قديماً، قيل إن الشعر هو ديوان العرب. والأمر صحيح، لأن العرب حمَّلوا شعرهم أقصى ما يمكن لأي فن رفيع أن يحمل: العادات والتقاليد والحوادث والمفاهيم والنظرة العامة إلى العالم من حول الإنسان. واليوم هناك من يرى أن الرواية هي التي أصبحت ديوان العرب، (وأذكر أن مجلة القافلة عرضت هذه الفكرة في أحد أعدادها السابقة). ونحن لا نعتقد أن مثل هذا القول ينتقص من قيمة الشعر المعاصر، بقدر ما يشير إلى نضوج الرواية العربية في العصر الحديث ومكانتها المرموقة بين ألوان الأدب.
وبشيء من رحابة الصدر يمكننا أن نضيف القصة والقصة القصيرة جداً إلى الألوان الأدبية المزدهرة من حولنا اليوم، حتى وإن كان المزاج الشخصي لبعضنا لا يتذوق لوناً معيناً من ألوان الكتابة الأدبية. إذ إن قبول حق الآخر في الاختلاف، شرط لا بد منه لسلامة التقييم الموضوعي.
ولكن نظرتنا إلى «الديوان» الشعري أو الروائي، تثير إشكالية تتعلق بحال الثقافة ككل. فثمة ما هو غير سوي في الثقافة التي يتطور فيها أحد فروعها ليبلغ مكانة رفيعة المستوى على صعيدي الكم والنوع، في حين تبدو الفروع الأخرى متخبطة في مكانها، عاجزة عن الارتقاء إلى مستوى ذلك الفرع المتطور.
يشير الباحث والناقد الفرنسي إتيان سوريو في دراسته القيِّمة حول «تراسل الفنون» إلى وجود ترابط وصلة قربى قوية ما بين كل الفنون في كل ثقافة. ومن صلة القربى هذه، نتوقع أن يكون ازدهار هذه الفنون، أو انحطاطها، عاماً ومشتركاً تحدده الظروف التاريخية والاجتماعية المحيطة بها.
ولو أخذنا الثقافة الأوروبية مثلاً، للاحظنا أن فن الرسم يشكِّل ديوانها الكبير. حيث لعبت اللوحة الزيتية في الحضارة الأوروبية الدور الذي لعبه الشعر عند العرب. فأرَّخت، وخطبت، ودوَّنت، وعبَّرت عن كل تلك الأمور التي أرَّخها الشعر العربي، وخطب فيها، ودونها وعبَّر عنها.
ولكن بموازاة اللوحة وتطورها، كان فن العمارة، والشعر والمسرح والرواية، والموسيقى وكل الفنون الكبرى والصغرى تتطور وتتكامل فيما بينها لتصوغ «الثقافة الأوروبية».
إن إشكالية الثقافة العربية المعاصرة تكمن في تركيزها الشديد على ديوانها، الذي مهما بلغ شأنه من رفعة المستوى، فسيبقى عاجزاً عن حمل هذه الثقافة برمتها. إذ إننا لا نجد اليوم قبالة «ديواننا» ما يوازيه نضوجاً وغزارة على مستوى باقي فروع المعرفة والثقافة والفنون. إذ ما من ناقد يجرؤ على القول إن الفن التشكيلي بلغ مستوى الرواية، ولا إن فن العمارة هو مجال ابتكار يوازي عندنا مجالي الشعر والقصة.. فكيف الحال إذا أضفنا المعارف العلمية التي تشكِّل إلى جانب الفنون أساس الثقافة العامة لأي مجتمع.
نحن مع الترحيب بأي إبداع، ومع الاعتزاز بديوان العرب الشعري والروائي.. ولكن هذا لا يُغنينا عن السعي إلى تطوير الفروع الأخرى في ثقافتنا. وإلا، فإن «ديوان العرب» سيبقى مجرد ديوان، وتأثيره لن يخرج من «الديوانيات» ليطال المجتمع ويطوره كما يفترض في الثقافة الحية أن تفعل.