الرحلة معا

كنوز الجزيرة العربية
في معرض حول العالم

في المؤتمر الدولي السابع للآثار الذي انعقد في الأردن، يناير الماضي، لم يخف المنظِّمون حزنهم على ضآلة المشاركة العربية، مقابل حضور أكثر من 1200 عالم آثار وباحث أنثروبولوجي جاءوا من أكثر من 70 دولة. وحين نتذكَّر أن الدول العربية تحتضن مجموعة ضخمة من الآثار والمعالم الأثرية التي قد لا يكون لها نظير في العالم، فإننا نفقد فرصة ذهبية للتعريف بما تختزنه بلادنا من كنوز ومكتشفات، كما نفوِّت علينا أيضاً فرصة التعريف بمقتنياتنا الثقافية المادية، التي أصبحت ركناً مهماً في صناعة السياحة العالمية، وليس من جديد القول إن دولاً كثيرة لا تمتلك ذهباً ولا نفطاً، وأن رأسمالها الوطني هو: الآثار والمتاحف والمعالم الفريدة.

أكتب هذا وأنا أتأمل النجاح الذي يحققه (معرض روائع آثار المملكة العربية السعودية عبر العصور) الذي تنظِّمه الهيئة العامة للسياحة والآثار، وتسهم أرامكو السعودية في رعايته، فهذا المعرض الذي بدأ من فرنسا وانتقل إلى إسبانيا وروسيا ثم ألمانيا ليصل أخيراً إلى واشنطن يستقطب ألوف الزائرين، ويحصد دهشتهم و يضع الجزيرة العربية في قلب المشهد الآثاري العالمي، فالشواهد الحجرية والتماثيل والمنحوتات والأواني الزجاجية والنقوش والرسوم التي جمعت خلال أربعين عاماً من الحفريات وأعمال البحث من المواقع التاريخية المتعددة في المملكة يجعلنا أمام فتوحات أثرية جديدة لم تكتمل قصتها بعد، بل إنها تفتح للعالم أفقأ إنسانياً جديداً.

ولكي ننقض ذلك الوهم الذي عشعش في ذهن العالم قروناً وهو أن هذه الجزيرة لا أكثر من صحراء شاسعة، وأن مخزونها النفطي الذي اكتشف في أجوافها منذ 80 عاماً هو النافذة التي فتحت لها طريقاً إلى العالم، فإن علينا أن نروي باختصار شيئاً عن علاقة هذه الأرض بتاريخ حضارات العالم.

تميَّز موقع الجزيرة العربية، الذي يعادل مساحة أوروبا الغربية تقريباً، دائماً بموقعه متوسطاً بين حضارات الصين والهند فضلاً عن حضارات فارس والعراق والشام ومصر، وكان معبراً للقوافل التجارية والبحرية، بل إن أرض المملكة قد شهدت بوادر الاستيطان البشري منذ العصور الحجرية. فشواهد هذه العصور منذ العصر الألدوان الذي يعود إلى أكثر من مليون سنة، وحتى العصر الحجري الحديث موجودة في سكاكا والدوادمي ووادي فاطمة والعلا وفي تبوك وحائل وفي الثمامة والقريات. أما حضارة العبيد فعلاماتها موجودة في شرق المملكة التي تختزن أيضاً شواهد من الحضارتين الحديدية والهلنستية، وحضارة الممالك العربية في القرن الأول الميلادي تتمثل في الفاو ونجران، فيما تمثلت الحضارة النبطية التي عاشت شمال المملكة في مدائن صالح وبعض الشواهد في الجوف، وتلتها الحضارة الساسانية في شرق البلاد، ثم أتت الفترة الإسلامية بعصورها، صدر الإسلام والعصرين الأموي والعباسي، ثم الفترة المملوكية لتبقى شواهدها قائمة في الحجاز وشمال المملكة وعلى امتداد طرق الحج من مصر والشام. ويختم التاريخ الحضاري بالفترة العثمانية التي برزت ملامحها في مناطق الحجاز والوسطى والشرقية، لتختتم بالآثار المعمارية والتاريخية السعودية التي تنتشر في مناطق المملكة.

إذا كانت كل هذه الحضارات قد مرت على أرض الجزيرة فإن علينا أن نقول بصوت عالٍ إن هذه الصحراء الشاسعة لم تكن صامتة، ففي جهاتها الأربع ما لا يُحصى من الشواهد والنقوش والرسوم والأدوات والمصنوعات والقلاع والبقايا الأثرية التي تشهد على أصالة هذه الجغرافيا وتأثيرها، لا في محيطها بل وفي حضارات الأمم الأخرى.

(معرض روائع آثار المملكة العربية السعودية عبر العصور) يواصل رحلته عبر القارات ليقدِّم 320 قطعة أثرية يعود تاريخ بعضها إلى أكثر من مليون سنة، فهناك مثلاً قناع «ثاج» الذي اكتشف في مقبرة قديمة بالمنطقة الشرقية، ومن تاروت، التي اعتبرها المؤرخون عاصمة دلمون، نعثر على مقتنيات وأواني وأدوات نادرة، كما نجد تمثال الرجل المصنوع من الحجر الجيري الذي يذكِّر بملامح السومريين بل إنه الأكبر من أي تمثال في بلاد ما بين النهرين. وهناك منحوتة لتمثال برونزي يوناني يمثل هرقل يعود إلى القرن الثاني الميلادي. كما يجسِّد المعرض حضارة لحيان التي انتشرت في شمال الجزيرة حتى وسطها الغربي ممثلة في تماثيل ضخمة من الحجر الرملي الأحمر. وحظيت قرية الفاو، عاصمة مملكة كندة والمركز الثقافي والديني والاقتصادي المهم الذي ازدهر في القرن الثالث قبل الميلاد بمكانة خاصة في المعرض، عبر بعض الجداريات واللوحات على الطراز الروماني. كما يفرد المعرض مكاناً للكتابة فيعرض شاهداً حجرياً من الفاو يُعد أقدم نص معروف باللهجة العربية الأقرب إلى الفصحى. وخصصت مساحة بارزة لعرض ملامح العصر الإسلامي كالطرق التي سلكها الحجاج من مكة المكرمة والمدينة المنورة وإليهما.

لا يمكن بالطبع إحصاء تلك الكنوز التي استضافتها أرقى متاحف العالم، وأكثرها تدقيقاً وموثوقية، فهي في مجملها تقدِّم جرعات من التاريخ الحضاري للعالم وتضع الحضارات التي جاءت قبل الإسلام في موقعها الإنساني والعلمي الصحيح، بل وتقدِّم خلاصة تلك الحضارات في معرض يجوب العالم ويحصد عبارات الامتنان والإشادة.

المملكة إذن تدخل عصراً جديداً فالممتلكات الثقافية والتاريخية التي خلفتها الحقب الحضارية المتعاقبة أصبحت إرثاً للإنسان في شبه الجزيرة، والحضارات التي مرت من هنا لم تعد تاريخاً منسياً أو يعيش في العتمة أو الشكوك. في المملكة الآن أكثر من 4000 موقع أثري، بالإضافة إلى الألوف من النماذج المرسومة على الصخور. وهناك أكثر من 14 فريقاً دولياً من الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا وأستراليا تنقب عن الآثار في طول البلاد وعرضها، فيما تبنى سبعة متاحف إقليمية الآن. أعتقد أن وتيرة الاكتشاف لن تتوقف، بل إن جولة معرض الكنوز هذه ستفتح شهية المنقبين وعلماء الآثار والجمعيات التاريخية والجغرافية العالمية على ما خفي تحت الرمال وفي بطون الأودية وعلى سفوح الجبال.

إنها فرصة لإنسان المملكة اليوم ليصبح عنصراً خلاقاً في هذه المنظومة الآثارية، فالنُخب الثقافية والعلمية من جهتها بحاجة إلى أن تقرأ التاريخ السحيق للجزيرة قراءة جديدة، وأن تتأمله وتنشره على الملأ عبر القنوات الإعلامية وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، بحيث يتم تجسير الفجوة التي نشعر بها تجاه هذه الكائنات الأثرية الجامدة بفعل حواجز تعليمية ونفسية وثقافية. ولكي تتعرف الأجيال إلى تاريخها التليد، فإنني أقترح على وزارة التربية والتعليم أن تلعب الدور الأهم وهو إحلال مادة الآثار، دراسة ومشاهدة عملية، في صلب مناهجها، فهكذا يلتصق الجيل الجديد بعنقه التاريخي فيتمثله، ويصبح ركيزة في ثقافته وهويته.

هذه الكائنات التي تدهش الزوَّار في عدد من عواصم العالم وتخلب ألبابهم ينبغي أن تدهشنا أيضاً فمن خلالها ندرك أن أجواف أرضنا لا تخبئ النفط والغاز فقط بل تحتضن أجمل الكنوز التي تفيض حياة وتاريخاً وعلماً وابتكاراً.

أضف تعليق

التعليقات