الثقافة والأدب

القانوط
مصارع على حلبتي الحياة والموت

بعد مجموعاته القصصية التي كانت باكورة أعماله الأدبية، يتجه الأديب السعودي عبدالحفيظ الشمري منذ نحو سنوات خمس سنوات إلى تكريس مكانته على الساحة الروائية. وينشر اليوم روايته الثالثة «القانوط».
هيثم السيد يقدِّم قراءته لهذه الرواية المميزة بابتعادها عن «الملامح المشتركة» في عدد كبير من الروايات التي ظهرت في الأعوام الأخيرة، فيحلل بعض جوانب فرادتها الأدبية مضموناً وأسلوباً واستخداماً للرمز، ليختار لاحقاً مقتطفات معبّرة عن مناخها.
من تجربة ثقافية متنوعة المشارب وغنية التجليات، ينطلق عبدالحفيظ الشمري منذ سنوات عبر مشروع مهم على مستوى الكتابة السردية، بدءاً من أول أعماله المنشورة في عام 1992م وهي مجموعة قصصية بعنوان «الكادحون» مروراً بمجموعاته التالية التي نشرها في فلك ثلاثة أعوام.
وهي على التوالي «دفائن الأوهن»، «تهرأت حبالها» و«ضجر اليباس» التي تعد الأشهر من بين أعماله. وقد صدرت تلك المجموعات في الفترة الواقعة بين العامين 1997 و2000م، ليتجه المنحى الإبداعي للأديب الذي عرف أيضاً بحضور مميز في الصحافة الثقافية، إلى كتابة الأعمال الروائية وكأنه يتصالح في منهجيته الجديدة مع القناعات التي تعتقد أن الرواية مشروع أكثر اتساعاً وقابلية لتوثيق نفسها في الزمن وتوثيقه فيها. والملاحظ أن هذا الاتجاه لدى الشمري بدأ قبل سنوات من موجة الهيجان الروائي الشهيرة التي شهدتها الساحة المحلية في الفترة الماضية. ولربما كانت المنهجية ذاتها التي بدأت في عام 2001م من خلال رواية «فيضة الرعد» تؤسس لتحول كتابي يتبنى الشكل الروائي كوسيلة أكثر استيعاباً لتغيرات حضارية وتاريخية واجتماعية مستجدة ألقت كذلك بظلالها الثقافية على منظومة الوعي الأدبي والفكري، وربط التحولين ببعضهما هنا سواء على مستوى تجربة عبدالحفيظ الشمري الإبداعية أو على مستوى التاريخ الإنساني، لا يمثل بالضرورة قصدية التأثر بالظرف الزمني في تحديد مسار الكتابة، بقدر ما يربط فقط تغير الواقع الحضاري بتغير وسائل التعبير، تبعاً لطاقاتها الفنية والأدائية التي تجعلها قادرة على مواكبة ذلك الواقع.

الكتابة بعين القارئ
ثلاث روايات أعقبت ذلك التحول المنهجي في الأعمال المطبوعة للأديب الشمري، حيث جاءت «جرف الخفايا» في 2004م، و«غميس الجوع» في 2008م، لتعقبها في العام التالي فقط روايته «القانوط» التي نحاول فيما يلي نسج قراءتنا الانطباعية حولها، وقد مثلت إحدى أهم الروايات التي شهدها العام الحالي من خلال كونها تشهد التصور الجديد لمشروع سردي يمثل مرحلة الوعي الأدبي بتحولات المجتمع والحركة الثقافية في المملكة خلال العقدين الماضيين. وما تحقق لها من قبول في ظهورها الأول من خلال معرض الرياض الدولي للكتاب يؤكد على كونها أتت بجديد ملموس على مستوى طرحها وفكرتها بشكل خاص، كما شكلت ملمحاً مهماً في التجربة الروائية التي يشتغل عليها الشمري منذ 5 سنوات، بهدوء المراقب للمشهد، وبعين الناقد والقارئ الجيد لمعظم نتاج الساحة الأدبية، وقبل ذلك، بأدوات الأديب وقدراته الخاصة على تشكيل رؤية واضحة ومختلفة في ظل تشابه معظم ما يكتب وضبابيته الفنية المفرطة.

فيما لو تجاوزنا مسألة التكوين القرائي الجيد كتوقع بديهي يتبادر للذهن مع اسم عبدالحفيظ الشمري، يمكننا أن نقف بدرجة لا تقل أهمية على وجود ارتباط مهم بين مشروعه الأدبي ومحاولة تجسيد العلاقة بين المكان والإنسان، ضمن سياقات تتعقب تفاصيل تلك العلاقة ومفارقاتها وخلفياتها التاريخية ومستجداتها الحضارية بحيث تكون زاوية واحدة من المجتمع كافية لاختزال كل تلك المنطلقات والتجليات في سياق أو آخر، ضمن نص أو آخر لهذا الروائي الذي يبدو هادئاً ومتزناً على نحو مهادن، بالمقارنة مع ماتثير أعماله من عوالم صاخبة وشخصيات محتدمة، يحكمها جميعاً بتقنيات سردية متنوعة وبناء لغوي رصين، لايكاد يشعرك بتغير في نبرته حتى اللحظة الأخيرة في النص.

أفضل توظيف للرمز
ويعد الشمري أحد أفضل من وظف تقنية الرمز في الكتابة القصصية والروائية بحيث نجح في تفعيلها ضمن إطارها الفني المقنن الذي يخدم النص ويضيف إليه. وذلك في الوقت الذي كانت الرمزية تظهر لدى أغلب الروائيين المحليين كحيلة مكشوفة للقفز على الرقيب والسقوط في مزلق العشوائية بحيث تبدو عالة فنية لا توائم روح الكتابة ولا تتقن مخاتلة المتلقي.

وهناك ملمح آخر لا يمكن إغفال الإشارة إليه في المشروع الروائي الذي بين أيدينا في هذه السطور، ففي الوقت الذي نزعت فيه كثير من الكتابات المشتغلة على الواقع الاجتماعي إلى انفعالية المعالجة الأدبية في أحيان، والتورط في الدوافع المؤدلجة في أحيان أخرى، كانت أعمال الشمري قادرة غالباً على الإخلاص لسياقها الفني والكتابي على نحو يظهر مايشبه تحييداً كاملاً لمنطلقات الكاتب أو مواقفه، وبالتالي نحن أمام روائي يكاد يكون منفصلاً تماماً بذاته المحضة عن ذاته الكاتبة داخل النص، وهو الانفصال الذي لاينجح كثيرون في إتقانه، لاسيما في الأعمال التي تكون مدفوعة بانحياز مسبق لفكرة معينة.

أديبنا الحازم جداً على مايبدو مع تدخلات لاوعيه حتى وهو يمارس كتابة نص لايمكنه أن يولد في الوعي، يطرح في «القانوط» فكرة نجحت بوضوح في انضباطها أمام شكلها وإخلاصها لمضمونها، تماماً كما استطاعت أن تدمج قارئها في تفاصيلها بحياد مدهش، وبترابط متسلسل يقول كل مايريد قوله دون أن يفرض رؤية على القارئ بقدر مايحفز القارئ على بناء مواقفه الذهنية الخاصة باقتناعه المحض. ومن المهم هنا أن نشير إلى أن إعادة مناقشة الفكرة الاجتماعية من رواية لأخرى لا يمكنه أن يكون تكراراً مجرداً فيما لو توافرت المقومات الأدبية والفنية القادرة على نسف التلقي النمطي لموضوع كهذا، وإعادة بنائه وتشكيله ضمن بيئة روائية، لها خصوصيتها التي تختلف حتماً عن خصوصية المجتمع التي تتناوله. وذلك من خلال كونها تقبل الانفتاح على الجديد الأسلوبي، ولاتحكم مسبقاً على وسائلها الأدبية، كما لاتغلق أبواب قدرتها على تجاوز ذاتها، حتى ولو كانت تدور في محيط عاجز تماماً عن فتح باب من هذا النوع!

القانوط ..استماتة المعنى وجدلية الحياة
«القانوط» كلمة تطرح فكرة مبدئية قبل أن نفكر في استكناه معناها الذي يبدو غائماً، والفكرة تتمثل في كوننا أمام رواية تعكس الاتجاه العام نحو عناوين ممعنة في الوضوح ومسكونة بهاجس الإثارة والتشويق، ولك أن تحيد النقاط الثلاث في الكلمة الأخيرة دون أن يختلف لديك المعنى كثيراً. إلى جانب ذلك، يمكننا النظر إلى عنوان العمل الأدبي الثامن للشمري ضمن سياق الأعمال الأخرى فنجده موائماً تماماً لأسلوب العنوان العميق ذي الحس اللغوي المحفز غالباً، وقد يفسر توجه كهذا رغبة في أن يبقى الانطباع البديهي عن العمل مرتبطاً بكونه مشروعاً أدبياً بالدرجة الأولى، بحيث لاتكون تلميحات التداول النمطي أو الإثارة المحضة أهدافاً للمشروع بقدر ماهو يؤسس لتوثيق المرحلة بهذا القدر من العمق الانطباعي.

ودون أن تضطر الإيماءة الافتتاحية لشرح المفردات الرمزية التي يرتكز عليها العمل، تترك للقارئ مهمة معرفتها عبر السياق فقط، قبل أن تضعه مبدئياً في إطار النسق الروائي المنتهي في البداية حين تكشف الصفحة الأولى عن مصير البطل، الإيماءة التي ستكون قراءتها بعد انتهاء الرواية ممتعة كانت موقعة باسم «العذراء» وهي زوجة الشخصية الرئيسة «سعد الحبي» الشاب الذي يقاسي حياة صعبة قاهرة زاد من مأساويتها معاناته مع مرض الصرع المزمن الذي سيرمز له في الرواية باسم «فرّاس»، في حين يمثل «القانوط» شخصية الصراع القابعة على صدر البطل والمتربصة بتفاصيل الحياة في مدينته التي وسمت بـ «المكحول»، تبرز أسماء أخرى في الرواية كالجاموس الوردي والريم الكحلاء وفرج المسيار وغيرها وجميعها تؤدي أدواراً دلالية استخدمها الكاتب بذكاء في سياق التطورات الدرامية للرواية.

العنوان بوصفه توجهاً أدبياً
تحيلنا مفردة «القانوط» بديهياً إلى اشتقاق ما لكلمة «قنوط»، وهو ما يبدو اشتقاقاً منطقياً جداً ضمن الإطار المعنوي لحقيقة هذه الكلمة التي تجثم على المخيلة اللغوية بالطريقة نفسها التي تجثم فيها على صدر الرواية في عنوانها وتفاصيلها رغم أنها ليست سوى أكثر ملامحها وحشية وتسلطاً، ولربما كان توجه الكاتب بليغاً جداً وهو يكتب لها النجاة في نهاية الرواية بعد أن كاد البطل الممعن في مكابدتها أن يودي بها قبل أن يرحل بطريقة مأساوية في سياق دراماتيكي، لتنتهي الرواية ويبقى «القانوط» جاثماً بطريقة تجعل التفكير بأي نهاية أخرى جميلاً وأسطورياً إلا أنه غير واقعي!

ثنائية الصراع ..أحادية الألم
قامت قصة الشاب «سعد الحبي» على صراعين محتدمين، أحدهما كان داخلي متمثل في مرضه الذي يداهمه بأعراض وقتية غاية في العنف، غير أنها تطرأ بهدوء وبلا موعد دائماً، أما الصراع الآخر فكان خارجياً مع الواقع بالغ التعاسة الذي يدور في دوامة من التناقضات المؤلمة والانفصام المستفز في ظل تحكم «القانوط» باستبداده الوحشي المؤذي بمفاصل الحياة، وتدخله السافر حتى في طريقة العيش فيها. يحدث ذلك على نحو بالغ الإجحاف بالنسبة لعمر محدود وحياة فانية في مدينة مسلوبة الإرادة لاتملك أن تقرر لنفسها ماتريد بعد أن كتب عليها أن تختنق في وصاية مطلقة تحرمها حقوقاً بديهية وتسيرها بأحكام عرفية أبدية.

الحاكي والحكاية ..من يموت أولاً؟
يمنح «سعد الحبي» النص حميمية وقرباً وانطلاقاً عندما يتولى الخطاب الروائي بصيغة المتكلم.

كان الهاجس ملحاً بما يكفي ليدلف إلى وعي المتلقي بهذه المباشرة تحديداً، الشخصية المحورية أرادت أن تتصدى وحيدة لمهمة كهذه، رغم نوبات «الصرع» المتكررة أثناء سردها لما يحدث. ورغم حياتها الصعبة التي كانت تشعرك باحتمال انتهائها في أية لحظة من الرواية لدرجة أنك ستفكر لوهلة من سيمكنه إكمال الحكاية إذن فيما لو مات هذا الراوي البطل بين فصل أو آخر؟

في تلك الأثناء، تبدو رغبة الحياة والاستمتاع اللحظي سمة بارزة للبطل المهدد باستمرار من مداهمات «فراس» الغادرة، ومن تسلط «القانوط» الظالم. تطل تلك الرغبات حتى في أضيق الأطر المتاحة والمحفوفة غالباً بالمخاطر. وقد تمثل ذلك بموقع يدعى «نزل البتلاء» يمثل المتنفس الوحيد لسعد وأصدقائه. فهناك يهربون من ذواتهم ويلقون خلفهم الوعي بواقعهم الموجع المتناقض، بينما تمر عربات السياق المترابط ببناء لغوي محكم بمحطات مختلفة من مظاهر الحياة في «المكحول» بكل مافيها من ذكريات وعبثية وتشظيات. يمر عليها فيكشف مافيها من ضبابية المعطيات الحضارية، بالنظر إلى واقع يظل عاجزاً عن تجاوز عقده ومعتقداته، محكوماً بسلبية بائسة متصالحة منذ زمن، مع كل تشوهاتها الكامنة والمكتسبة وحتى تلك المفروضة عليها بسلطوية تاريخية ممتدة في تسيير حياتها.

شهادة بمرتبة وصية
يحكي سعد بمرارة وبألم مشوبين بعجز تام عن تغيير الظروف التي تفرض عليه حرباً دائمة على مدى حياته. ويوحي تلازم فكرتي «فراس» و«القانوط» بأدوار متطابقة للمعنيين ضمن سياق أوسع. فالمرض المزمن رمزية مستمرة لتلازم لايمكن التنبؤ بمدى ضرره وتوقيته، و«القانوط» كان حالة عامة حتى داخل الرواية ولم تكن شخصيته المتجسدة فيها سوى شخصية اعتبارية لتلك الحالة.

كان الراوي البطل يمارس دوراً متصاعد الكبت كلما أمعن في وصف الحالة «المكحولية» بالغة الازدواجية، مستعرضاً نماذج من شخصياتها العادية التي تشربت طبيعة الحياة على ذلك النحو حتى لم تعد تشعر بزمنها، وفقدت سيطرتها على كياناتها واستقلاليتها مع تراكم الظرف الحياتي نفسه وتفاقم تحكمه بمرور الوقت، حتى أصبح هو نفسه شكلاً للحياة لا يمكن فصلها عنه أو تخيلها من دونه. كانت الزوجة «العذراء» شخصية ملهمة تمثل المرأة متناهية النبل والتحمل، بينما بقية شخصيات الرواية البسيطة مثلَّت الحيوات المسحوقة البائسة التي تكابد المشقة القانوطية نفسها والنمطية المكحولية ذاتها ولكنها لا تلوي على شيء. أما المواقف الهامشية واليومية التي يرويها «سعد الحبي» فتكشف حقائق الواقع انطلاقاً منه، وتروي حكاياته التي تبدو كتخيلات غرائبية أحياناً، ولكن بالقدر نفسه من الحياد، في الوقت الذي يبدو النص متجهاً بإلحاح إلى انحياز منطقي يكاد يثير رغبة مكبوتة بالصراخ الرافض لكل مايدور من أحداث، لكل مايحدث من «دوائر»!.

بهدوء ..نحو العاصفة!
يتصاعد الكبت بسعد حتى يصبح قاب قوسين أو أدنى من مجرد حدث يلعب دور القشة التي ستقصم ظهر تحمله ومكابدته على مدى حياته أو على مدى الرواية، فالاثنتان متلازمتان تماماً كما لو كانت الكتابة صكاً نهائياً، وشهادة ستبقى إلى الأبد على النحو الذي تكتب به في تلك اللحظة. جاءت تلك الخطوة المستفزة لإثارة البركان الأخير في نفس البطل المخنوق بمرضه الخاص وبعمومية محيطه المريض، فقد رسمت أحداث الرواية اصطداماً مهولاً بين «القانوط» الذي يخنق البطل، وبين «نزل البتلاء» الذي مثل المتنفس له بعد أن بقي بمعزل طيلة الرواية من أن تناله قبضة التسلط القانوطي المؤذي.

كانت اللحظة مفصلية بين رمزين أحدهما الرمق الأخير المتبقي للحياة، والآخر هو أكثر تمظهرات الموت المعنوي تسلطا ورعباً. وحين انقض الأخير على الأول، كان بطل الرواية قد استشعر بوضوح أن حياته المهددة أصلاً لم تعد مهمة بقدر أهمية الانتقام بأية طريقة كانت. وقد كان الخنجر «لسان الطير» الذي ورثه سعد الحبي عن خاله قريباً جداً من أن ينطق بحرية فنتازية فيما لو أجل المرض الغادر تدخله في تحويل مسار السيارة التي قادها سعد بجنون ليلغي بها وجود القانوط للأبد.

تغير مسار الرواية أيضاً ومسار حياة بطلها الذي تسبب فقدان سيطرته بحادث دراماتيكي على جدار المكان الوحيد الذي كان يطل منه على الحياة من ثقب متعة لحظية ليس إلا، شوهد قبل رحيله بلحظات يكابد الإمساك بمقود السيارة بينما يده الأخرى تبدو كما لو كانت تحاول قتل شخص ما. نجا القانوط ليواصل وجوده المستبد حينما أصبح «القنوط» شعوراً منطقياً يلازم التفكير بمحو ذلك الوجود. بينما كانت الأسطورية تغلف موقف أحد أصدقاء البطل المندفع بجنون وقد أجهز القانوط عليهم متلبسين بمحاولة الحياة ، صرخ «حواس العيشة» إلى «سعد الحبي» لحظتها: تعال لتقتلنا ياصديقي! ولهذه اللحظة وحدها أن تكون ختاماً أشرف بكثير بالنسبة له من الحياة في ذل القانوط واستعباده.

الخلاص ..قبل التخليص بقليل!
ختام الرواية شهد حركية مرتفعة الإيقاع، ومشهدية عالية الحس والرؤية، ولم يكن التنبؤ بها ممكناً للوهلة الأولى. وهذا مايدفع القارئ إلى الوقوف بعناية مع كل حرف يصف تصاعد الصراع العنيف جداً بين البطل المدفوع برغبة الخلاص والتخليص والمستفز بغضبه الأخير، وبين المرض الذي حاول مراراً وتكراراً أن يقيض حياته لكنه كان يفشل كل مرة. واختار هذه الطريقة الحاسمة، قبل لحظات فقط من تغيير قواعد اللعبة. لينجح في كتم هذا البركان البشري لينفجر داخل نفسه وأصدقائه فقط، رغم أن نهاية «سعد» كانت تحديداً قبل أربع صفحات فقط من نهاية الرواية، وبعد أن يوشك على القضاء على أفظع إشكالياتها على الإطلاق. إلا أن هذا القدر من الاستماتة الحكائية كان خياراً فنياً استراتيجياً إذا صح وصف كهذا، فيما لو ربطناه بمدلول يضع التصرف المندفع بجنون نحو الاقتصاص حلاً نهائياً تتساوى فيه النهايات بالنسبة لنفس لم تعد تخسر شيئاً. كما أن أسلوب المتكلم يحيل إلى الانطلاق من عمق الحدث، بحيث يمكن أن يكون لسان حال غير مشروط لشخصيات موجودة لانهائية، وعموماً لم تكن المحصلة النهائية غريبة فقد رحل البطل بوصفه الحرية المستميتة للحياة، وبقي القانوط مستمراً يرمز لحياة تشبه الموت!

القانوط..
مقتطفات من الرواية

من الفصل الأول..

بيني وبين «المكحول» قانوط الليالي الموجف
نظر «القانوط» إلىّ بعتب مغلف بسخرية.. كاد أن يطرحني -كعادته- أرضاً، لينال مما أزعم أنها بقايا كرامتي، ويمتهن ماقد يقال عنها فتات كبريائي. إزاء نظرة كهذه دبت رعشة التخاذل في أنحائي، وتقافزت حالة الذل في أرجائي كجرذان مذعورة. خذلان فرائصي يامجير هي من قبيل ارتعاش أطرافي الأربعة، وسرعة خفقان قلبي المتهالك، وكاني أواجه الموت تماماً، ليس خوفاً، إنما أحسبه في هواجسي الواجفة ذلاً وخنوعاً لا أقوى مبارحة أخاديده المعتمة.

فـ «القانوط» يفضل دائماً -بلا مواربة-أن نتماهى معاً في تخاذلنا، وننكب طواعية في خسرنا… بل نراه يذعن دائماً لوصايا أهلنا الأولين بشكل عجيب، حينما تؤكد له مقولاتهم العثرة أننا ولدنا لننكب من أجل مصالح العباد، العامة، والخاصة…

فلم لايزداد حنقي عليهما كلما حاول الأول التمادي في ضحكه على «المكحول» والعبث بمشاعر أهله، وكلما تهاوى الثاني وانبطح بهذه الطريقة الفجة رغم شعاراته القانوطية المتعالية تلك التي سأجاذبكم أطراف الحديث عن مكنونها ومدلول نبضها، كلما عنت لي فرصة الوعي المناسبة بعض موجات الصرع التي تجتاحني بين فينة وأخرى.

زاد ذعري، وتنامى هلعي حينما تذكرت قبل أشهر مجاهرته بالخذلان وانغماسه بالخسران بعد أن عصفت بمدينته «المكحول» موجة عنف غير مبرر، حينما أشار إلى حقيقة فعلته المخزية مؤكداً أنه سلم كل شيء حاد لأعوان «سيد الأهلة ابن سيد الأقمار المحاقي» حتى سكاكين البصل، ومقالم الأظافر، وأمواس الحلاقة، وبرايات الأقلام، ليس لأنها خطرة بالفعل، إنما ليظهر حجم ريائه، وميله للإذعان لأهل «المكحول» حمائمهم والصقور..

سترون بوضوح -رغم صيغة التخاذل المعدة سلفاً بيننا- أن «القانوط» في الطرف الآخر يهرق العتب كسائل لزج نحوي… فيما تظل سخريته تتوارد على نحو يشي بنظرته الدونية لمن حوله، حينما لاتعجبه أي أقوال نتنادى بها، أو أي أفعال نمارسها، إنما يظل ساخطاً على الجميع، متبرماً منهم،حتى يجد مايشغله أو يشاغبه…

ولدت سيرة مدينة «المكحول» وأحياؤها، وأزقتها، العامرة منها والمهجورة حكاية غريمي الأبدي «القانوط». هذا الذي قيل أنه شوهد منذ قرون، وعلى الرغم من إخراج لساني ساخراً لمن يتفوه بهذا الهراء، إلا أنني بت أكتشف بين برزخي سقمي وشفائي أنه معمر بما يكفي لازدراء زعمي الذي يجعلني أصنفه في عداد الآدميين في هذه المدينة.

«القانوط» سيد الرؤى المؤذية في مدينة «المكحول»، وملهمها فتات الوعد الكاذب ببلوغ شفق الخلوص من لواعج مؤذية، بل هو حادي عيس الضغينة في قلوب متهاوية منذ أن غابت كرامة الإنسان لدى الأقصين والأدنين، وأفلت براءات من حولي كقمر لاذق بالمحاق.

المارد العصي لم يكف عن توجيه اللوم إلي، رغم أنه رأى تطامني نحو قاع الضعف، بل بات الآن يسمني بالجهل في أمور الحياة، لاسيما النساء، حتى أنه يرى أنني وضعت نفسي في مواضع تستدعي سخرية من حولي حينما لم أطرب ولم أنجذب لحكاية النساء بشكل واضح.

شيء يحيرني ويجعلني أشد اضطراباً، هو رغبتي في الهروب من منغصات كثيرة، أولها أن أتخلص من عقدة التحديق في ثقب ضيق هو الوظيفة. فما أتمناه هو أن أمتلك القرار لأقدم طلب تركي لهذا العمل الممل والمؤذي، فطالما أن عدداً من الثبوتيات التي تؤكد مرضي، وضعف الاحتمال الوشيك ببرئي، إلا أن حقيقة مرة وقاسية تقف لي بالمرصاد تتمثل في أن وظيفة كاتب قضايا في «مصلحة القانون» هي شريان مادي يؤلف بين قلبينا أنا و«العذراء»، ويجمعني بود مشبوه بهذه المدينة القاسية التي نزحت إليها عنوة من العيناء المصابة يمناها بالعور وشمالها بالعمى.

أمرٌ يلفت الانتباه هو أنني أدوزن معزوفة ثنائية، تتداخل فيها الرؤى وتتشابك فيها الصور بين «مصلحة القانون» و«مهاترات القانوط»التي تعبث في كل شيء حتى هذا القانون الذي يجهد في البقاء هنا. فهل أمتلك الجرأة وأترك الخدمة الوظيفية أم أحاول ترقيع ذاتي، لأستعد لشيء أكبر من هذا الهم، كأن تزداد معاناتي وتستفحل مشاكسات مرضي «فرّاس» فلا أملك أي إجابة رغم أني أطرح هذا السؤال على ذاتي دائماً.

يظل تبرم «القانوط» وعتبه سقم إضافي يعبث بحياتي، إذ يُتبع هذا التبرم دائماً بادعاء مضلل يرى فيه أن الخلاص من منغصاتي الأسرية، والخروج من مآزقي العائلية، والتطهر من لعناتي الاجتماعية هو أن أقترن بامرأة أخرى غير زوجتي «عذراء»، المرأة المتطامنة صوب العادات والمحافظة جداً على قدسية أن أكون رجلاً وهي امرأة، أنهرها متى شئت، وأغلظ حين آمرها، فتذعن لمطالبي…
بت أشكو همي وكربي من نوبات الصرع، ولكي أتعايش معه خلعت عليه اسم «فرّاس» من قبيل الدعابة أو الكوميديا السوداء، لأنه يفترسني بحق، ليلقي بي أرضاً ويمرغ جبيني ووجهي بأي شيء في الشارع، على الرصيف، في التراب، وفي أي وقت، إن ليلاً أو نهاراً. فهو الذي يقذفني كأي شيء، ككرة أو حجارة أو أي شيء مهمل، إذ لا أتنبأ بهجمات «فرّاس» الشرس، إنما أستشعر مجيئه قبيل لحظات، فأستعد لأطفئ السيارة إن كنت أقودها، أو أوقف عمل أية آلة كهربائية حولي، وأحياناً يباغتني بشراسة فتكلؤني «العذراء» بعنايتها، إن كانت إلى جواري. لتوقف كل شيء قد يضر بي لحظة نوبة الصرع الغادر بي مع أشياء خفية أخرى.

الحق أن الصرع لم يكن هو الذي ينغص حياتي إنما يصاحبه ألم غريب وشعور بالجنون لم يعرف له الأطباء سبباً. فالصرع واضح في حضوره، إنما الغريب هي هجمة نوبة مصاحبة له بشكل يثير فزع من حولي، فلم يعد الرائي لي يعلم أأنا مجنون أو مصاب بعارض من صرع مألوف.

ندرة من الرفاق من يتكرَّمون علي ببرهة إنصات زهيدة..فلم لا أنجرف خلف رؤى «القانوط» على نحو بائس يعكس تعاستي وخيبتي، فكثيراً ما يحاول أن يجعل مني خطيباً مفوهاً أو متعدداً في النساء، لأكثر التناسل المكحولي… فرغم حصاره لي ظللت أناهض فكرة أن أكون دعياً منافقاً ومتزلفاً.

ومن الفصل الرابع..

وحدها الأوهام هي من تقيم صلب الحكاية المكحولية
لا تتوقع أن يزدهر شيء في «المكحول» سوى السوء والتردي والخسران، فكم من أمل سحق بالأرض، وكم من فأل أضحى مجرد نبوءة فاشلة، أو معشوقة مغيبة، أو فاتنة مخفورة حكم عليها فور خروجها إلى العلن بالرجم، ومآل الأحلام نسيان لا يبقي ولا يذر. وحدها المحاولات هي من تقيم صلب الحكاية المكحولية الغريبة، لكن سرعان ما تتحول هذه المحاولات إلى وهم عابر حري بنا أن نتعامل معه بشكل طارئ، وإلا تشظت حياتنا وانفلقت إلى عالمين من النقائض والعيوب.

أوهام محافظة «المكحول» هذا الصباح، تشفع بنذر قطيعة محتملة بيني وبين العالم. فسلاحي في الصبر قد باتت تثلم حدوده. فـ «فرَّاس» يوشك أن يفترسني، ويأس فاتك على شفير الروح الخاوية يتحين الفرص لينقض على بقايا يقيني، سأروي لكم ما أستطيع، إلا أنني قد أغيب في أية لحظة وتنقطع سيرة حديثي بيني وبينكم.. فليت «العذراء»، أو منهم حولي يواصلون سرد سيرتي، فقد أفارق الحياة فجأة في موجة صرع عنيف لحظة إن لم تسند رقبتي بما يسمح للهواء والنفس بالمرور، فقد أقضي نحبي على نحو بائس أليم وأنا لم ألفظ الشهادة الأخيرة، ولم أتم حكايتي إليكم.

حتماً سأحاول أن أروي تراجع الأمور على الصعيدين الشخصي والعام. أعجبني أمر الصعيدين فهما رمز للمشقة والمكابدة .. (سأرهقه صعودا)، فصعيد حياتي الآن ينذر بنهاية ما، بعد أن قررت وبمحض إرادتي، وبما تبقى من وعي أن أترك عملي الوظيفي في «مصلحة القانون»، لأصبح على المعاش، و«أموت قاعداً» كما تدوزنها مقولات الذين يعيشون على أبواب الفاقة.

أما على الصعيد العام فهذه الزفرة الخانقة من الرياح المشبعة بالغبار الخانق هي ما يمكن لنا أن نقول عنه إنه خلفية مناسبة لأمر هذه العلاقة المتفاقمة سوءاً.

نعم قرر ابن «الحبي» أن يطلب التقاعد المبكر إيذاناً بمرحلة جديدة من التراجع والغياب والنكوص والنهايات المحتملة والمتوقعة، إلا أن مستحقات هذا التقاعد ستبقى شرياناً مهماً ينبض بالحياة للعذراء، ولأبنائي بعد غيابي المحتمل في أية لحظة…

تنفست الصعداء بعد أن أقدمت على اتخاذ هذه الخطوة الجديدة، وسيتبعها خطوات أخرى ستمكنني من الهرب النهائي من جزء أحسبه دائماً من منغصاتي الحياتية، لكنني سأحاول أن أكون شجاعاً وأدافع عنها بكل ما أملك ابتداءً من زوجتي «العذراء» وخالي «المسيار» و«عرفان»، وانتهاءً بغريمي «القانوط» الذي سيلجأون إليه في النهاية ليحاول ثنيي عمَّا أزمع فعله.

عدت من عملي إلى البيت وأنا منتشٍ، فما يزيد على ربع قرن امتلكت من الهمّ ما يغني عشرين مسكيناً مدى الحياة، هأنذا أكتفي بهذا القدر من العناء، لأتفرَّغ إما لبقايا سعادتي، أو إلى استعداد مبكر لجولات ونوبات مع «فرَّاس» اللعين في دهايز «المكحول» وأقبيته.

ستحلق «وظيفتي» منذ هذا اليوم في فضاء غرفة المدير مرفقة بخطاب رغبتي في ترك العمل المبني على جملة من التقارير الطبية التي اجتهدت في إعدادها لمثل هذه المواقف. ستحلق وظيفتي كطائر سعدٍ رشيق. فمع صدور قرار تنحيتي ستكون لقمة سائغة له، إذ سيمنحها بمزاجه وبمعرفته الخاصة لأحد المكحوليين الصغار.

هادنني المرض المجنون، بوئام هش، ليمنحني مزيداً من الوقت للتثبت من صدور أمر تركي للخدمة، وإعداد متطلبات إنهاء الإجراءات بشكل مناسب يكفل لي أبسط الحقوق، ففي مخاض الإعداد لم ألتفت إلى توسلات «عذراء» أو إلى أي نداء من خالي أو من صديقي «عرفان». وحده ما يشغلني هو أن يتدخل «القانوط» اللعين لدى مدير الوحدة التي أعمل فيها، ويوقف طلبي بالتنحي والرحيل، لكن «عذراء» ظلت وفية لأمانة حملتها إياها ألا يدخل هذا «القانوط» أو الشيطان بيننا بسبب هذا القرار الذي اتخذته، فما كان منها إلا أن كفت الزوجة المطيعة مرغمة عن تداول هذا الموضوع، لكي تتم الأمور بسرية تامة، إلا أن من أيدني بشكل تلقائي على خلع علاقتي بالوظيفة هو جاري الفنان «سرَّاي القايلة» الذي هلَّل وكبَّر وأشاد بخطوة تحررية كهذه.

غمرة انشغالي بإجراءات ترك الخدمة، لم تستطع أن تحيِّد المرض الماكر تماماً، ليبدأ مناوشاته لي، إذ داهمني «فرَّاس» بعد أيام من السكينة المفتعلة بموجات ألم بشكل تدريجي، بدأ بألم ساخن سريع يسري في عنقي وعلى صدغي الأيسر؛ أبخرة تنفجر من أذني، أعرفها جيداً، هذه صفعة «فرَّاس» الغادر تدهمني في مقر عملي الذي أوشكت أن أتخلى عنه الآن، لأختم ـ فيما يبدوـ مسيرتي بهذه النوبة التي داهمتني أمام زملائي في «مصلحة القانون»، ليتيقنوا أنني بت أكثر واقعية حينما قررت ترك العمل.

أمر آخر يسم حياتي بمهماز الألم المتقد، ذلك الذي يتمثل في لحظة أن تباغتني حالة الصرع مرسلة بقيادة نارية مؤللة من «فرَّاس» اللئيم، إذ يفر البعض من أمامي مثقلين بظنون متناقضة عن كنه حالي، فهناك من يعتقد بأنني مجنون خالص، فقد يقذفني بعضهم بأعتى الصفات المؤذية، ويُقرِّعني ذوو القربى، والبعداء على ما يحسبون أنني أفعله بطوعي واختياري حينما تتلبسني حالتي العصية المرة، فأضج بفزع، وصياح وتشنج وتمرغ بالأرض أو على قارعة الطريق، لكن سرعان ما يكتشف البعض أنني مصاب بداء قد لا يكون الصرع لوحده ما يفعل ذلك، فقد يخالط عصابياتي هياج سفلي يضمر البعض الآخر منهم لي بعض النوايا المشككة في سلامة عقلي، ونقاء طويتي…

بعض خيوط مشهد انهياري أمام زملائي وأنا أودعهم في هذه الموجة العاتية من الصرع، سمعت في حجب وعيي المتهالك صوت «القانوط» وهو يوصيني بأن أعوم في بحيرة معتمة، ورأيت فيما يشبه إغمائي رجالاً يحرثون النار قرب قبر يقولون: إنه للمدير الذي لا يثق كثيراً بمن حوله، كنت أتقي شر مرضي، لكنَّ «فرَّاساً» ينتبذني بمكر، وبلا مقدمات، لأشعر أنني دخلت موجة من هلام حملني إلى عدم محض…هو تلاشي وعيي، وانشطار وجداني، وانفلاق روحي إلى روحين. واحدة تروم برازخ العدم وأخرى تحاول التشبث في الحياة حينما تتجارى أنفاسي المتعبة بطريقة عجيبة، قد تثير شفقة من حولي.

أضف تعليق

التعليقات