الرحلة معا

«سوق عكاظ»

والبحث عن هوية معاصرة

أخيراً.. بقي 50 كيلو متراً تبعدنا فقط من سوق عكاظ .. الفاتن والساحر والأسطوري. ونحن نعبر من فندقنا في أعالي الهدا باتجاه الطريق السريع الذي يربط الطائف بالرياض، كانت عشرات الهواجس تتناهبنا، فيما وجوه أو خيالات ثلَّة من الشعراء القُدامى تطلّ علينا، فنحاول بكل عناء تذكُّر مطالع معلقاتهم، أو نتفاً من قصائدهم، أو شذرات من حياتهم، فلا يطفو على الذاكرة إلا نثار مبعثر.

نفترق عن الطريق السريع، وننحرف إلى اليمين عابرين عدداً من التلال ومجاري السيول السطحية. الطريق ضيق يشق الصحراء، وعلى جانبيه تنمو الشجيرات. لسنا أمام الكثبان الرملية الحمراء التي عرفت بها نجد والربع الخالي، لكننا أمام الصحراء الصلدة التي تختلط بها الحجارة الصغيرة.

ننسى أننا نرتاد الطريق بعرباتنا الفارهة المكيّفة وأن نصف ساعة فقط تكفي لبلوغ صخورعكاظ فيما كانت القوافل تقضي يوماً كاملاً من الطائف، أو ثلاثة أيام من مكة المكرمة، لكننا في كل الأحول قاصدون عكاظ، المكان والرمز والتاريخ.

في الأفق البعيد، نلحظ خيمة تعلو على ما سواها، ونحدس أنها العلامة الجديدة الفارقة في أرض عكاظ، لكن سائقنا لا يؤكد ولا ينفي، إنه يكتفي بالإشارة إلى أن هذا طريقنا الصحيح إلى عكاظ، أما تفصيلات عكاظ فلا دخل له بها. التاريخ شأننا فقط، أما مطلبه الوحيد فهو أن نحدّد له الساعة التي يعود فيها لاصطحابنا إلى الفندق مرة أخرى.

لدى اقترابنا من الخيمة، غلبنا التشاؤم من طول الطرق الإسفلتية والأرصفة والممرات المشيدة في جنبات منطقة السوق. في رأينا أن تبقى محمية وأرضاً بكراً من عبث آلات الحفر والرصف والبناء الحديث، ففي كل هذه الأركان آثار لخطى الأولين قوافل وشعراء وخطباء وأسواق، وربما منازل للسكنى، أو خياماً لعقد المواثيق والصكوك…

ولكن… هل هذه السوق التي نشهدها اليوم هي تلك التي قرأنا عنها في التاريخ وسكنت في مخيلاتنا وأحلامنا؟! هل هذه الخيمة الأنيقة والضخمة قد نصبت فعلاً فوق التلة التي كان يلقي عليها الشعراء قصائدهم؟. هذا السؤال عسير ومفصلي، لكن المؤرخين يرجحون أن هذه التلة، التي أطلق عليها «الأثيداء» هي المكان الذي كان يتبارى على سفحه الشعراء، وفي جهة منه كانت قبة الحكم التي كان يصدر منها النابغة الذبياني أحكامه على القصائد.

طبعاً ستزداد الصعوبة لأن هذه المنطقة التي كانت مهداً لأسواق العرب في الجاهلية وفجر الإسلام ظلت كذلك حتى سنة 129 للهجرة، حين دمرتها الفتنة الحرورية، وبقيت على حالها كأرض مهجورة قرابة 1300 سنة، دون أن تتصل بأيّ من عناصر أو تقنيات تحديد الأماكن وعالمها التي نعرفها اليوم، أو عرفها العالم قبل قرن أو قرون من الزمان..؟!

في هذا السياق، تورد كتب المؤرخين نقاشات طويلة جرت بين عدد من المؤرخين والأعلام منهم: الشيخ فهد المعطاني، والشيخ محمد بن بليهد، والمؤرخ مناحي ضاوي القتامي، والشيخ حمد الجاسر، وعاتق غيث البلادي، وخليل المعيقل، ومحمد المفرجي، وانتهت إلى تحديد موقع السوق التاريخي على النحو التالي: «تقع السوق في أرض متسعة يحدها من الجنوب ملتقى وادي شرب ووادي الأخيضر والعبلاء (العبيلاء)، ومن الغرب جبال الصالح وجبال مدسوس، ومن الشمال الشظفا والخلص ومشرفة، ومن الشرق الدار السوداء والحرة أو صحراء ركبة، ويجعل اتساعها 4 كيلو مترات من الجنوب إلى الشمال، وكيلومترين من الغرب إلى الشرق».

نعرف أن الجدل سيدوم، فغياب القرائن والإحداثيات المادية سيفتح الباب واسعاً للتأويلات والأبحاث، لكن لا يجازف أحد بالقول إن هذه الفسحة من الأرض ليست حضن السوق. أما المكان فلن يخلو من هيبة، فهنا نشبت حرب الفجار( 585-590م ) بين قبيلة كنانة وقبائل قيس عيلان، وانتهت لاحقاً بالصلح بين الطرفين، وقد شهدها الرسول المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وهو يافع في سن الخامسة عشرة. ومعروف أن هذه الحروب جرت لإقصاء قريش عن خط التجارة بين اليمن والعراق، من قبل الحيرة، واحتفظوا بخط تجارتهم الدولية وفق رحلة الشتاء والصيف التي ذكرها الله عز وجل في محكم كتابه العزيز.

لكن هذه السوق لم تكن وقفاً على الأدب والشعر والحكم والأمثال بل كانت وجهة للتجار يتبادلون فيها المنافع والبضائع ويوقعون العقود ولم تكن حكراً على قبائل الجوار، بل كانوا يأتونها من جهات الأرض العربية، قبيل موسم كل حج.

نواصل تجولنا في الساحات، ونعبر الجادات، ونتشوّف الأودية القريبة، محاولين رسم صورة لملامح زمن غابر، كان الشعراء فيه سادة اللغة والمنطق والخيال، وكانوا يتقاسمون السوق مع التجار وشيوخ القبائل والقضاة والخطباء وأهل الصناعات وعاقدي الصفقات والعهود. والحقيقة إننا في تجوالنا لا نجد الكثير من تلك الأبعاد التاريخية، ولا تجسيداً للآثار الأدبية والفكرية التي ولدت أو حلقت في سماء عكاظ، كما لا نجد فيها التجليات المعاصرة لفكرة السوق الدولية حيث تتلاقى ملامح الإنجازات العلمية والحياتية والصناعية بالأدبية والثقافية والحضارية.

إن فكرة اللجوء الدائم إلى الموروث الشعبي بما يتضمنه من عرضات ورقصات وإيقاعات وأزياء وجعلها بؤرة كل مهرجان، لا ينجح تطبيقها في كل مناسبة، وخاصة في «عكاظ»، أول سوق عربية، وأقدم مهرجان متنوع ومفتوح، بلغة هذا العصر.

هذا المهرجان بحاجة إلى صنع هوية مستمدة من تاريخه العريق بحيث لا يكون شبيهاً بأي مهرجان آخر. ولكن لكي ننحت تلك الهوية (الفارقة) فإن علينا أن نفتح الأفق باتجاه الرموز الفاعلة والنشطة في ثقافتنا وفنوننا العربية لكي نبلغ التصور المنشود عن سوق عكاظ جديدة. وهنا فإنني لا أتحدث عن تنظيم مهرجان أو احتفال سنوي، لكنني أناقش صنع هوية تنتج عن قراءات حضارية وتاريخية معمقة لتاريخ هذا السوق، واستنباط هوية معاصرة تكون ذات رباط أصيل بالماضي لكنها تنفتح على الحداثة وعناصرها واتجاهاتها.

السوق أيضاً في حاجة إلى استثمار طاقات الشباب في مجال الفنون المعاصرة، وفي وسعها أن تكون جسراً لاجتهاداتهم المؤثرة في حقول المسرح والموسيقى الجديدة والسينما وفنون الكوميديا الارتجالية والتصميم، وغيرها من الفنون المشهدية والاستعراضية.

وفي هذا السياق ينبغي ألَّا نستثني الباحثين الأجانب في الآداب العربية والشرقية من المشاركة في مثل هذه الملتقيات، ونحن نعرف أن بعضهم أنجز أعمق الدراسات عن ديننا ولغتنا ومعلقاتنا وآدابنا..

نعم.. في مقدور ساحة عكاظ أن تكون أرحب مما حدث، أي منصة تلهمنا الماضي، وتفتح أفقاً للثقافات المعاصرة، وتحتفل بثقافة الآخر.

أضف تعليق

التعليقات