حياتنا اليوم

ابن مكة الذي حمل كلمة الله إلى ألمانيا

  • PORTRAIT2 A

حيّر خصومه الذين يصفونه تارة بقولهم:«هذا السعودي الأنيق صاحب الخلق الرفيع»، و«لا يستطيع مسلم أن يتحدث عن الإسلام المسالم ويثق الجميع في كلامه، مثله»، «إنه بارع في وضع الخطط وثعلب في الحوار»، وأخرى بقولهم: «إنه منفتح على الفهم المستنير للإسلام»، وشهدوا له بأنه «بارع في استخدام اللغة الألمانية أكثر من أهلها». فإذا كانت هذه شهادة الخصوم فيه، فكيف يراه المنصفون من الألمان؟ إنه البروفيسور نديم ابن محمد عطا إلياس. يستعرض أسامة أمين هنا ما كتبه الألماني كريستيان هوفمان عن مشواره الطويل بصحبة إلياس، وحجم التغيير الملموس الذي حققه على أرضهم.

من مكة إلى ألمانيا
عندما غادر الشاب النحيف الجسم، خير بقاع الله، في عام 1964م، وهو لم يبلغ العشرين من عمره بعد، لم يكن يتخيل أن يستقر به العيش في هذه الديار، وأن يصبح في يوم من الأيام، الوجه الأكثر شهرة للإسلام، والمتحدث باسم ملايين المسلمين في ألمانيا، فيجلس في البرلمان الألماني شارحاً أحكام الإسلام في نقل الأعضاء، وضيفاً كريماً على المستشار الألماني السابق جيرهارد شرويدر، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ليعلنا للرأي العام الألماني أن الجالية الإسلامية في ألمانيا، لا يجوز أن تتحمل عاقبة ما حدث في نيويورك أو واشنطن.

سألته ذات مرة عن سبب اختياره ألمانيا بالذات للدراسة فيها، فقال إن المملكة قررت آنذاك ابتعاث الحاصلين على مجموع مرتفع في الثانوية العامة، لدراسة الطب في ألمانيا. تماماً مثلما حدث مع معالي سفير المملكة العربية السعودية الحالي، الأستاذ الدكتور أسامة بن عبد المجيد شبكشي، والملحق الثقافي الأسبق في ألمانيا الدكتور راجي بن قبلان العتيبي، وغيرهما ممن درسوا الطب وعادوا إلى المملكة، لكن الله شاء بقاءه في ألمانيا، ليمارس الطب، إلى جانب نشاطه الإسلامي، الذي أخذ ينمو ويزيد، إلى أن أصبح قرار التفرغ حتمياً، وترك الطب، ووهب عمره لخدمة دينه، حتى أصبحت أسرته
لا تكاد تراه إلا في التلفزيون، في برنامج حوار، أو ندوة أو محاضرة، أو في لقاء مع كبار السياسيين، أو في مؤتمر صحافي مع ممثلي الأديان الأخرى، أو تسمع صوته على الهاتف، وهو في ترحال مستمر.

رجل بعشرة رجال
يبدو أن هذا الرجل البشوش دائماً، الهادئ في حديثه ومشيته وحركته، يحمل في داخله محركاً لا يتوقف عن الدوران، ورأساً يعمل باستمرار، وإلا كيف يفسر لنا قيامه بإنجازات لا يستطيع تحقيقها فريق من الناس، مثل إقامة جناح عملاق للإسلام في المعرض العالمي (إكسبو 2000)، في مدينة هانوفر قبل اثني عشر عاماً، تناول فيه قضايا الصحة والتغذية، وحماية البيئة، والتنمية، والتربية والثقافة، من وجهة النظر الإسلامية، وأمكن بذلك توضيح شمولية الرؤية الإسلامية لكافة جوانب الحياة، وهو إنجاز تحقق بعد فضل الله، بالتعاون مع مؤسسة التراث والبيئة في جدة.

لكن الإنجاز الأهم في حياته، هو ترجمة القرآن الكريم إلى اللغة الألمانية، بالتعاون مع أحد الإخوة الألمان المسلمين، وهو عبدالله الصامت (فرانك بوبنهايم)، ليطلعا قرَّاء اللغة الألمانية على كلام الله، بعيداً عن الترجمات التي أعدها مستشرقون من غير المسلمين من قبل، والتي أراد بعضهم بها أن يحرِّف معاني القرآن عن عمد، أو أن يربطه بالكتب السماوية السابقة، للتشويش على القارئ الباحث عن الحقيقة، فلا ينفتح قلبه للإسلام.

بدأ مشروع الترجمة في عام 1984م، كما ذكر في مقدمة الترجمة الألمانية لمعاني القرآن، وهي الترجمة التي أصدرها مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، واستمر سنوات طوال، رغبة في الإتقان والدقة، ويبدو أن طبيب الولادة السعودي، قام بأخطر عملية في حياته وأطولها، وخرج على يديه وليد ليس كغيره من المواليد، فتح به الله قلوب الكثيرين لدينه.

ووجد أن المسلمين في ألمانيا، الذين يزيد عددهم على ثلاثة ملايين، لا يجدون من ينصت لآحادهم، فأسهم مع إخوته في تأسيس المجلس الأعلى للمسلمين في ألمانيا، ليكون ممثلاً لمصالح المسلمين، والصوت المسموع من جميع السياسيين، الذين طالما تعللوا بالفرقة بين المسلمين القادمين من مختلف الدول، وزعموا عدم قدرة هؤلاء المسلمين على توحيد صفوفهم، وأصبح إلياس أول رئيس للمجلس الأعلى للمسلمين في ألمانيا، في الفترة من عام 1994 وحتى عام 2006م.

وكانت الفترة الأهم في حياته بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، لأن شكوك الناس في الغرب تجاه المسلمين اندلعت جذوتها من جديد، ومع ذلك فإن تقريرا للاتحاد الأوروبي أوضح آنذاك أن الحوار ظل مستمراً في ألمانيا، ولم يتوقف، بل وصل الأمر إلى إعلان السياسيين وممثلي النقابات العمالية أن: «أحداث نيويورك لا علاقة لها بالإسلام، فالإسلام والمسلمون مسالمون»، ولم يكن هذا بالإنجاز القليل للمجلس الأعلى للمسلمين في ألمانيا، ولرئيسه نديم إلياس، ثم أصدر المجلس تحت قيادة الدكتور نديم إلياس، (الميثاق الإسلامي) الذي يقر بوضوح بأن المسلمين يمكن أن يكونوا مواطنين صالحين في الدول الديمقراطية الغربية، وأن يعيشوا على أساس القوانين المعمول بها في هذه الدول.

وظلت هذه الوثيقة محوراً للنقاش في كافة أرجاء ألمانيا لفترة طويلة، وأصبحت وسيلة مساعدة مهمة لكل الناس في الغرب، لفهم الإسلام والمسلمين بصورة أفضل.

ضربة معلم
عندما سقط جدار برلين، وتوحدت ألمانيا من جديد، وأصبح الثالث من أكتوبر هو يوم عيد الوحدة الألمانية، وتقرر أن يكون عطلة رسمية في كل عام، تمخضت قريحة الدكتور نديم إلياس عن فكرة ذكية، وهي أن تفتح المساجد أبوابها في هذا اليوم لكل الناس، بحيث يستطيع الألمان من غير المسلمين أن يدخلوا المساجد في يوم عطلتهم، ويتعرفوا إلى ما يحدث داخلها، فتزول الغربة والفضول، ويستمعوا إلى إجابات عن أسئلتهم حول الإسلام والمسلمين.

تنافست المساجد في الترحيب بالزوار، وإكرام الضيوف، الذين وجدوا الوجوه الباسمة، وسعة الصدر على كل الأسئلة، وكتيبات تحتوي على المعلومات التي يفتشون عنها، وفوق كل ذلك أطعمة من كل بلاد المسلمين، من الشام والبوسنة، من المغرب واليمن، من فلسطين والسعودية، من مصر والصومال، من تونس والسودان، وتحول العيد الألماني، إلى (يوم المسجد المفتوح)، وبدلاً من أن تركز وسائل الإعلام الألمانية على مشاهد الألمان الهاربين من ألمانيا الشرقية، إلى برلين الغربية، أصبحت المساجد وزوارها موضوع الساعة في هذا اليوم من كل عام.

لم يرد نديم إلياس أن يسرق فرحة الألمان بوحدتهم، بل أراد أن يجعل العيد عيدين، عيد بزوال جدار برلين بين الألمان على جانبيه، وعيد لزوال الجدار النفسي بين الألمان المسيحيين، وبين الألمان والأجانب المسلمين، كانت صرخة للمسلمين للألمان، تقول لهم: «نحن هنا»، لكن نديم إلياس لا يستخدم الصراخ، بل يمد يده بالتحية، ويصبح هذا الإنسان الرقيق، مارداً يراه الجميع، لأن الأقدار كتبت عليه أن يكون دوماً في الصف الأول، واقفاً على المنصة، ومرفوعاً فوق الأعناق.

وفي إطار دور الاتحادات الإسلامية في ألمانيا، اتخذ نديم إلياس واحداً من القرارات القليلة، التي كانت ضرورية من الناحية السياسية، لكنها تسببت في انتقادات من بعض المسلمين أيضاً، وذلك حينما أراد السياسيون أن يلغوا «الميزة الدينية»، التي كانت تمنح الاتحادات الدينية وضعاً مميزاً، فوافق إلياس على ذلك بسرعة، لأنه استطاع بهذه الخطوة أن يساعد السياسيين على حظر المنظمات الدينية المتطرفة، وأصبحت الاتحادات الإسلامية مجرد جمعيات عادية جداً.

عندما يتأمل المرء ما أنجزه نديم إلياس، فلا بد أن يتبادر إلى الذهن السؤال التالي: كيف استطاع أن يقوم بكل ذلك؟ لأنه لم يكن المتحدث باسم الإسلام مع السياسيين، وأمام المجتمع الألماني، ومع ممثلي الكنائس، وبقية الاتحادات فحسب، بل كان في ترحال مستمر في أرجاء ألمانيا، ليشارك في المناقشات، ويلقي المحاضرات، وفوق ذلك كان يكتب الكثير من المقالات والدراسات، وألَّف كتاباً بعنوان: «سيقهر الماء صُمَّ الحجر»، وفيه يقدِّم الإسلام والحوار والسلام، أمام الخوف والعنف والإرهاب.

لكن إلياس، بعد هذا المشوار الطويل من العمل الدؤوب، قرر أن يترجل وينزل من على المنصة، فقد عبَّد الطريق لمن بعده، ووضع الهياكل الراسخة للمجلس الأعلى للمسلمين في ألمانيا، وانتهى من ترجمة معاني القرآن، وقال كل ما يريده، ودوّنه في مقالات لا حصر لها، وفي كتب بقيت مرجعاً لا يمكن الاستغناء عنه.

لكن هل يمكنه حقاً أن يركن إلى السكون بعد كل ذلك الحراك؟ يبدو أنه ما زال يعمل بعيداً عن الأضواء، ويقدِّم الدعم الكبير لرفاق وأبناء الأمس، ولا يبخل بالنصيحة. وهل تجود مكة إلا بكل خير؟

أضف تعليق

التعليقات