قول في مقال

العرْق واللون..

حرب الإنسان على الإنسان!

التمييز العنصري على المستوى الاجتماعي أو السياسي وفق التقارير العالمية موجود في كل مكان، إلا أن الفرق العظيم يكمن في موقف المؤسسات من ذلك التمييز، ففي كل البلدان المنتمية إلى الأمم المتحدة تحذيرات من التمييز العنصري، وكل البلدان وافقت على وثائق دولية بهذا الشأن، فهد بن سليمان الشقيران يناقش هذه المسألة.

لا يمكننا مناقشة العنصرية خارج إطار التاريخ البشري، فهي مسألة ضمن «الانثربولوجيا»، ذلك أن الصراع العرقي بين الطبقات قديمٌ قدم التاريخ. ويكفي أن نتأمل بتاريخ أوروبا في تجاوز هذه الصيغة العدوانية البشرية. فلاسفة كبار، أثَّروا في تاريخ أوروبا من القرن السادس عشر إلى التاسع عشر، كانت العنصرية تملأ كتبهم، بل إن الفيلسوف الألماني الأبرز هيغل ينقل عنه «جون ميشال بيسنييه»: أنه كان «يشكك في إنسانية الأفارقة»! وفي نصوص نيتشه أيضاً ما يوحي بالتمييز البشري بين الإنسان السوبرمان وبين الإنسان العادي، والعرْقية مسألة ضمن النسيج البشري، والأصل في الإنسان توهّم التميز، وكل قريةٍ ترى أنها مركز الكون، وكذلك كل قبيلة، وكل مدينة، فالتخلص من العنصرية أمر طارئ لأن البراءة منها زهوّ إنساني وسمو أخلاقي يحتاج إلى تدرّب وتمرين وجهد مكثف.

ثمة شبكة من العلاقات بما يخصّ العنصرية، ذلك أن ترسانةً من الدوافع تحرّكها، أبرز أشكال العنصرية المنطلقة من الذات، وأعني بها الذات الفردية، وهي بكل حمولتها عرضةً لأن تقرّب أو تبعد، لأن تحتقر أو تقدّر، ولعل أبرز أسباب تفشي العنصرية في بلد ما غياب مفهوم المواطنة بمعناه العميق.

تخطو فرنسا منذ «الثورة» إلى ترسيخ مفهوم المواطنة الفعلية، بصفتها أحد أكثر البلدان المتحضرة التي تغصّ بالمهاجرين تُعد أمام امتحان حقيقي إزاء مفهوم «المواطنة» وترسيخه، ولعل الحالة الإسلامية التي تحتضنها فرنسا ليست غريبة أو جديدة، وإذا استعرضنا الكتب والصحف والإعلام الفرنسي لوجدنا أبناء المهجر من المسلمين يحتلوّن مساحة هائلة من الحوارات والضرب والطرح السياسي، ومشكلة المهاجرين أطاحت بزعامات فرنسية لأن حلها لم يكن بالأمر السهل، وهو يتوقف بشكل أساسي على مفهوم المواطنة من جهة تركيبه وترسيخه طوبة طوبة، حتى آلت إلى المستوى الذي وصلت إليه من رسوخ شديد لمفهوم «المواطنة» على ما يشير إلى ذلك الكاتب والمترجم (هاشم صالح) في كتابه (معضلة الأصولية الإسلامية) وهو المقيم في فرنسا منذ عقود وهو أحد النوافذ التي تصلنا بالثقافة في فرنسا.

مشكلة التمييز العنصري والفئوي والطائفي لم تعد لغة سرية خاصة في البلدان النامية، وهذا مؤسف جدا،ً ذلك أن الشائعة الكبرى التي يتلقفها المجتمع بعامته أن المجتمعات الغربية تعيش تفككاً أسرياً واجتماعيا،ً والواقع أن كل المجتمعات تعيش هذه المعضلة، إلا أن المجتمعات المتحضرة لديها «قوانين» تمتاز بالحد من شيوع الظاهرة، لأن القانون يأتي كـ «ضرورة» وهو ملزم وعادل يستوي فيه كافة أفراد المجتمع بلا تمييز بين سيد وعبد أو غني وفقير، ونظل نضخ نرجسياتنا عبر استهلال مجالسنا بالزعم الباطل بأننا نتماسك اجتماعياً وأن الغرب يتفكك ويتهاوى، متجاهلين دوائر الأمان التي يقوم عليها المجتمع الصلب في عقليته «المتحضرة». إن الكثير من الأمراض البشرية متشابهة والفرق يكمن في «الثقافة» التي تعالجها، والقانون الذي يكبتها، ولعلّ «مفهوم المواطنة» بعمقه العتيد لم يتشكلّ بعد في عالمنا العربي وفق حالات التمييز العرقي والطائفي.

الفيلسوف التجريبي الإنجليزي (فرانسيس بيكون) يحذرّ من أوهام تقف أمام تقدم الذهن البشري، ويقسمّها إلى أربعة أقسام: (أوهام السوق) (أوهام الكهف) (أوهام المسرح) (أوهام القبيلة) ولعل الأخير هو ما يهمني، فللقبيلة تراكماتها الممتدة منذ قرون، كما أن لها ثقافتها المترسخّة المستمدة من «الماضي» التي تصبح (حاكمة) على الحاضر، كما يتجلى وهم القبيلة بأبشع مظاهره حينما تتحول التقاليد كبيرها وصغيرها إلى حالة مقدسّة لا يمكن المساس بها ولا الاستدراك عليها، ويتجلى ببشاعة أيضاً حينما يمتلئ مخزون أتباعها بالتميز والاصطفاء والاعتقاد الأخرق بأن مجرد التناسل من هذه القبيلة أو تلك من دلائل العبقرية، وفي البلدان المتخلفة فكرياً التي لا تتصل بآخر اكتشافات العصر، تظل تلك الأوهام محرضة على الطغيان على الآخرين وفق محركّ خاطئ يسود في عقلية الكائنات المشرئبةّ تبختراً وهو الوهم الفظيع. أعتقد أن الامتلاء النرجسي الخاوي والانبطاح التام على أوهام القبيلة وأمجادها وعبقرية المنتمي إليها المتناسل منها أدتّ إلى ضمور الفعل البشري المتحضرّ في العالم العربي ذلك أن ملء الطالب أو المواطن أو الابن نرجسياً يحرضه على الكسل والنوم والاستمتاع بالأحلام السعيدة والشعور الخاوي بعبقرية كل من ينتمي إلى تلك القبيلة.

«التمييز العنصري على المستوى الاجتماعي أو السياسي» وفق التقارير العالمية موجود في كل مكان، إلا أن الفرق العظيم يكمن في موقف المؤسسات من ذلك التمييز، ففي كل البلدان المنتمية إلى الأمم المتحدة تحذيرات من التمييز العنصري، وكل البلدان وافقت على وثائق دولية بهذا الشأن، إلا أن ما يخصنا هو في تشريع الأنظمة والقوانين التي تحمي الجميع من غلواء العنصرية وتحاسب المتورطين فيها، ولعل حوادث التفريق بين الأزواج على ما شهدنا في السنوات الماضية يكشف عمق العنصرية وخطرها.

التفريق بين الزوجين لعدم تكافؤ النسب يتعارض مع التحقق الكلي لمفهوم المواطنة وهذا الموقف بحد ذاته إذا أردنا فحصه بحاسة اكتشاف «التمييز العنصري» فإن النتيجة ستكون جداً مؤسفة، إن المواطنين سواسية في الدرجة الاجتماعية ولا نظن أن تشريعاً أو قانوناً في هذا البلد أو ذاك يمكن أن يكون مستمسكاً لتبرير ذلك التفريق بين زوجين آمنين لمجرد اقتناع القاضي بقول من أقوال المسألة الفقهية المختلف فيها، وهذا ليس على مستوى النسب بل نحن بحاجة إلى إعادة النظر حتى بالزواج من الطوائف الأخرى داخل البلد الواحد. هل ستكون مؤسساتنا الحكومية بحجم التحدي الهائل الذي يقع على مسؤوليتهم الآن في هذا الظرف العصيب وعلى ضوء تلك الحادثة؟!

يبدو أن الفارق بين قوة القضايا المرفوعة حالياً هو في «اللغة»، فنظراً لفراغ الحسم في الأنظمة تتدخل بلاغة «المدعّي» في تجيير فهم القاضي لصالحها، وكم هو مؤسف جداً أن كثيراً من الأفهام الذكورية تجنح إلى موقف مغاير حينما تكون المسألة «أنثوية» أو مخالفة في «التفكير» آن الأوان أن تهتم كافة مؤسسات الثقافة والتعليم والقضاء والتشريع بطرح الموضوعات المهمة وآية أهميتها شعور الأغلبية بالاستفهام إزاءها ولا يستطيعون التحدث بها بين بعضهم البعض، هل نريد من أجيالنا القادمة أن تكون على مستوى عالٍ من المواطنة؟ إذن فلنرسخّ مفهوم (المواطنة) بكافة أعماقه في بلداننا ولنجعل كل من انتمى إلى الوطن على مستوى واحد وليكن ذلك «الانتماء» إلى الأرض كفاءة غير منقوصة بلا مزايدة أو طعن أو جرح لشعور أي مواطن تحت أي حجة ووفق أي تمييز أو تبرير. من هنا نخرق مزاعم كثيرة تدعي أن «الوطنية» موجودة ومتوافرة إن الانتماء إلى الوطن بحد ذاته انتماء جماعي مشترك.

مشكلة العنصرية يجب أن تكون موضع بحث حقيقي في المجتمع، وأحد أسباب انتشارها التقصير في مساءلتها وعدم الخوف أو الرعب من تشريحها. جزء من كارثة المجتمع نجدها في النخب الذين يعبّرون عن مشكلاته. في الدراسات الناقصة الرخوة التي تدّعي مقاربة مشكلات المجتمع أدعياء هنا وهناك، ممارسات ثقافية طائشة، انفصال الجامعات عن قضايا المجتمع الملحّة. ذلك أن كارثة الكثير من الطروحات المتناسلة والمقالات المتكاثرة التي تلفظها الصحف يومياً؛ وبالمئات، كارثتها أنها لم تفهم بعد طبيعة المجتمع. حتى النصوص الروائية التي تحاول الوصول إلى تخوم مشكلة التيه هي تائهة أيضاً. ومهما كانت النصوص الروائية مبعثرة الصف والسرد، غير أنها تعبر عن مشكلة الفهم الأساسية التي من دون التغلب عليها بالبحث والسؤال فإن تأسيس رؤية عن أمر غير مفهوم يحيل الكاتب إلى تكرار ما قيل من قبل.

حاول الكثير من الباحثين-الذين يستخدمون الأدوات المعرفية في التحليلات الاجتماعية، وفي قراءة التاريخ والمجتمع- حاولوا أن يلفتوا نظر الأكاديميين إلى ضرورة تسخير «علم الاجتماع التاريخي» لقراءة النظُم التي تأسست عليها البنى الاجتماعية. مستثمرين ما أنجز أوروبياً من ثورات معرفية، ومنجزات تحليلية ربما تساعد في حل أزمة الفهم التي تعاني منها الكتابات الرثّة الطويلة والقصيرة التي تكتب في الصحف بلا كلل أو ملل.

بين يديّ نص قديم كتب في الستينيات الميلادية للباحث محمد أركون فهو يصرّ على ضرورة أن: «نأخذ بالاعتبار بُعداً آخر لا يزال مجهولاً، من قبل المستعربين والاختصاصيين، أريد أن أتحدث هنا عن علم النفس التاريخي، الذي يهتم بالشروط الاجتماعية والثقافية لتطوّر العقلاني والمتخيّل، وللتفاعل المتداخل بين العقل والخيال، بين الوعي واللا وعي، أو الحلم والهواجس، والباطنية والهامشية الاجتماعية، والبنى النفسية، والقوى النفسية العميقة، والمتخيّل الاجتماعي».

ذلك النص هو نموذج واحد من مئات النصوص التي كتبت من قبل باحثين حاولوا فكّ أزمة فهم الحالة التي تعيشها المجتمعات. وهي محاولات بسيطة إذا ما استحضرنا الأسئلة المزعجة والمقلقة حول مآزق المجتمعات التي نعيش فيها.

أضف تعليق

التعليقات