ديوان اليوم

الشاعر محمد جبر الحربي

  • 57 (portrait_021)
  • 59 (painting_022)
  • 63 (_STU3264(1)
  • 65 (_STU3264(2)

يستضيف هذا الباب المكرّس للشعر قديمه وحديثه في حلته الجديدة شعراء أو أدباء أو متذوقي شعر. وينقسم إلى قسمين، في قسمه الأول يختار ضيف العدد أبياتاً من عيون الشعر مع شروح مختصرة عن أسباب اختياراته ووجه الجمال والفرادة فيها، أما الثاني فينتقي فيه الضيف مقطعاً طويلاً أو قصيدة كاملة من أجمل ما قرأ من الشعر.. وقد يخص الضيف الشاعر القافلة بقصيدة من آخر ما كتب.
يقول ضيفنا الشاعر محمد جبر الحربي إن الشعر كالحب ليس له تعريف دقيق، ولا توصيف عميق، لكنه أقرب ما يكون للشجر، متشابه، وغير متشابه، له تربته المعرفية، وله جذوره الضاربة في التاريخ، وله بوصلة الاستدلال على الينابيع، وله القدرة على شق الأرض والحجارة، كما له القدرة على التشبث بها، والشعر كالشجر يسمو دائماً نحو الشمس والأفق، يزهرُ ويثمرُ، وتغني من خشبه أعواد الدهشة، وتردد خلفه أصوات المنشدين. يقاوم الريح، ويتثنى مع النسيم، ويمزج الأضداد، فهو على سفرٍ.. ومقيم، ظلالُه خاصة ومشاعة، وفاكهتهُ مُحللة، محرّمة!!
والشعر ليس له زمن، فهو متداخلٌ من ناحيتي التاريخ والقيمة: قديمٌ حديث، وحديثٌ حديث، وحديثٌ قديم.
وهو كالماء والأواني المستطرقة، يتشكل كيف يشاء، لكنه في النهاية ماء.

وهناك شعراء يختصرون لنا معنى الشعر وإشكالاته عبر قصيدهم، ومنهم الشاعر الحديث بمعنى الجدة، القديم بمعنى الجودة، الراحل الكبير، البعيد القريب، البصير الرائي، عبد الله البردوني (1929 – 1999م)، لكم من بساتينه هذا الرحيق:

في قصيدته الشهيرة أبو تمام وعرب اليوم، يشكو البردوني، نكسة العرب وحالهم إثرها، كما فعل معظم من عاشها، وقد اختار البوح لأبي تمام، بينما اختار أمل دنقل البكاء بين يدي زرقاء اليمامة، ويوسف الصائغ مالك بن الريب، وغيرهم، كتحول في استعادة واستعارة الرموز العربية الإسلامية بدلاً من الرموز الإغريقية في بداية الشعر الحديث:
ماذا جــــرى يا أبا تمام تسألني
عفواً سأروي ولا تسأل.. وما السببُ
اليوم عادت علوج الروم فاتحةً
وموطنُ الَعَــرَبِ المسـلوبُ والسّــلَبُ

وينابيعُ البردّوني عديدة ومتنوعة تصبّ في نهر واحد، هو نهر الإنسان العربي المبدع الأسير، ذو الأجنحة ولا يستطيع الطيران، العالم بالحال، الناطق بلسانه، كما في قصيدة مصطفى من ديوانه الرائع المكتمل حيث بلغ الذروة « كائنات الشوق الآخر»:
فليقصفوا لست مقصف
وليـعنـفوا أنت أعنَـفْ
لهـم حديــــــــــــدٌ ونارٌ
وهم من القشّ أضعفْ

وهو يرى أن الخلل كامن في التكرار، والتقليد، والدوران الفارغ:
لأنهم لهواهـــــــم
وأنت بالنــــاس أكلف
يجزّئون المجزّا..
يُصنّفــون المُـصَــنّف
لذا تلاقي جيوشاً
من الخواء المزخرَف

والحل هو فيك ومنك أنت أيها الواعي العارف، والسرّ – وإن كنت على فقر- تحت قميصك المنَتّفْ، فلا يأس، حين تشع النظرة بالأمل والغد وشمس الحياة، مهما ادلهم الواقع:
يا مصطفى يا كتاباً
مـن كلّ قلبٍ تـــــألّفْ
ويا زماناً ســــيأتي
يمحو الزمان المزيّفْ

أما المصطفى محمد (صلى الله عليه وسلم) فيخصه شاعرنا بقصائد منها «يقظة الصحراء» و«طه»، و«بشرى النبوءة»، وفيها هذا الوصف الجديد الجميل للرسول:
رأى اليتيـم أبو الأيتـام غايتـــــه
قصوى فشق إليها كل مضمارِ
وامتدت الملة السمحا يرفّ على
جبينِها تاجُ إعظــامٍ وإكبـــــارِ

انظروا إضافة إلى أبي الأيتام، إلى الحنان والتطهير الذي يقترن بالفتح، إنه دين رحمة وعدل، لا قسوة وحقد وظلم، فالظلم احتواه القبر:
مضى إلى الفتحِ لا بغياً ولا طمعاً
لكن حناناً وتطهيــــــراً لأوزارِ
فأنزلَ الجورَ قبراً وابتنى زمنـــاً
عدلاً… تدبره أفكــارُ أحـــرارِ

والبردوني قريب من أبي العلاء المعري في عماه وتأمله وفلسفته وأسئلته الكاشفة:
لماذا المقطف الدانـي
بعيدٌ عن يدِ العــــــاني؟
لماذا الزهـــــــر آنيٌّ
وليس الشوك بالآنـــي؟!
لماذا يقدر الأعتـــــى
ويعيا المرهفُ الحانـي؟!

وكذلك قريب منه في ارتهانه، وكان ذلك في عهد الإمامة، فسجن، وعمى، وقيد، وجرح:
هدّني السجن وأدمى القيـد ســاقي
فتعاييت بجرحــي ووثـــــــاقي
وأضعتُ الخطوَ في شوك الدجى
والعمى والقيد والجرح رفاقي
في سبيل الفجر مــــــا لاقيت في
رحلة التيه وما سوف ألاقـــي
سوف يفنى كلّ قيــدٍ وقـــــــــوى
كلّ سفاحٍ وعطر الجرح بـاقي

وهو مشغولٌ دائماً بالأضداد: الخير والشر، الحق والباطل، العدل والظلم، الورد والشوك، والسعادة والحزن… أو ليس كذلك الشعراء؟! وها هو في وقفة تأمل بارعة:
كلما غنت جرى من فمهــا
جـــــــدولٌ من أغنيــاتٍ وشكايـــــا
أهي تبكي أمْ تغني أم لهــا
نغمُ الطّـــيرِ وآهــــــاتُ البـــرايــــا

وهو يحتار في سر ذلك الصوت الجميل النقي، البهيج الحزين:
هل لها قلبٌ ســــعيدٌ ولها
غيــرُهُ قلـبٌ شقيٌّ فـي الرّزايـــــــا
أمْ لها روحان روحٌ سابحٌ
في الفضا الأعلى وروحٌ في الدنايا

وكما تَميز البردوني بموسوعيته، وغزارة شعره ونثره، وذاكرته المتقدة، تميز بسخريته اللاذعة حتى من نفسه ومحبوبته صنعاء، ومن ذلك أنه سئل عن صنعاء التي يحب فأجاب بأنه من أراد أن يعرف أحوالها فلينظر في وجهي، أما عندما شكوه مرة على القاضي قال للجميع: ليس على الأعمى حرج!! ويكثر ذلك في شعره الناقد النافذ، وها هو يسائل اللص في قصيدة «لص في بيت شاعر»:
مـاذا وجـدت سـوى الـفراغ،
وهرّة تَشْتَمّ فـــــاره
ولهاث صعلوك الحروف
يصوغ من دمه العباره
يُـطفي الـتوقّدَ بـاللظى،
ينسى المرارةَ بالمراره
لـم يبقَ في كُوبِ الأسى شيئاً،
حَسَاهُ إلى القــراره

وهو يسخر من فقره، ومن اللص عديم الحظ، سيء الاختيار:
مـاذا؟ أتلقى عند صعلوكِ البيوت غِنى الإمـاره
يـا لـصُّ عفواً إن رجعتَ بدون ربحٍ أو خساره
لـم تـلقَ إلاّ خـيبة، ونـسيت صندوقَ السجــــاره
شـكراً، أتـنــوي أن تُـشرفنا، بـتكرارِ الزيـــاره

وللفن لديه فلسفة، كما للجراح فلسفة:
بي ما علمت من الأسى الدامي وبي
من حرقة الأعماق ما لا أعلمُ
بي من جراح الروح ما أدري وبـي
أضعاف ما أدري وما أتوهـمُ

ورغم سوداوية بعض قصائد البردوني:
وكأن روحي شعلةٌ مجنونــــةٌ
تطغى فتضرمني بما تتضرّمُ
وكأن قلبي في الضلوع جنازةٌ
أمشي بهـا وحدي وكلّي مأتـمُ

إلا أنه يجد مساحة للفال ولو في الحلم:
حرمـاني الحرمـان إلا أنـني
أهذي بعاطفة الحياة وأحلمُ
والمرء إن أشقاه واقعُ شؤمهِ
بالغبنِ أسعَدهُ الخيال المنعمُ

وفي النهاية فإن حداثة البردوني لا تتجلى في
فكره، شعره، ومضامينه، بل هي بينة حتى في
عناوين دواوينه، فأترككم مع بعض أسمائها
العميقة الشاعرة: وجوه دخانية في مرايا الليل،
ترجمة رملية لأعراس الغبار، رواغ المصابيح،
والسفر إلى الأيام الخضر؛ لتطلقوا لأخيلتكم
العنان!!

أضف تعليق

التعليقات