علمونا في الجامعة، حين كنا ندرس الصحافة، أن لحرية التعبير شروطاً مشددة يجب أن يعيها الصحافي وإلا وقع وأوقع صحيفته في شر أعمالها. وبقينا طوال سنوات أربع نتجادل مع أساتذتنا حول ما يمكن اعتباره حرية تعبير وما يمكن تصنيفه باعتباره قواعد غير متفق عليها بالضرورة. كنّا نقول إن هذه القواعد أو الأطر غير المتفق عليها ربما تفقد الصحافة خاصيتها باعتبارها سلطة رابعة تراقب وتنشر وتُحرك رواكد مجتمعاتها، التي تعتبرها مشكّلة لآرائها ومؤثرة فيها.
بعد الجامعة تعرضنا كصحفيين للكثير من تجارب حرية التعبير وقيود هذه الحرية، ثم وعينا شيئاً فشيئاً أن ليس كل ما هو مطروح أو مطروق قابل للنشر. ثمة الكثير مما تصورت أنا كصحافي أنه صيد ثمين لي ولصحيفتي, ثم اكتشفت على طاولة رئيس التحرير أن النوايا الحسنة لا تشفع لما بين السطور من أبعاد قد تسيء إلى هذا التيار أو ذاك، أو تصيب شخصاً أو جماعة بالأذى، في الوقت الذي لم يكن قصدي إلا ممارسة سلطتي التي خولتها لي الصحيفة واعتراف المجتمع بهذه السلطة بغض النظر عن توابعها وربما أحياناً كوارثها.
يطرب الكثيرون للمقالات أو الأخبار التي تتناول بالنقد الشخصيات العامة ومنجزاتها وفاعلية مواقعها. كان شكل هذا التناول فجاً وكلما كانت الشخصية مرموقة، كلما كان لتناولها سلباً وقعٌ أكبر. وهذا الأمر هو بالتحديد ما يشكل فخاً للصحافي وإغراءً قاتلاً يدعوه إلى رفع نبرة قلمه أو ريشته أكثر فأكثر ليجد نفسه وقد وقع فجأة في المحظور مهنياً وأخلاقياً. وما يوقعه في المحظور هي مقاييس القارئ والمجتمع ذاتها التي فوضته كسلطة رابعة، بغض النظر عن ادعائه أو دفاعه بأنه التزم هذه المقاييس لكنه استخدم مهنيته الصحفية ضمن حرية التعبير.
إن طرب القارئ ليس مهمة الصحافي، بل خدمة مصلحة هذا القارئ. فنشر المعلومات التفصيلية، على سبيل السبق أو الانفراد الصحافي، عن القوى الأمنية في بلد معين لا يفيد القارئ بشيء بقدر ما يفيد المجرمين الذين تواجههم هذه القوى الأمنية. وإذا كان الأمر صحيحاً من خلال هذا المثال القائم على ما يمكن أن يكون معلومات مجردة وصحفية تماماً، فكيف يكون الحال بالنسبة إلى التحليلات ومقالات الرأي والرسوم المنشطة للأفكار والعواطف والقادمة من باب حرية التعبير.
من هنا، يبدو أن حرية التعبير لم تجد شاطئاً نهائياً ترسو عليه في مفهومها. وفي ظني أنها لن تجد هذا الشاطئ مهما جدّت السير إليه لصعوبة الاتفاق على المفهوم ذاته بين كاتب وآخر وصحيفة وأخرى ومكان وآخر. فلكل شخص أو جماعة أو أمة مفهوم خاص بحرية التعبير. ولذلك لم تحاول الحكومات والمنظمات الدولية أن تضع تعريفاً جامعاً مانعاً لمفهوم حرية التعبير، وإنما لجأت كل الحكومات، ومن دون استثناء، لسن قوانين النشر الإعلامي، كل حكومة بما تفرضه ثقافة مجتمعاتها وتنوع شعوبها وخضوعها لمقررات دولية باتت ملزمة، تبعاً لجهة صدورها، لجميع الدول ووسائل إعلامها.
ولا يجب أن نغفل عن أن الكثير من القوانين التي تسن لصالح حرية التعبير كثيراً ما تخرق من النظم ووسائل الإعلام كلما تعارضت مع ما يراه الحاكم أو المُشرع مصلحة عامة. وللناس في هذه الحالة أن يختلفوا على ماهو مصلحة عامة، وربما استمر خلافهم لعقود إلى أن يتم الاتفاق من خلال الحوار وتقريب وجهات النظر على نقطة التقاء.
ولكي لا تأخذنا تصوراتنا فيما يتعلق بمفهوم حرية التعبير إلى ما ينافي الواقع فإن كافة الدول، صناعية وثالثية، يجمعها اللغط المثار حول حرية التعبير وتجمعها أيضاً مسألة المصلحة الوطنية العامة والعليا التي تفرض قوانين جديدة أو تلغي قوانين قديمة قائمة. ولا تستطيع أية دولة، مهما بلغت من فتح الأبواب للتعبير، أن تدعي أن دساتيرها أو قوانينها تخلو من حدود لهذا التعبير. ولعل ما يثار هذه الأيام من مداولات عبر وسائل الإعلام قد أشار إلى طرف من هذه الحدود.
ولعلنا نصل الآن إلى أن المسألة، ببساطة، مفتوحة على مصراعيها وستظل المجتمعات والأمم تتجادل وتتحاور بشأنها زمناً طويلاً لتلتقي، كما التقت مرات كثيرة من قبل، على الاعتراف بأن حرية التعبير نسبية. وربما تكون نتيجة كل هذا الجدل البشري الأزلي والآني حول هذا المفهوم أن تتخلق قوانين دولية توجد ما يمكن وصفه بمسؤولية حرية التعبير: متى تبدأ وأين تنتهي..؟