حياتنا اليوم

زمن التحوّل القَلِقْ

على المقهى الذي اعتدنا الجلوس عليه، كل مساء ثلاثاء، وقبل أن يكتمل عقد الأصحاب انتهز صديقي وجودنا معاً ليفاتحني في أمر طالما أخبرني أنه يطلب استشارتي فيه. كان الأمر هو رغبته في أن يبيع بيته الذي يسكنه ليشتري بيتاً آخر. كنت أعرف أن البيت الذي يريد بيعه قد آل إليه من والده المتوفى والذي لم يتمتع بالسكن فيه سوى أقل من سنتين قبل أن يسترد الله أمانته، بعد أن قضى الكثير من الجهد والمال لإكمال بنائه.
لا أذكر أنني دخلت بيت صاحبي إلا مرة واحدة، وكان ذلك في عزاء والده، لكنني أذكر أن البيت كان مبنيّاً على الطراز الذي يفضّله جيل الآباء وهو الطراز التقليدي: المجلس الكبير وإلى جانبه صالة الطعام (المقلّط بلهجتنا المحلية) ومدخلين منفصلين للرجال والنساء وغيرها مما كان ذلك الجيل يعده من ضروريات السكن والحظوة الاجتماعية لدى الطبقة المتوسطة؛ فالمجلس وصالة الطعام واجهة البيت التي يراها الآخرون والتي يحرص رب البيت على تأثيثها بالوثير من الأثاث أولاً، ولو على حساب المرافق الأخرى في داخل المنزل أحياناً.
أدركت لماذا يريد صاحبي بيع المنزل فهو بالنسبة له منزل كبير على عائلة مكونة من خمسة أشخاص بما فيها هو، ويتطلب صيانة دورية مكلِّفة، وتلك المجالس الفسيحة لم تعد تستقبل أحداً. إضافة إلى ذلك، فإنه سيتمكن من استثمار الفائض من ثمن البيت.
قضية صديقي لا تعنيه وحده فهي قضية جيل التحوّل المخضرم الذي يضع إحدى رجليه في الماضي، فيما وضع الأخرى في قطار التطور والتحديث المتسارع.
نحن نجتاز حقبة زمنية تبرز فيها مظاهر كثيرة للتحول الاجتماعي، زمن آذن بالرحيل مع تأثيرات السيل المهول من المعلومات وأنماط الحياة التي نشاهدها على مدار الساعة ومستجدات الحياة والتحديات الاقتصادية التي تواجه الطبقة الوسطى والذي يفرض حتماً، وبقلق، إزالة قيم واستبدالها بقيم أخرى.
جولة في مساءات المدن بالمملكة وعلى الأخص البحرية منها ستشاهد اجتماعات الأصدقاء في مقاهيها المنبثة على الأرصفة، وبدون غضاضة ستراهم يرتدون ملابس غربية خفيفة، أو ملابس رياضية بدأت تحل مكان الملابس التقليدية مثل الشُمُغِ المنشاةِ والثياب المكوية التي تراجع ظهورها لدى البعض إلى أيام معدودة في السنة كالأعياد والمناسبات الرسمية التي لم تعد البيوت تحتضنها كثيراً بعد أن لبى ظهور الاستراحات والقاعات المستأجرة الحاجة المتزايدة لتحول اجتماعي بدأ ينأى بنفسه بعيداً عن الأماكن المغلقة.
ذلك الزمن الذي كان يُعد فيه عدم دخول الرجال إلى مجلسك أحد المآخذ الاجتماعية قد ولى أو هو موشك على ذلك. لم يعد يشعر الكثير من الناس بالحرج من أن يضرب موعداً معك في أحد المقاهي، آو أن تكون ضيافتك الأولى في أحد المطاعم المنتشرة في كل أنحاء المدينة حتى لو كانت تلك المرة الأولى التي تلتقيان فيها. باتت المقاهي بكل ما توفره من سبل الراحة والمتعة والفضاء المفتوح والمجهزة بخدمة الاتصال الرقمي المباشر مع العالم مثل تقنية الواي فاي والهوت سبوت مكان يضج بالحيوية والأوقات الممتعة.
وجود (قدوع) التمر والقهوة العربية المبهّرة المرتبط بشدة بالعادات الراسخة لا ينسجم وتلك الأجواء فأخلى مكانه لمشروبات وافدة، فمقاهي اليوم الرصيفية ممزوجة بنكهة الفانيليا والكاكاو والتوفي، تتجاور فيها القهوة الفرنسية إلى جانب الأمريكية إلى جانب اللاتيه الإيطالي، تتشارك فيها الفطائر الغربية من أشكال الدونات الأمريكي والكرواسان الفرنسي.
وفي ضيافات العشاء باتت المطاعم المتنوعة تلبي كل الأذواق، وتتوافر على طاولة واحدة وفي نفس اللحظة أصناف الطعام الآسيوية والأوروبية أو الأمريكية باختلاف مذاقاتها، ولا شك أن فتيات الجيل الحالي سيشكرن الله كثيراً وسيكن أقل تذمراً حين يتذكرن أن جداتهن الحريصات على إكرام الضيف والقيام بالواجب الاجتماعي كن يقمن في بعض الأحيان بذبح خروف وسلخه ثم طبخه داخل بيتها!.
مجتمعنا من أسرع المجتمعات تحولاً، و بروز ظاهرة الخيام أو الديوانيات التقليدية في فناء المنازل يلبي بعض الحنين لدى المخضرمين، حيث يتشبث نمط العيش القديم بالحياة قدر ما استطاع، لكنه يتخلى في كل يوم عن مساحة إضافية للقادم الجديد.

عبدالله الوصالي
قاص وكاتب سعودي

أضف تعليق

التعليقات