قول آخر

القصة البصمة .. ذلك الفن البديع !!

ظهر شكل جديد من الكتابة الإبداعية في الأدب العربي المعاصر، وقد راح بعض عاشقي هذا اللون من الحفر الإبداعي يتهافتون على بثّ مرئياتهم ورؤاهم وهمومهم وتطلعاتهم عبره ومن خلال إطاره الفني.

هذا الشكل الجديد يُعرف بـفن (القصة القصيرة جداً).. وإن كانت فنون الكتابة في بعض الآداب العالمية الأخرى قد عرفت هذا الفن الأدبي قبل عدة عقود خلت، مثل الأدب الفرنسي والأدب السويدي، والأدب الياباني الذي عرف هذا اللون من الأدب بوساطة فن «الهايكو» الذي هو عبارة عن بيت واحد من الشعر مكتوب في ثلاثة أسطر يتضمن أفكاراً عميقة أو أحاسيس عارمة أو مشهداً مؤثراً.

والقصّة القصيرة جداً، ليست هي فن القصة ولا فن الرواية ولا فن المقال ولا حتى فن الخاطرة.. إنها عبارة عن ومضة مشعّة أو بصمة مكثفة، تتكفل بتصوير إحساس أو مشهد أو فكرة.

ومن الناحية التاريخية ينسب بعض مؤرخي الأدب هذا الفن السردي إلى الأديبة الفرنسية «ناتالي ساروت» التي كتبت هذا اللون الأدبي ونشرته لأول مرة سنة 1932م، في صورة مجموعة قصصية صغيرة بحجم كُتيب الجيب بعنوان (انفعالات).. لكن بعض الباحثين يشكك في ذلك، وينسب هذا الفن الأدبي إلى أديب عراقي يُدعى «نوئيل رسام» الذي كتب قصة قصيرة جداً سنة 1930م، ونشرها تحت عنوان (موت فقير)، أي قبل ظهور قصص ناتالي ساروت بسنتين.

فالقصة القصيرة جداً من حيث الماهية والبناء فن نثري قوامه أو أساسه تكوين حكائي سردي هندسي جمالي معرفي، يفضي بالذات الإبداعية إلى مناخات وفضاءات غير محدودة، مؤطرة بنزعة غرائبية موغلة في الذاتية والنزوع التجريدي، لكنها مع ذلك قائمة على عنصري المفاجأة والومضة السريعة أو ما يُسمى الاقتضاب السردي، والانتقال عبر الصورة المركبة. ولهذه الأسباب يمكن القول بأن القصة القصيرة جداً جنس أدبي قائم بذاته ذو إمكانات تعبيرية خاصة، لكنه يحفل بالكثير من الصعوبات المتكئة على الاختزال والتكثيف، أو ما يُعرف بالاقتصاد اللغوي.

وعبارة «جداً» في اسم هذا الفن الأدبي الإبداعي، تشير إلى أهم مميزاته المتمثلة في قصر الحدث وقوة التكثيف وبلاغة السرد، بحيث لا يبرحها القارئ دون أن تترك في مرآة نفسه ديناميكية ذهنية تقوده إلى آفاق رحبة للقراءة وإعادة القراءة، وأحياناً التلذذ بالصور الذهنية والمرئيات الغرائبية أو الدراماتيكية.

أما عن أهم ما يميّزها عن فن القصة القصيرة المشهور في كلّ آداب الشعوب ولغاتها، أنها ومضة سريعة لا تتسع للتفصيل، إضافة إلى شعرية اللغة القائمة على التناظر ما بين الإيقاع الداخلي والموسيقى الخارجية. وكذا شدة الاهتمام بعنصر المفاجأة.. وعليه يصحّ القول بأنها أقربُ إلى قصيدة النثر منها إلى القصة القصيرة.

كما أنها تختلف أيضاً عن فن الخاطرة، من جهة أن اللغة المستعملة في القصة القصيرة جداً ليست لغة مباشرة أو تقريرية، بينما لا يُشترط ذلك في الخاطرة. كما أن الخاطرة لا تقوم على عنصر التكثيف، فقد تأتي في صفحة أو صفحتين أو أكثر، بينما لا تستغرق القصة القصيرة جداً سوى بعض الأسطر المعدودة، بل قد تأتي أحياناً في سطرين أو ثلاثة!! ومع ذلك تترك أثراً أو انفعالاً أو حتى ألماً أو خدشاً أو ربما استبطاناً أو تمثلاً في الذات المفكرة للقارئ.

ومن أراد التأكد بنفسه مما ذكرناه فما عليه سوى أن يعمد إلى اختيار باقة من النماذج الممتازة من هذا الفن الأدبي وأن يقبل على مطالعتها وأن يتفاعل مع مشاهد وشخوص وأحداث هذا الفن الذي يلمّح ولا يصرّح، ويُشعّ ومضةً لا تكفي للرؤية، لكنها تسمح بفتح آفاق التخييل والشروع في مهارة التفكيك وإعادة البناء.

أضف تعليق

التعليقات