بنسبة 25 في المئة.. وسيتكاثر مثل هذه الابتكارات والتحولات بشكل يمكّن الإنسان من مواجهة الكثير من ذيول المتغيرات المناخية المرتقبة.
أما المتشائمون، وهم للأسف ليسوا أقلية، فيرون أن تطور العلوم والطب والعمارة وما إلى ذلك سيقتصر على معالجة النتائج اليومية شبه المستقرة. أما التقلبات الكبرى فستبقى خارج السيطرة. ويرجّح هؤلاء أن الإنذار جاء بعد فوات الأوان.
———————————————
اقرأ للبيئة
قضايا البيئة في مئة سؤال وجواب
لو أخذنا تآكل طبقة الأوزون مثلاً، لوجدنا هذا الكتاب يطرح حولها خمسة أسئلة مختلفة: كيف يتكون الأوزون في الغلاف الجوي؟ ما الذي استرعى الانتباه لموضوع احتمال تآكل طبقة الأوزون؟ ماذا يمكن أن يحدث لو تآكلت طبقة الأوزون؟ هل تآكلت طبقة الأوزون فعلاً؟ ما هو بروتوكول مونتريال؟ والجواب عن كل سؤال من هذه الأسئلة يحتل صفحتين في الكتاب.
على هذا المنوال يطرح المؤلف الدكتور عصام حناوي مئة سؤال حول الشأن البيئي ويعرض لأجوبتها في الكتاب الجديد الصادر هذا العام عن المنشورات التقنية – مجلة “البيئة والتنمية” في بيروت.
وقد وزّع المؤلف أسئلته على ثلاثة محاور رئيسة هي: البيئة والتنمية، وقضايا البيئة الرئيسة، والعمل البيئي.
وبشكل عام، يمكن القول إن الكتاب الذي يقع في 222 صفحة نجح في ملامسة أي سؤال قد يخطر على البال في الشأن البيئي وقضاياه بدءاً بالهواء والاحتباس الحراري، وصولاً إلى العلاقة بين التجارة العالمية، مروراً بالتلوّث الإشعاعي، وقضايا المياه، والتصحّر والمخلفّات الصلبة.. وغير ذلك الكثير. ولأن الجواب عن كل سؤال لا يزيد عن صفحة ونصف الصفحة أو صفحتين، قد يتمنى الكثيرون لو أن المؤلف أعطى لنفسه المجال الكافي لتوسعة هذه الأجوبة والغوص في تفاصيلها أكثر. ولكن لا بد من الاعتراف بأن تنوّع الأسئلة المطروحة وشموليتها شبه الموسوعية، يجعل من هذا الكتاب مدخلاً ممتازاً لغير المتخصصين. كما أن الأجوبة المعروضة هي على مستوى من الدقة وسعة الاطلاع يؤهلها أن تكون محطات انطلاق لأبحاث مستفيضة أكثر.