هل حقاً أن الأديب يختلق الصراعات ليكون أحد أطرافها، فيوثق حيوية الحياة وحراك المعارك، أم أن القائمين على الثقافة قد أحالوا المهمة إلى منسوبي السلك الأكاديمي لتأطيره بسياج العولمة، وثورة التقنية. في المقالة التالية تقدِّم رحاب أبوزيد عرضاً مقتضباً حول مؤتمر الأدباء السعوديين الرابع الذي أقيم في الفترة ما بين 27 و29 أغسطس 2013م في عاصمة الثقافة الإسلامية للعام نفسه، المدينة المنورة.
لم يخل المؤتمر من أوراق متنوعة المرامي تصب في الأدب، وتحاول إيجاد مخرج آمن للجدل القائم بين الأدب وتأويل الآخر، الآخر والنقد السعودي المعاصر، وحتى الأدب والرسم الكاريكاتوري كان حاضراً في ورقة الدكتورة كوثر القاضي «الخطاب الأدبي في رسوم الكاريكاتير» التي تناولت فيها علاقة النص بالسياق واتخذت من محمد الخنيفر ورسوماته أنموذجاً في دراستها.
الأدب والترجمة
أما الأدب والترجمة فهو من أهم المحاور المتوجب إثارتها في كل محفل ثقافي، تفردت فيه ورقة مرتضى غازي عمروف في «ترجمة الإبداع السعودي» والتي تحدثت عن أول تجربة للترجمة إلى اللغة الروسية كانت من خلال ترجمة رواية «ثمن التضحية» للأديب السعودي حامد دمنهوري، قام بها غريغوري ليبليديف وتم اختيارها للترجمة لكونها إحدى الروايات الصادرة في مرحلة تأسيس الفن الروائي في السعودية، وقد نشرت في موسكو عام 1966م تحت عنوان «الحب والواجب». وفي بداية التسعينيات ترجمت إلى اللغة الروسية قصيدة للشاعر السعودي ووزير الثقافة والإعلام حالياً د. عبدالعزيز محيي الدين خوجة، وقصيدتان للأديبين راجح أبو غزالة وحسن القرشي، وبذلك اختصرت ترجمات الأدب السعودي إلى اللغة الروسية خلال القرن العشرين في هذه الأعمال فقط. أما التجربة الثانية لترجمة الإبداع السعودي إلى اللغة الروسية فهي ترجمة رواية «سقيفة الصفا» لحمزة محمد بوقري، قام بها مرتضى عمروف ونشرت في 2006م، أي بعد قرابة الأربعين عاماً من صدور ترجمة «ثمن التضحية». وتشير ورقة العمل إلى أن الدكتورة فاليريا كيربيتشينكو كتبت في مقدمة هذه الترجمة تقول: «إن القارئ الروسي الذي لم يكن قط في بلدان أوروبا وأمريكا يستطيع أن يتصور الحياة اليومية لمواطن عادي في باريس ونيويورك بسهولة لأن المكتبة الضخمة المترجمة من الأدب الغربي إلى اللغة الروسية بين يديه، أما ما يخص الحياة اليومية للمواطن «المكي» فيختلف تماماً لأن ترجمات إبداع أدباء بلدان الجزيرة العربية بما فيها السعودية يمكن عدّها على أصابع اليد الواحدة». وذكرت ورقة عمروف أن مجموعة من الباحثين والعلماء الروس قد قدَّموا موسوعة من مختارات الأدب العربي السعودي الحديث بعنوان «ما وراء الكثبان: انطولوجيا الأدب السعودي الحديث» عام 2010م مانحين بذلك فرصة للقارئ الروسي للتعرف إلى الأدب السعودي الحديث الذي يحتل مكانته الخاصة ضمن الآداب العربية، خاصة إذا ما علمنا بأن أكثر من مائة وخمسين كتاباً وبحثاً علمياً مكرساً للآداب من مختلف البلدان العربية قد تم نقلها إلى اللغة الروسية فقط على مدى النصف الثاني من القرن العشرين.
في السياق نفسه، ألقت نادية عبدالوهاب خوندنه ورقة بعنوان «نصوص سعودية في الذاكرة الغربية» تناولت رواية «شقة الحرية» و«سبعة» من أعمال غازي القصيبي المترجمة اللتين تمكنان قارئهما من التعرف إلى خصائصه الفنية كروائي ينتمي إلى مدرسة الحداثة. وخلص البحث إلى أن ترجمة الروايات السعودية التي تصور أحوال مجتمعاتها بصورة واقعية وإن كانت صادمة وأليمة على الرغم من إلباسها ثوب الفكاهة، تسهم في التقريب بين الشعوب حينما يتشاركون في هموم إنسانية يعبر عنها الأدباء بصدق مما يسهم في تأصيل مفهوم الأدب العالمي.
الفيسبوك: وجه الكتاب
على الأرجح أن علاقة الكاتب بمواقع التواصل الاجتماعي كانت تنحصر في نشر عناوين إبداعاته بين المتابعين والأصدقاء بهدف تحقيق رقعة انتشار أوسع، ومما لا ريب فيه أن معظم هؤلاء الأدباء يملكون حسابات على هذه المواقع التفاعلية، لكن ورقات العمل المطروحة في المؤتمر كانت في مجملها تعبر عن الأسف على التأخر في مواكبة متطلبات النشر الإلكتروني المباشر أي بعيداً عن الكتاب الورقي، ففي ورقة د. عالي سرحان القرشي توصيف لدور المتلقي – وهو القارئ القديم – في صناعة النص حيث أضحت الكتابة في حال شراكة حقيقية بين الكاتب والقارئ، فالحوار حي، ويصبح النص عبر هذه التقنية ليس مرتهناً لوسيلة توصيل محددة فالنص المقروء يؤول إلى مسموع وإلى مشَاهد في الآن نفسه، لذا أصبح النص في أساس تكوينه يستدعي حيوية في التوافق مع هذه الوسائل فالإيقاع الصوتي والبصري أصبحا من مستلزمات تحرير النص.
لم تبتعد كثيراً عن الفكرة نفسها ورقة عبدالرحمن المحسني «اتجاهات الشعر السعودي على الفيسبوك» وبدا الجميع في استسلام تام للحراك الجديد على منافذ التقنية والذي يقصر معه مع الأسف الفعل النقدي المتابع والكاشف لأبعاد هذه التجربة تناول المحاضر تطبيقاً نصياً على نص شعري للشاعر السعودي عبدالله الصيخان على الفيس بوك، وهي قصيدته «بالأمس عجت على القباب أزورها». في المقابل تناولت الكاتبة أميرة الزهراني دراسة نصية في ضوء الوسيط الإلكتروني عبر ورقتها «القصة القصيرة جداً في تويتر»، وأشادت بالخطوة الجريئة التي أعلن عنها النادي الأدبي بالرياض في بادرة تعدّ الأولى على المستوى المحلي وهي تخصيص مسابقتها الموسمية للقصة عبر فضاء تويتر، أن تُكتب قصة قصيرة جداً في أي موضوع يختاره المشارك ولمجمل مستخدمي تويتر، وطرحت المحاضرة عبر بحثها سؤالاً في غاية الأهمية هو: هل خدمة الأدب والرغبة في إنعاشه تبرر الوسيلة؟ وهنا اعتراف بسلطة التقنية الحديثة ومحاولة لمواكبة القفزات التكنولوجية.
اغتراب الأدب بين التفاعلي والكلاسيكي
قد يفاجأ الأديب الغارق في أفكاره وكتبه وأوراقه وأحباره بضيف يطرق بابه، يقلق راحته، ويشاركه المساحات الشاسعة التي يحيط نفسه وعالمه بها، يجد نفسه أمام خيار واحد لا مناص منه وهو تقبل هذا الضيف بصدر رحب أو ضيق، وما مصطلح الأدب التفاعلي الذي عنوَن مؤتمر الأدباء السعوديين الرابع إلا كهذا الضيف الغريب المهيب. كثيراً ما نوقشت جدليات في مكنون الاستحداث الأدبي بين «قدماء» يتشبثون بكلاسيكية الفكر وحداثيين يراودون الجديد بما جد، الظرفية الرقمية الآنية فرضت اهتماماً بإشراك التقنية في المسار الأدبي على اختلاف انتماءاته منتجة لغة تواصل اجتماعي يعوّل عليها في ادماج التناقض تحت لواء الاستمرارية. هذا بعض ما جاء في ورقة عبدالله الخثعمي «الأدب التفاعلي/ الرقمي.. رؤية عربية» التي ركزت على كثير من القضايا البارزة وإشكاليات الإبداع الرقمي في الكتابة الأدبية عند الغرب التي شكلت منجزاً غير معلن، بينما يقف العرب في حالة ذهول من طبيعة هذا المنجز وكيفية إبداع النص الرقمي وتلقيه والتفاعل معه.
النقد يختطف المنصة!
لا يختلف كاتب وأديب على انحسار الدراسات النقدية المنصفة للأعمال الجديدة وكأن هناك تجاهلاً مقصوداً للإنتاج الأدبي الشبابي إذا صلحت التسمية، أو قد يوسم هذا الهدوء في تلقي الأعمال الأدبية الجديدة بالهدوء الذي يلي العاصفة لا الذي يسبقها إذا ما قبلنا جدلاً أن ثورة التقنية التي طغت على حياتنا العامة والأدبية هي أولى بشائر العاصفة.
وعلى الرغم من حالة التأزم التي تحيط بالعلاقة بين الأديب والناقد على مرّ الحقب الأدبية المتواترة، إلاّ أنها تمرّ بأسوأ مرحلة على الإطلاق من الارتباك والتشابك، وما أدلّ على ذلك إلا بعض عناوين ورقات العمل المطروحة في مؤتمر الأدباء السعوديين الرابع، هي في محتواها غنية بالقواعد العلمية التي تطمح لإخضاع النص والأديب لسلسلة من القوانين الصارمة بغية السيطرة على الشكل الإبداعي للأديب كما اعتاد عليه، أو ربما سعياً لتفسير مفاهيم ذاتية أرادها الأديب بإصرار جليّ لكن دون وعي منه لكينونتها، وهذا هو مربط الفرس في تعقّد العلاقة بين الطرفين.
لم تتحول بأن المصطلحات المقعّرة والمنتقاة بعناية إلى رصيد ثابت في حسابات الأديب الذي يستثمر في الفكر والإبداع وتجسيد هموم قومه ومعاناة البسيط منهم والفاره من أجل الأدب للأدب ومن أجل الذاكرة الإنسانية، وحفظ التاريخ المجتمعي بتفاصيله الدقيقة في صناديق روائية أو شعرية تحرز حتى بلغتها ومحتواها طبيعة هذا الزمان عن ذاك.. مدى ما بلغته عبقرية من عاشوه وتبنوا تمثيله بين العصور.
تبدو المقارنة مع التجارب العالمية على كل الأصعدة مقارنة غير متكافئة.. كما تبدو أسبقية الغرب في تسجيل المتغيرات النفسية والمجتمعة ورصد التجربة الإنسانية بوجدانياتها وانفعالاتها وغرائبيتها ربما لتفاوت معايير أخلاقية خاصة كالعيب والتابو وسلطة المجتمع، الأمر الذي قد يسوّغ الانتقال التمهيدي التدريجي نحو الأشكال الجديدة من الكتابة الأدبية بما يتلاءم وميول الشباب وتفضيلهم للقراءة والتفاعل مع كاتبهم المفضل عبر الشبكة العنكبوتية، لا يمكن بأي حال من الأحوال إنكار أن ذلك قصّر المسافات وعبّد الطرق نحو أسماء النجوم الذين كنا نلمحهم في السماء ولا نملك الحديث معهم.
ولكن هل سيفرّغ ذلك التدخل الصلف إلى قلب العمل الأدبي من قيمته ومحتواه؟ هل سيتقبل جرَّاح متخصص في غرفة عمليات مقاطعة جرَّاح آخر له وإجراء تعديل على خط سير العملية! هل سيبقى النص طريحاً تحت تصرف كاتب واحد يثق به؟ ستكشف الأيام المقبلة والقراءة العميقة وحدها للأعمال المتجددة عن آليات مختلقة بالكامل تمكننا من تقييم المرحلة التحولية التي يمرّ بها الأدب.