طاقة واقتصاد

كيف يسقط العظماء
دروس لمن لم يسقط منهم.. بعد

عُرف جيم كولينز، الباحث الأمريكي في شؤون القيادة وإدارة الشركات، بتبنيه الجانب المشرق للأمور في أعماله الأولى، حيث استكشف في كتابيه الأكثر مبيعاً «بُنيت لتبقى» و«من جيّد إلى عظيم» كيف يمكن للشركات أن تصل إلى القمة في أدائها. واليوم، يقدم كولينز في مشروعه الجديد «كيف يسقط العظماء» تحليلاً دقيقاً للمراحل التي قد تمر بها أية شركة، مهما بلغ نجاحها، في طريقها للحضيض. فاطمة الجفري تعرض أبرز ما جاء في هذا الكتاب.
للوهلة الأولى ستظن أن كتاب جيم كولينز الجديد «كيف يسقط العظماء» يتحدث عن سقوط الإمبراطوريات الكبرى. خاصة وأن اسم الكتاب، بالإضافة إلى تصميم الغلاف قد يعطيانك هذا الانطباع، إلا أن قراءتك للعنوان الفرعي «لِمَ بعض الشركات لا تستسلم مطلقاً للهزيمة» تكفل معرفتك لما يتحدث الكتاب عنه. الانطباع الأولي ليس بالضرورة انطباعاً خاطئاً. أليست الشركات الكبرى، بشكلٍ أو بآخر، هي إمبراطوريات العصر الحديث؟

بدأ كولينز كتابة هذا الكتاب الصغير، نسبياً، كمقال يعمل عليه بينما يستكمل بحثاً معمقاً مع زميله مورتن هانسن حول ما يقتضيه العيش في عالم خارج عن السيطرة. لكن السؤال الذي طرحه المقال «كيف يسقط العظماء؟» خرج من القمقم الذي أراده له صاحبه، وتحول إلى كتاب تزامن اكتماله صدفةً مع انهيار بعض أكبر المؤسسات المالية في أمريكا في الأزمة الاقتصادية التي بدأت العام الماضي وعصفت بالعالم أجمع.

السؤال هو: كيف يمكن لشركة ما أن تنحدر؟ والجواب ليس مجرد إشباعٍ لفضولٍ مترف، بل لمعرفة المراحل التي تمر بها الشركات ليمكن وقف السقوط أولاً، ثم عكسه للصعود مرة أخرى. خمسة مراحل وضعها كولينز لتفصيل الرحلة إلى القاع، يمر بها الساقطون مرحلةً بعد مرحلة على التوالي.

المرحلة الأولى: غطرسة الناجحين
يمكن للنجاح التراكمي أن يدفع بالمؤسسة إلى الأمام لفترة ما، حتى إن توقفت محركاتها عن العمل بشكل سليم. هو نوع من القصور الذاتي الذي تظهر من خلاله الشركة بكامل عافيتها بينما تكون في الحقيقة قد أصيبت بوصلة قادتها بالاختلال، أو دفعهم الغرور إلىاتخاذ قرارات غير مدروسة ظناً منهم أنهم بوصولهم إلى القمة قد ضمنوا البقاء عليها.يستشهد الكاتب هنا بقصة شركة «موتورولا» التي حققت سلسلة من النجاحات والأرباح وصلت في العام 1995م إلى إنتاج أصغر هاتف محمول في العالم، بتصميم لم تعهده أسواق الهواتف المحمولة الناشئة وقتذاك. وعندما أتت المرحلة النهائية لطرح طراز جديد من هواتفها في الأسواق، فرضت موتورولا شروطاً شبه مستحيلة على منافذ البيع. منها على سبيل المثال ألاَّ تعرض المحلات أي نوع آخر من الهواتف المنافسة. رفضت شركات التوزيع هذا التعنت. وبينما انتظر قادة موتورولا في ثقة إعلان الموزعين استسلامهم للشروط، كانت شركات الهواتف المنافسة تجتاح منافذالبيع، وتزيح موتورولا عن صدارة الشركات المنتجة للهواتف المحمولة إلى شركة تكافح لتبقي على %17 فقط من حصة السوق خلال أربع سنوات فقط.

المرحلة الثانية: السعي الفوضوي للأكثر
ويقود الإحساس الزائف بالعظمة وربما بالعِصْمة أيضاً إلى المرحلة الثانية مباشرة، فتندفع الشركة في مطاردة غير منضبطة للأكثر. نمو أكثر، ربح أكثر، ثناء وشهرة أكثر. وبدلاً من التفكير الخلاق الملتزم بضوابط تضمن النجاح أو على الأقل ترجحه، تقدم الشركات هنا على مغامرات غير محسوبة تؤدي إلى أداء متواضع.

ورغم أن من المتعارف عليه أن مقاومة التغيير والرضى عن الأداء الأقل في مواجهة الجديد هو سمة يمكن أن تؤدي بأي منظمة إلىالفشل، إلا أن المنظمة التي تسيرها ثقةٌ متعجرفةٌ بنجاحها يهددها خطر أكبر، وهو تلك المغامرات الحمقاء تحت مسمى التغيير والتطوير. شركة «آمِس»، الشركة المنافسة لعملاق تجارة البيع بالتجزئة الأمريكي «وول مارت» أقدمت في العام 1988م علىالاستحواذ على شركة «زاير» بهدف مضاعفة حجمها (حجم آمِس) إلى أكثر من الضعف خلال سنة واحدة فقط. وأنفقت الشركة على هذا الاستحواذ أرباحاً تراكمية خلال ثلاثة عقود، دون أن تضع في الحسبان أن المسرح الذي قدمت عليه آمِس أعظم أداء لها كان في المناطق الريفية، بينما زاير كانت لاعباً أساسياً على مسرح المدن.. والخلط الذي عانت منه خطة آمِس الاستراتيجية دفعها في العام 1992م إلى إعلان إفلاسها، بينما واصلت وول مارت نجاحها إلى اليوم.

المرحلة الثالثة: نفي المخاطر والتهديدات
عند تصاعد بعض الأصوات المحذرة داخل الشركة من عواقب المغامرات غير المحسوبة، مدعومةً بأدلة تفصيلية حول التهديدات التي تواجهها الشركة وإن بدت جانبية، يصرف القادة أنظارهم وأسماعهم عنها. البعض منهم يشير إلى أن النتائج النهائية لأداء الشركة لم تُظهِر تراجعاً يذكر، وأن الأدلة التفصيلية هي وقتية أو ليست بهذا السوء. البعض الآخر يبدأ في تفسير البيانات المبهمة لصالحه ليؤكدأن الشركة في طريقها الصحيح.

يعود الكاتب هنا إلى شركة موتورولا التي أتمت تطوير نظام هاتفي جديد باسم «آريديوم» عام 1996م بعد أكثر من عشر سنوات من البحث والتطوير. في العام 1985م، وهو العام الذي بدأت فيه موتورولا العمل على هذا النظام، كان العالم بأكمله يحتاج إلى شبكة لاسلكية كالتي تقترحها موتورولا، إلا أن عشر سنوات غيرت الكثير، والهواتف المحمولة التي كانت قد بدأت تغزو العالم بكثافة عام 1996م ألغت تماماً الحاجة إلى «آريديوم». مع ذلك، تجاهلت موتورولا التحذيرات، وأطلقته عام 1998م لتعلن إفلاس المشروع بعد سنة فقط من إطلاقه، ووقوعه في ديون تقدر بأكثر من بليون ونصف البليون دولار.

المرحلة الرابعة:
التشبث المحموم بأطواق النجاة
تراكم النتائج السلبية لمغامرات المؤسسة يؤدي بها إلى انحدار واضح قد يعتقد البعض أنه مفاجئ ومن دون مقدمات. السؤال هنا: كيف يتصرف قادة الشركات أثناء وضع كهذا؟ هل يتشبثون كما يتشبث الغريق بقشة وراء قشة لا تنجي من الغرق، أم بالعودة إلى الضوابط التي على أساسها حققت الشركة النجاح في أيامها الأولى؟ نمط معتاد من أنماط هذا التشبث هو اللجوء إلى قائد جديد بكاريزما ورؤية جديدة لم يثبت الوقت نجاحها بعد، أو تحولٌ دراماتيكي عن مسار الشركة أو ثقافتها، أو منتج جديد يعج بأمل قلب الموازين وإدارة الدفة لصالح الشركة، وغيرها كثير من الاستراتيجيات التي تقدم عليها الإدارة بعجلة ودون دراسة على أمل إيقاف التدهور بضربة قاضية.

المرحلة الخامسة:
الاستسلام للعادية أو الموت
كلما طال بقاء الشركة في المرحلة الرابعة (محاولة التشبث بأي طوق نجاة)، كان سقوطها مؤكداً وربما تسارع. تراكم الإخفاقات والأخطاء المكلفة يستهلك القوى المالية للمؤسسة ويستنزف معنويات موظفيها لدرجة قد يفقد القادة معها كل أمل في بناء مستقبل مشرق.

بعضهم قد يبيع المؤسسة لطرف آخر، والبعض الآخر يرى مؤسسته تتقلص أمام عينيه لتصبح غير مؤثرة وعادية. وفي بعض الحالات المتطرفة، تموت المؤسسة تماماً وكأنها لم تكن.

كتاب «كيف يسقط العظماء» مليءٌ في غالبيته بالأمثلة الحية، والدروس المستقاة التي لا تعصى على فهم وتذوق القارئ العادي، بينما تطرح للقارئ المتخصص منجماً من العبر. وقد يكون الكتاب دراسةً لانهيار الشركات، إلا أنه في نفس الوقت يقدم بتحليله الدقيق والمتبصر منارةً تقول للشركات الضائعة أن الطريق إلى البر متاح، وربما يكون أسهل مما نتوقع.

أضف تعليق

التعليقات