اطلب العلم

كبلر والكواكب العابرة .. وأشياء أخرى

في بدايات شهر يونيو للعام 2012م.. احتفل العالم أجمع بمرور عروس السماء – كوكب الزهرة – الثاني والأخير خلال القرن الحادي والعشرين من أمام قرص الشمس.. ليشهد العالم حدثاً فلكياً لن يتكرر مرة أخرى إلا في عام 2117م.
قد يتوقف البعض ليتساءل : كيف تحدث مثل هذه الظاهرة، ولم لا نرى كوكب الزهرة يمر من أمام قرص الشمس خلال دورته الطبيعية حولها، بل وماهي الفائدة الجمة التي تجعل أكبر المراكز البحثية في العالم تشد الرحال إلى مناطق مختلفة كي ترصد نقطة سوداء تعبر أمام قرص الشمس خلال عدة ساعات من اليوم.
أسئلة كثيرة تدور في أذهاننا ولكي نعرف الإجابة فلابد أن نعود إلى البداية
ونقصد بالبداية هنا القرن السابع عشر؛ وبالتحديد في عام 1631، حين تنبأ العالم كبلر Kepler (صاحب نظريات الحركة الكوكبية الثلاثة) بعبور كوكب الزهرة من أمام قرص الشمس بحيث يبدو مرئياً بالعين المجردة للمشاهد المستعد على سطح الأرض في وقت استند على تحديده إلى دراسة حركة كوكب الزهرة حول الشمس بالنسبة إلى حركة الأرض، وتحديد اللحظة المناسبة التي تصبح الأجسام الثلاثة فيها على خط نظر واحد.. تماماً كما يحدث في حالات الكسوف الشمسي.. حين تستقيم الأجرام الثلاثة – الشمس والقمر والأرض – على نفس خط النظر، فيصبح من الممكن مشاهدة عملية الكسوف بشكل كامل.
إذن يمكننا القول إن عبور كوكب الزهرة هو كسوف شمسي من نوع خاص؟ بالتأكيد.. فهو يتم بنفس الطريقة، وإن لم يكن باستطاعة كوكب الزهرة حجب قرص الشمس كما يفعل القمر وذلك لأن الزهرة بعيدة عنا بما يعادل 0.3 وحدة فلكية.. وبالنسبة لكوكب يتم دورته حول الشمس في 224.65 يوماً أرضياً، فإن الفرص التي قد يلتقي فيها هذا الكوكب مع الأرض على خط واحد مع الشمس محدودة للغاية.
وقد استطاع كبلر أن يحدد جدولاً زمنياً يتبعه كوكب الزهرة في عبوره أمام قرص الشمس، فالعبور يتألف من دورة مدتها 243 سنة.. تنقسم إلى فترات أصغر كالتالي: يحدث عبور لكوكب الزهرة خلال عام.. ثم يتكرر حدوثه بعد ثماني سنوات من العبور الأول.. ثم يحدث عبور ثالث بعد 121.5 سنة تفصل مابين العبورين الثاني والثالث.. ثم عبور رابع بعد ثماني سنوات أخرى.. وعبور خامس بعد 105 سنة.. ثم عبور بعد ثماني سنوات.. ثم عبور بعد 121.5 سنة …. وهكذا
عملية قد تبدو معقدة للوهلة الاولى.. لكن حساباتها تصبح أكثر دقة وبساطة مع تطور الأدوات الرياضية وقوانين الحركة .. وهو ما استنتجه كبلر وأبلغه للعالم أجمع.
وماذا حدث بعد ذلك؟؟ لم يصدق الناس كبلر في هذا الوقت ولم يلقوا اهتماماً للأمر.. وحدث العبور فعلا في التوقيت المحدد دون مراقبة فعلية من أحد.
لكن الوضع اختلف مع المرور الثاني بعد ثماني سنوات.. ففي عام 1639م كان العالم مستعداً لاستقبال المرور المهيب لكوكب الزهرة أمام قرص الشمس.. ومع تطور القوانين الرياضية والفيزيائية في ذلك الوقت عن سابقه.. ظهر لرصد العبور فوائد جمة.
فقد استطاع العالم جيريمايا هوروكس-Jeremiah Horrocks استخدام عبور كوكب الزهرة ليصنع أول قياس دقيق للمسافة بين الأرض والشمس.
وبعد قرن من الزمان.. وبالتحديد في عام 1761، كانت الشعوب والحكومات تتسابق لترك بصمتها على صفحات التاريخ كراصدة لعبور كوكب الزهرة.. ففي نفس الوقت الذي استطاعت فيه روسيا اكتشاف الغلاف الجوي الخاص بكوكب الزهرة من خلال رصدها للعبور.. كان مدعاة لفخر البريطانيين أن أحدهم – وهو السير جون وينثروب – استطاع رصد العبور من الأرض الجديدة (القارة الأمريكية الشمالية المكتشفة حديثاً).
ثم أصبح رصد العبور موضة شائعة في كل دول العالم منذ عام 1874 وحتى العبور قبل الماضي في عام 2004, وإن تناقصت فائدته العلمية نظراً لتطور وسائل القياس والرصد والمراقبة الحديثة، فلم يعد أحد يعتمد على عبور كوكب الزهرة ليتثبت من المسافة أو ليرصد سطح الكوكب.. بل أصبح رصد العبور لدى البعض نوعاً من السياحة العلمية وفرصة لالتقاط الصور التذكارية لحدث يتكرر مرتين كل قرن من الزمان.
هذا بالنسبة لعبور كوكب الزهرة تحديداً من أمام قرص الشمس.. فماذا لو طبقنا هذه النظرية مع النجوم الأخرى؟؟
كان هذا السؤال هو بداية مشروع ضخم أسسته وكالة ناسا NASA الفضائية لتطلق في عام 2008 مقراباً فضائياً أطلقوا عليه اسم (Kepler) ومهمته الوحيدة هي رصد المجموعات الكوكبية التي تدور حول نجوم أخرى كما يحدث في المجموعة الشمسية تماماً.
ويأتي هنا سؤال: هل وجدنا بالفعل كواكب تدور حول هذه النجوم البعيدة؟
وتاتي الإجابة بنعم.. فقد تم اكتشاف مايزيد على الـ 100 ألف نجم في مجرتنا لها أحجام مقاربة لحجم الشمس يدور حول كل منهم كوكب أو أكثر من ذوي طبيعة الصخرية أو الغازية.. وتتراوح أحجامهم بين حجم الأرض ونبتون والمشترى، وماهو أكبر بكثير..
إذن.. هل باستطاعتنا إيجاد حياة أو تمكين حياة بشرية على أسطح هذه الكواكب.. خاصة أنه تم اكتشاف توافر الماء بحالاته الثلاث على أسطح بعض هذه الكواكب؟ حتى الآن.. يظل كوكبنا الحبيب هو الكوكب الوحيد المأهول والصالح للسكنى، حتى مع وجود الماء السائل على أسطح الكواكب الأخرى فهو لا يعني بالضرورة أن بقية عوامل الحياة الأخرى قد تكون متوافرة للمعيشة.. فهناك درجات الحرارة وانعدام وجود الغلاف الجوي المناسب ( وأعني بذلك نسب الغازات الصالحة للتنفس البشري والتمثيل الضوئي للنباتات) والمجال المغناطيسي الذي يحمي الكوكب من هجمات الرياح النجمية والنيازك الفتاكة .. إلخ.
من كوكب الزهرة وقوانين كبلر للحركة.. إلى أعماق المجرة وملايين النجوم والكواكب المكتشفة.. وحتى يأتي دور أحفادنا لرصد عبور كوكب الزهرة القادم.. سنظل نراقب.. نتعلم، ونكتشف..

أضف تعليق

التعليقات