قد يبدو أنه من المستحيل ألا تمر بنا نسخة رديئة عن لوحة لفان غوخ معلقة في غرفة انتظار في مكان ما، أو قميص يحمل رسمة لفريدا كاهلو، أو حتى علبة معدنية مطبوع عليها أحد المناظر التي رسمها مونييه.
وهكذا لم يعد غريباً أن نرى أعمالاً لمن يعدون أعلاماً في عالم الفن الطليعي، وقد تحولت واجهة لبعض السلع استهلاكية، وكتش. أتذكر أن المرة الأولى التي تعرفت فيها مصطلح «كتش» كانت في أثناء قراءتي لرواية ميلان كونديرا « كائن لا تحتمل خفته». ورغم أن الكتش ليس أمراً بالغ الأهمية في الرواية، لكنني أتذكر أنني توقفت عنده كثيراً، محاولة معرفة معناه أولاً، ثم قلقت من أن أكون من مستهلكي هذا «الكتش».
الكتش كما يعرفه معجم أكسفورد هو: فن، جسم أو تصميم صنف أنه فقير فنياً، بسبب المبالغة في تزيينه، أو بسبب المبالغة في تصوير المشاعر. لكن كونديرا يعرف مصطلح الكتش بأنه: الإنكار المطلق للانحطاط.
في البداية بدا صعباً أن أعرف ما هو الكتش، وما هو سواه، لكن قبل سنوات ليست بالكثيرة، شاهدت لقاء أجري مع الفنان الأمريكي جيفري كونز على هامش المعرض الذي أقيم لأعماله في قصر فرساي عام 2008م.
في عام 1988م أي قبل 20 سنة من ذلك اللقاء، عرض كونز منحوتة من البورسلين لمايكل جاكسون يحمل شامبانزي. ليس غريباً أن يعتبر أي شخص يعتقد بامتلاكه ثقافة فنية، أيًا كانت سعتها أن هذا كتش «فن رديء» لكن كانت صدمتي عند رؤيتي لهذا اللقاء، أن يصنف جيفري كونز فنه ككتش.
وصف جيفري كونز لأعماله بالكتش، كان صادماً بالنسبة لي، لكنه أيضاً فتح آفاقاً أخرى لفهم الانحطاط أو الابتذال، وتقدير المعاني التي يحملها. فالانحطاط أو الرخص والتفاهة، هو جزء من ثقافة الشعوب، والقدرة على التعبير عنه، هي فعلاً فن. إن اعتبار بعض أشكال الكتش فناً، لا يعني أن الفن الطلائعي ليس فناً بالتالي، بل قد تكون العلاقة بين الفن الطلائعي والكتش، هي علاقة تشبه مفهوم الين واليانق في الثقافة الصينية. فالاثنان مكملان لبعضهما أو حتى إنهما وحدة واحدة، وأحياناً نجد أن أحدهما جزء من الآخر.
كما ذكرت سابقاً، فإن وجود فن طلائعي هو أمر مرتبط ومتلازم مع وجود الكتش، فلا يمكن إطلاقاً أن يتم تصنيف أحدهما دون وجود الآخر «وبضدها تتمايز الأشياء». لكن ما يبدو غريباً هو أن تتبادل تلك الأضداد الأدوار. ففي حين ليس غريباً أن ترى لوحة ذا ليدي أوف شالوت لجون ويليم واتيرهاوس كخلفية لجهاز كمبيوتر أو جوال .. نرى أن أعمالاً لفنانين معاصرين أو فناني البوب غير شعبية إطلاقاً، في مفارقة رهيبة ومثيرة للسخرية. إن معرفة شريحة ضخمة من الناس لاسم وأهم أعمال ليوناردو دافنشي، يبدو أمراً غريباً أمام تراجع أعمال آندي وارهول المليئة برمزيات الثقافة المعاصرة، لتبقى محصورة بين نخبة ضيقة من الناس، وجدران المعارض الفنية الخاصة.
إن العديد من نقاد الفن يرون أن قيمة الكتش، تكمن في كمية السخرية التي تحملها تلك الأعمال، قد يكون هذا الأمر هو أحد الأشياء التي دعت بالكتش ليتحول لفن نخبوي، فيما يتحول الفن الطلائعي لكتش، من خلال استخداماته، و تحويله لثقافة استهلاكٍ إنتاجاته مطبوعة على أكواب، وداخل إطارات اللوحات في معارض البيع لشركات الأثاث والتحف المتعددة الجنسيات. إن مباشرة الفن الطلائعي كمنتج بصري يحوي عناصر جمالية شائعة قد تكون سبباً في استحالة هذا الفن لمادة استهلاكية لا أكثر. في المقابل تحتاج أن تعرف الرمزية التي تغلف الكثير من عناصر فن الكتش، لتستدرك مقدار السخرية التي تحويها تلك الأعمال.
في سبب آخر لهذا التحول في مكانة «الفنيين» هو الشغف المستمر للعديد من أفراد الطبقة المتوسطة في انتهاج سلوك الطبقة الغنية، لذا يسعى كثير من أفرادها لاقتناء «الفن» حتى لو كانت نسخاً رديئة، كجزء من هذا السعي، حيث إن التعاطي مع الفن هو رفاهية تخلق الفرق بين الكادح والمتنعم. في المقابل تمارس الطبقة الغنية سلوكاً مماثلاً، و قد يكون معاكساً، في سعيها هي الأخرى للإبقاء على هذا الفرق الذي يفصلها عن بقية المجتمع، بالتوجه لاقتناء ودعم الكتش كنوع من التمايز.
إن السؤال الذي يجدر طرحه هنا: إلى متى ستظل الصورة مقلوبة؟ وهل يجدر بنا نحن أيضاً أن نقلب المسميات، حيث يصير أي فن طلائعي كتشاً، ويتحول الكتش لفن طلائعي؟!