خلال الأشهر القليلة الماضية لاحظ المستهلكون أينما كانوا في العالم أن أسعار المواد الغذائية الأساسية (والكمالية) ارتفعت ارتفاعاً حاداً. وفيما تمكنت المجتمعات الغنية، وذوو المداخيل المعقولة من تسديد فواتير مشترياتهم (وإن بامتعاض)، اندلعت سلسلة من الاضطرابات في بلدان عديدة نتيجة التحدي الخطير الذي مثله ارتفاع أسعار المواد الأساسية مثل الأرز والسكر واللحوم أمام الفقراء. وباتت أسعار القمح والأرز والحبوب موضع اهتمام يومي في وسائل الإعلام إلى جانب تحليلات الخبراء وتحذيراتهم من المسار الذي يمكن أن تسلكه أزمة الغذاء في العالم.
الدكتور فكتور سحاب يتقصَّى أسباب هذه الأزمة، واحتمالات النجاح في مواجهتها، وصولاً إلى ما يمكن أن يترتب عليها من نتائج.
عند بداية الألفية الميلادية الثالثة، قبل سنوات سبع ونيّف، أعلنت الأسرة الدولية أنها قررت العمل لتقليص عدد الفقراء الجوعى في العالم إلى النصف في سنة 2015م. واليوم في سنة 2008م، صدرت تحذيرات دولية مقلقة، تخشى أن يتضاعف عدد الفقراء الجوعى، بعدما قفزت أسعار المواد الغذائية الأساسية، على نحو أشعل فتيل الاضطراب الاجتماعي في بعض البلدان، ومنها ساحل العاج وهايتي وموريتانيا والمكسيك والسنغال وتونس واليمن ومصر.
وأصاب الهلع دولاً منها الفلبين وبنجلادش، حيث لم تستطع الحكومات أن تضمن طلبها من الحبوب، لتثبيت مخزونها؛ لأن التجار تريثوا في انتظار اتضاح وجهة تحرك الأسعار. فما الذي حدث للعالم، حتى انقلب الأمر هذا الانقلاب المخيف، وبتنا تحت رحمة «تسونامي صامت» كما قال أحد مسؤولي برنامج الغذاء العالمي؟
كانت أسعار المواد الغذائية تسير نحو الهبوط منذ الربع الأخير من القرن الميلادي العشرين، حتى سنة 2005م، ففقدت هذه الأسعار ثلاثة أرباع قيمتها، ودفعت دولاً زراعيةً كثيرة إلى الإقلاع عن تركيز دخلها على الزراعة وحدها، أو على الزراعة أولاً، أو على الزراعة عنصراً أساساً من هذا الدخل. وكانت الشكوى أن هذا الانكفاء عن الزراعة هجَّر ملايين البشر بل مليارات، من الريف إلى المدينة، فظهرت مدن الصفيح وأحزمة الفقر حول المدن الكبرى، وأقفرت الأرياف من ساكنيها وزارعيها.
وعلى الرغم من النفير الذي سُمع صوته مدوياً في أرجاء العالم أخيراً، منذراً بأن ارتفاع سعر الأغذية الأساسية بدأ يُحدث توسعاً خطيراً في رقعة الجوع، إلا أن هذا الغلاء الطارئ ليس تماماً سبب المجاعة التي يعانيها فقراء البشر، ولا حتى سبب ظهور هذه المجاعة. إذ يقول بير بنسترب – أندرسن، أستاذ التغذية والسياسة العامة في جامعتي كورنيل وكوبنهاغن «إن 860 مليون نسمة كانت عاجزة عن الحصول على الطعام حين كانت الأغذية أرخص» قبل سنوات خمس. لكن معظم هؤلاء يعيشون في الأرياف، بخلاف المتظاهرين جوعاً اليوم، الذين تملأ أخبارهم عناوين الصحف، فهؤلاء سكان مدن. ويضيف بنسترب – أندرسن قوله: «كان ينبغي أن نتظاهر منذ سنوات خمس».
أسباب الأزمة
لقد عزت بعض الأبحاث تعاظم الأزمة إلى صعود دول ضخمة التعداد، على رأسها الصين والهند، إلى مصاف الدول المتجهة بسرعة نحو التقدم، على النحو الذي حسَّن استهلاك الغذاء فيها. فاختفت المجاعة من الهند، وفيما كان الإنسان الصيني في عام 1985م يأكل كل سنة 20 كيلوجراماً من اللحم، صار يأكل اليوم 50. ومع الحاجة إلى 8 كيلوجرامات من الحبوب لإنتاج كيلوجرام لحم، يتضح حجم الحاجة المستجدة لتحسين مستوى التغذية لدى مليارين من البشر يقطنون هذين البلدين وحدهما، لا سيما حين يتحول النظام الغذائي إلى إكثار تناول اللحم، بدل الحبوب. وتستدل الأبحاث هذه، لإثبات حجتها، بأن الطلب زاد أكثر من الإنتاج، الذي زاد هو الآخر، لكن بنسبة لم تلبِّ كل الطلب. وتشير إلى أن زيادة علف الحيوانات الأليفة وحدها، راوحت بين 200 و250 مليون طن، على ما كان قبل عشرين عاماً.
الإيثانول من الأسباب
إلا أن أبحاثاً أخرى رأت أسباباً أقوى أثراً، هي الهجمة الأمريكية على وقود الإيثانول، المستخرج من الذُّرة، والدعم الذي يلقاه هذا النمط الجديد في إنتاج الطاقة، لأسباب الراجح فيها أنها سياسية لا اقتصادية. ذلك أن إنتاج وقود الإيثانول هذه السنة سيبتلع ثلث إنتاج الذرة الأمريكي. وإذا علمنا أن ملء خزان وقود سيارة رباعية الدفع مرة، يحتاج إلى ذرة تستطيع إطعام إنسان سنة كاملة، يتضح حجم ما تختطفه هذه الهجمة من على مائدة الفقراء في العالم. وهي هجمة لا تأخذ الذرة من أفواه البشر فقط، بل من المواشي التي ستُعلَف علفاً آخر، تؤدي نُدرته من طريق أو آخر، إلى أن يعز الطعام عند البشر أيضاً. فالثلاثين مليون طن من الذرة التي حُوِّلَت وقوداً، تساوي نصف مقدار تقلص مخزون الحبوب في العالم كله هذه السنة. ويستدل أصحاب حجة «تجريم» الذرة في الغلاء الأخير، بأن التحول الغذائي في الصين والهند كان متدرجاً في السنوات الماضية، ولا يفسِّر الغلاء المفاجئ في سعر الحبوب والغذاء.
لقد أدت الهجمة على زرع الذرة، إلى تقليص المساحة المزروعة أرزاً أو حبوباً أخرى، مع تحوّل المزارعين إلى الغلال الأجدى. وبذلك يؤدي الإقبال على نوع من الحبوب إلى غلاء الأنواع الأخرى. وقد بلغ دعم الحكومة الأمريكية زرع الذرة سبعة مليارات دولار، أي إن كل غالون وقود، كلف واشنطن 1.90 دولاراً أمريكياً.
غير أن الأسباب التقليدية لغلاء الحبوب كان لها دور أيضاً في القفزة الأخيرة، إذ إن الجفاف الذي يضرب أستراليا منذ سنوات ست، قلَّل الإنتاج الآن سنتين على التوالي. وزاد الطين بلة أن بلدين أساسيين يخزنان الحبوب على نطاق واسع، هما الولايات المتحدة الأمريكية والصين، قلصتا المخزون السنة الماضية، توفيراً للمال.
وجاء في تقرير أصدرته منظمة فايتسِنجِر الدولية في ألمانيا في أبريل الماضي، أن سعر الأرز، الطعام الأساسي عند نصف سكان الكرة الأرضية الستة مليارات، زاد «زيادة صاروخية»، فلامس سعر الطن ألف دولار أمريكي، أي إنه تضاعف نحو مرتين منذ بداية سنة 2008 الجارية. وقال التقرير إن الزيادة لم تقتصر على الأرز بالطبع، فمنذ أواخر سنة 2006م، زاد سعر كل الأغذية الأساسية، الذرة والحبوب والصويا ومنتجات الحليب واللحم وكل زيوت الطعام زيادة كبيرة.
والغريب في الوضع أن الأسعار تزيد فيما يعلن مجلس الحبوب الدولي في لندن، أن نسبة الغلال السنة الفائتة 2007م، بلغت 1.66 مليار طن، وهو رقم قياسي. ولإيجاز الوضع المعقد هذا، فإن الإنتاج زاد، لكن الطلب زاد أكثر، وتقلص المخزون.
ما يختفي عن المائدة
ولفهم الخطر الذي يعنيه هذا الغلاء، من دون بهلوانيات فكرية معقَّدة، شرحت جوزيت شيران، رئيسة برنامج الغذاء العالمي، كيف تؤثر أزمة الغذاء اليوم في حياة مئات ملايين البشر. فقالت: «يعني (الغلاء الأخير) عند الطبقات المتوسطة، تقليص إنفاقها على الخدمات الطبية… أما الذين يعيشون بدولارين في اليوم، فيعني الأمر امتناعهم عن أكل بعض اللحم وإخراج الأولاد من المدارس. وسيضطر الذين يعيشون بدولار في اليوم، إلى التوقف عن أكل اللحم والخضار والاكتفاء بأكل بعض الحبوب. أما الذين يعيشون بنصف دولار في اليوم فالأمر لهم كارثة مطلقة».
وترى مجلة «إكونومست»، إن شح الطعام يستطيع أن يكون شراً مستطيراً وخيراً عميماً في الوقت نفسه. فهو يضر
لا شك سكان المدن الفقراء، الذين كان طعامهم في الأصل باهظ الثمن، فزاد ثمنه غلاءً الآن. لكنه يفيد سكان الأرياف لأنه سيحسِّن سعر محصولهم، في البلاد الفقيرة والمناطق التي عانت الإهمال طويلاً.
لكن هذا التحليل يُظهر شبهة تناقض محيِّر في الموقف: فقد خفضت الدول الغنية أسعار نتاجها الزراعي بالدعم، فحدثت الكارثة الزراعية في الدول الفقيرة. والآن زادت الأسعار فحدثت الكارثة. كيف يصح الأمران معاً؟
الحقيقة أن ليس في الأمر أي تناقض, ذلك أن إغراق الدول الغنية أسواق الغذاء في العالم بنتاجها المدعوم ألحق بالغ الضرر بالمُزارع في العالم الثالث، لأنه عجز عن منافسة أغذية أوروبية وأمريكية، أنفقت الكتلتان الكبريان مئات مليارات الدولارات في دعمها. فتوقف المزارع في تلك الدول الفقيرة عن الإنتاج، لعدم قدرته على بيع نتاجه في مواجهة أغذية مستوردة رخيصة وجيدة، واضطر المستهلك فيها لأن يأكل من الطعام المستورد أكثر فأكثر. والآن، بعدما انكفأت دول العالم الثالث عن إنتاج الطعام قدر ما كانت تنتج في الماضي، وباتت رهينة الأسعار التي تفرضها منتجات الدول الغنية، أدت زيادة سعر الغذاء الأخيرة، ونسبة كبيرة منه آتية من الدول الصناعية المتطورة، إلى نذير جوع، لا عند المزارع فقط، بل عند المستهلك أيضاً في هذه الدول النامية.
ويعتقد خبراء أن زيادة الأسعار العالمية، وعدم قدرة المستهلك في الدول النامية على شراء سلة غذائه من الطعام المستورد من الخارج، ستعيد إلى المُزارع في هذه الدول النامية قدرته على تصريف نتاجه، في السوق المحلية على الأقل.
عوامل السوق أم السياسة؟
غير أن الأمور لن تكون وقفاً على عوامل السوق من عرض وطلب فقط. فسياسة الحكومات يمكن أن تضر وتنفع. وإذا لم يفعل القادة السياسيون شيئاً في القطاع الزراعي، أو إذا فعلوا فعلاً غير سليم، ففي إمكانهم زيادة بؤس المدن الفقيرة، وإذا أحسنوا اختيار البرامج الحكومية المناسبة، لتعزيز الزراعة والإنتاج، فستستفيد الأرياف والمدن معاً، في البلدان النامية التي كانت المرحلة السابقة شديدة الوطأة عليها.
كذلك يتوقف كثير من عناصر الحال في السنوات المقبلة، على مليارات الدولارات التي تنفقها الدول الغنية اليوم في دعم مزارعيها. فقد أدت سياستها هذه، إلى زيادة الضرائب وتدهور جودة الغذاء، واعتماد نمط الزراعة الكثيفة لإنتاج محصول واحد، وإغراق الأسواق للقضاء عمداً أو عرضاً على إنتاج الدول الفقيرة، ثم زيادة السعر بعدئذ، على نحو ألحق البؤس بالمُزارع والمستهلك معاً في تلك الدول، وألحق أشد الضرر باقتصادها القائم على الزراعة وحدها في كثير من الحالات. كذلك لم تكن السياسة الزراعية في الدول الغنية في الإجمال منَّاً وسلوى للمُزارع الغربي نفسه، إذ إن منطق الزراعة المكثفة، يعني الاستغناء عن جزء كبير من اليد العاملة الزراعية، باستخدام الآليات والأسمدة بكثرة، واستيلاء الشركات الكبيرة على أملاك صغار المزارعين، لإنشاء منظومات زراعية شاسعة، تملكها احتكارات عملاقة. ومع ظهور عواقب وخيمة لهذه السياسة، اتضح أيضاً أن ارتفاع الأسعار دفع كثيراً من المزارعين في الدول الاستوائية، إلى الهجوم على الغابات القريبة من أماكن سكناهم، والبدء في تعريتها لزرعها. وقد سرَّعت هذه النزعة مسيرة خطرة في الأساس، تنحو نحو تقليص مساحة الغابات في الكرة الأرضية، وما يجلبه هذا التقليص من خطر بيئي شامل.
الوضع المعقَّد
يرى تقرير فايتسِنجِر، أن ثمة عوامل تقنية في سوق الغذاء تتحكم بالحركة والأسعار. فسعر السلعة الغذائية الزراعية تحكمه دورة زمنية. ذلك أن لحاق الإنتاج المنشود، بزيادة الطلب، يلزمه على الأقل مضي موسم زراعي. وبعد هذا يحتاج إنشاء احتياط من المخزون وقتاً آخر حتى تستقر الأسعار على مستوى ما. كذلك لم يغب حسبان أثر غلاء الوقود، فهو يزيد سعر المخصبات وتكلفة النقل.
غير أن جان تسيغلر، مفوض الأمم المتحدة الخاص المكلَّف شؤون حق الغذاء، وصف تحويل نسبة كبيرة من النتاج الزراعي إلى صناعة الوقود، بأنه «جريمة بحق الإنسانية».
ويعتقد خبراء آخرون أن تلبية طلب الغذاء في السنوات المقبلة أمر مشكوك فيه، مع تسارع تمدد المدن واستقطابها نسبةً أكبر من سكان الكرة الأرضية، على نحو ينشِّط وتيرة التصنيع ويلقي بعبءٍ إضافي على البنى التحتية المدنية ويغزو مساحة أوسع من الأرض الزراعية ليحولها إلى رقع إسمنت عاقر، تزيد ضخ المياه الآسنة في جوف الأرض. ولا يرى الخبراء أن هذه العوامل بعيدة عن الجفاف الذي يضرب أستراليا منذ سنوات ست، ويعتقدون أن هذا الجفاف قد يمتد عقداً من الزمان.
… والحل؟
في وسط كل هذه العوامل المتداخلة المعقَّدة، أين الحل إذن؟
لقد اصطدمت منظمة التجارة العالمية سنوات بجدار صلب، في التفاوض المستمر الرامي إلى ما يسمى «تحرير التجارة العالمية»، بسبب إخفاق دورة الدوحة في الخروج باتفاق بين الدول الأعضاء في شأن المسألة الزراعية. وكان السبب الأول لهذا الجمود، ولا يزال، الخلاف الأمريكي الأوروبي على إلغاء دعم القطاع الزراعي. فالدول المتقدِّمة، التي جعلت موعظتها الوحيدة للدول النامية، أن على هذه الأخيرة أن تلغي الحدود الجمركية، لتتيح دخول منتجات الصناعة الغربية على الأخص، بحرية تامة، لا تبدو منسجمة مع سياسة التحرير التجاري التي تبشر بها، حين يأتي دور تحرير تجارة المنتجات الزراعية، وما يقتضيه هذا التحرير من وقف دعم المنتجات الزراعية في أوروبا وأمريكا. وتبدي بروكسيل وواشنطن عناداً في موقفيهما، كل لذرائع مختلفة، لكنهما أوصلتا التفاوض في منظمة التجارة العالمية إلى حائط مسدود.
ولا تختلف الآراء في أسباب أزمة الغذاء فقط، بل في الحلول المقترحة لها أيضاً. فروبرت زوليك، رئيس المصرف الدولي، وكان فيما مضى مندوب واشنطن إلى منظمة التجارة العالمية، يرى أن على المنظمة أن تقرر وقف دعم المزارعين وإلغاء الحواجز الجمركية. ويقول زوليك: «إن الوقت حان لوقف تشويه الأسعار بالدعم، وتحرير الأسواق. إذا لم نفعل هذا الآن، فمتى؟».
«مهلاً، مهلاً!» يرد داني رودريك، الأستاذ في جامعة هارفرد. ويضيف: «ألن تؤدي إزالة الحواجز الجمركية إلى زيادة الأسعار؟»، ويشير إلى أرقام المصرف الدولي نفسه، الذي أكد أن إزالة هذه الحواجز ستزيد أسعار القمح والأرز والحبوب الأخرى.
ويرى بنسترب – أندرسن، أن على الدول الصناعية أن تلغي دعم الزراعة الذي يشوه عناصر سوق الأغذية العالمية، وتفتح أسواقها للاستيراد من نتاج الدول النامية.
وفي المقابل، وبعدما انحسر استثمار الدول النامية في أبحاث الزراعة منذ ثمانينيات القرن الميلادي الماضي، وانخفضت أسعار منتجاتها بلا توقف منذئذ، فلا بد من قلب هذا الاتجاه، بفعل عوامل حافزة منها ارتفاع الأسعار، هذا صحيح، لكن بفعل سياسة الدول المتطورة أيضاً، التي ينبغي أن تفتح أسواقها لمنتجات العالم الثالث، وتقلِّص دعم زراعتها، وهو دعم أثبت أنه لم يشوّه نظام الأسعار فقط، بل أدى أيضاً إلى إلحاق الأذى بالأسواق وبالبشرية وأمنها الغذائي.
وحذر بنسترب – أندرسن من اتباع سياسة تزيد خطر المجاعة بدل تقليصه، كأن تضع الدول المتقدِّمة مثلاً ضرائب على تصدير الأغذية، من أجل خفض أسعارها في السوق المحلية. فذلك شأنه زيادة سعر الصادرات إلى الدول الفقيرة، فوق زيادته الفاحشة الآن.
واقترح على حكومات الدول النامية أن تضع نصب أعينها، زيادة الإنتاج بوسائل أقل، فتنشئ بيئة سوق زراعية ملائمة للمزارعين، وتضع في سعر مبيع المنتجات الغذائية بنوداً لسعر الأرض والهواء والماء، ضمن تكلفة الإنتاج الزراعي. وأكد أن شأن هذه السياسة أن تعيد الوفرة المعقولة إلى سوق الغذاء، وتحفظ البيئة للأجيال المقبلة في الوقت نفسه، «وإلا اقترضنا من حفدتنا، سعر الطعام الذي نأكله اليوم!».
وحث بنسترب – أندرسن الدول الغنية على إقراض الدول الفقيرة ذات القدرة الزراعية، حتى تستثمر في تنمية زراعتها، بدل منحها الغذاء الذي تنتجه دول الشمال الثرية. وقال إن عقد صفقات غذاء بسعر مدعوم، يساعد الدول الفقيرة في المدى القصير فقط. ونبه إلى أن عوامل السوق وحدها لا تستطيع أن تنهض بالزراعة في دول الجنوب؛ لأن الأقوياء في السوق العالمية يملكون قدرة هائلة على التحكم بمعايير القيم في الإنتاج الزراعي.
حركة دولية
بين 20 و25 أبريل الماضي، عقد مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية «أنكتاد» دورته الثانية عشرة في غانا، وأصدر إعلاناً، احتلت فيه مسألة الغذاء وأزمته مكانة متقدِّمة. وأكد الإعلان، أن «ارتفاع أسعار الإغذية» يَدرُج ضمن أسباب «تبطئ نمو العالم والبلدان النامية»… وأن في الأوضاع المستجدة «مخاطر مباشرة على الفقراء». وتعهدت الدول المشاركة، في إعلانها «التزام مكافحة الفقر والجوع» و«اتخاذ خطوات فورية دعماً للأمن الغذائي العالمي» وكذلك اتخاذ «التدابير الضرورية كافة لتلبية الحاجة الإنسانية الملحة في البلدان النامية، لا سيما أقل البلدان نمواً وإفريقياً». وأعلنت الدول المشاركة قولها «وسنعير اهتماماً خاصاً لحاجة الأمهات والأطفال إلى الغذاء والتغذية. وسيكون ثمة حرص على ألا يُكبَح بلا داعٍ الاتِّجار بالمنتجات الغذائية، وسنساند في المدى المتوسط والأطول، الجهود الوطنية الرامية إلى زيادة الإنتاج الغذائي… وإلى إصلاح… التجارة وتحريرها في مجال الزراعة وتحسين تدفق المساعدة الإنمائية الرسمية، إلى القطاع الزراعي في البلدان النامية».
وإذا كان المؤتمر الدولي هذا معبِّراً كالمعتاد، عن هموم الدول النامية أكثر من إعرابه عن قرارات الدول الصناعية الفاعلة والمؤثرة، وإذا كان مصير الإعلان على الأرجح، معرضاً للإهمال، ما لم تُقبل الدول المتقدِّمة على اعتماده قلباً وقالباً، لتسير في تطبيق توصياته، فإن أنظار العالم ترتقب مؤتمراً آخر، تعقده الدول الصناعية الثماني الكبرى بين 7 و9 من شهر يوليو المقبل، في توياكو اليابانية، حيث ستُطرَح بقوة ولا شك مسألة الغذاء والدعم الزراعي وقضايا الخلاف الأمريكي الأوروبي في شأن دعم الزراعة.
فهل تجد الحلول المقترحة طريقها إلى الولادة في توياكو، أم إن على الشعوب الفقيرة أن تشق طريقها وحدها في حل هذه المعضلة، وعلى ملايين أخرى أن تموت جوعاً، بانتظار أن تؤتي الحلول أُكُلَها؟
صورة من الصين
هزّ سياو وانغ بائع الخضار في غوانغ جو، كتفيه بلا مبالاة وضحك، وهو يزن حزمة كرّاث، في محله الصغير في أحد الشوارع الخلفية، في هذه المدينة النامية بسرعة. قال وهو ينفث الدخان، أمام منضدة وضع عليها الباذنجان والبركولي والتوابل: «كل شيء زاد سعره نحو %20، ولا نستطيع أن نفعل شيئاً».
وفيما بلغت نسبة التضخم في الصين ذروتها في أحد عشر عاماً، يستطيع المحللون الصينيون العارفون بسعر الغذاء، العاملون في الشركات المحلية مثل «ليانهوا» أو «وومارت» أو «تايمز»، والشركات الأجنبية الضخمة مثل «كارفور» أو «وولمارت»، أن يفهموا على الأقل الآن، سبب العاصفة التي هبَّت على الأسعار.
السبب بسيط: طلب الطعام، ليس كغيره من طلب سلع الاستهلاك الأخرى. فهو طلب غير مطاط. ففي حالات الغلاء، وفي حالات الرخص، يحتاج الناس للأكل. أما المنتجون فوضعهم مختلف، لأن عليهم أن يواجهوا أسعار التكلفة حين ترتفع. ولديهم مهلة يزيدون فيها الأسعار قبل أن يغير المستهلك عاداته الغذائية. لكن هؤلاء المحللين يحذرون من أن المستهلك الصيني، كغيره من المستهلكين في العالم، قد يتحول إلى البدائل الأرخص، حين يجتاز السعر عتبة معيَّنة.
فمنذ منتصف سنة 2007م، زاد سعر علبة المشروب الغازي %20، ليبلغ 3.6 يوان، أي 52 سنتاً أمريكياً، وتسارع الغلاء في سنة 2008م، فيما زاد سعر علبة اللبن %25 ليبلغ 1.75 يوان، حسب سجلات «كارفور» و«ليانهوا». ويرى تيموثي بوش، وهو محلل أسعار يعمل مع ميريل لنش، في هونج كونج، أن «باعة المفرق هم المستفيدون، حتى يحين وقت يبدأ فيه الطلب في التقلص، لأن الأسعار تجاوزت حداً ما».
ويُتوقع أن تنمو تجارة «الأسواق العملاقة» في الصين (هايبرماركت) %20.5 سنة 2008م، لتبلغ قيمتها 47.5 مليار دولار، وفق تقدير مؤسسة الدراسات الأوروبية «يورومونيتور إنترناشونال»، أما سوق المحال الكبرى (سوبرماركت) فيُتوقع أن تنمو في هذه السنة %16، لتبلغ قيمتها 151.2 مليار دولار.
وللمقارنة، ستنمو تجارة «الأسواق العملاقة» في الولايات المتحدة الأمريكية السنة الجارية %9.5 لتبلغ قيمتها 244.1 مليار دولار، فيما تنمو تجارة المحال الكبرى %4.3، لتبلغ قيمتها 334.9 مليار دولار. ويستأثر الطعام بثلث سلة المستهلك في الصين، البالغ عدد سكانها 1.3 مليار نسمة.
غير أن باعة الأغذية في الصين ليسوا وحدهم في هذا الوضع, فباعة الملابس والألعاب وغيرهم يشعرون بحرارة الأسعار المرتفعة. أما في الولايات المتحدة فتقول وزارة العمل إن باعة المفرَّق الأمريكيين شطبوا 75 ألف وظيفة منذ بداية هذه السنة. وتزيد أسعار الغذاء الأمريكية عادة %2.5 كل سنة، لكنها زادت %4 سنة 2007م، وهذه أكبر زيادة سنوية في 17 سنة. ولا يختلف حال أسعار الغذاء في بلدان آسيوية أخرى غير الصين.
ويقول دونج يوجوو الناطق باسم «وول مارت» في الصين، إن %95 من السلع التي تبيعها الشركة صينية، وقد وضعت الحكومة موانع لوقف زيادة الأسعار، وفرضت شروطاً لتحسين شروط عمل الموظفين، وهذان أمران يضيقان هوامش ربح الشركات الأجنبية العاملة في التجارة.
لكن هذا لا يعني أن الرحيل غداً، فسوق الاستهلاك الصينية هي اليوم في عز مراحل النمو، والمستهلك يزيد قدرته الشرائية سنة بعد سنة. إلا أن السوق الصينية التقليدية، التي تختلف عن نمط المحال الكبرى الغربي، لا تزال غالبة على الحركة التجارية، ويقدِّر الخبراء أنها تستحوذ على %80 من مجموع الحركة التجارية، في مقابل %20، للنمط الغربي.
ولا يزال المستهلك على عاداته الغذائية التقليدية على الرغم من الغلاء. وتقول ليو جينلان، وهي متقاعدة في الخامسة والستين، تتسوق في «وول مارت»: «لا يؤثر تضخم أسعار الغذاء كثيراً في حياتي». وتضيف أن إنفاقها الشهري في بند الطعام زاد ليبلغ 1700 يوان بعدما كان أقل من 1000 يوان قبل سنة. وتؤكد أنها لا تزال تشتري أصناف اللحم الجيدة، على الرغم من غلائها، وكذلك الإنكليس والسلطعون.
(بتصرف عن إنترناشونال هيرالد تريبيون)
…وصورة من اليمن
ليست زيادة أسعار الغذاء الأخيرة سوى عامل إضافي يزيد الضغط على اليمنيين. وقد كان هذا الوضع عنوان مؤتمر صحافي عقده برنامج الغذاء العالمي في صنعاء أخيراً. فقد احتل اليمن المرتبة 153 بين 177 دولة على جدول برنامج التنمية الدولي، سنة 2007م. فمعدل دخل الفرد السنوي يبلغ 760 دولاراً، ويعيش %40 من اليمنيين البالغ عددهم 21.7 مليون نسمة، بأقل من دولارين في اليوم.
ويقول برنامج الغذاء العالمي إن أسعار الطعام زادت في اليمن في الأشهر التسعة الأخيرة %40، فيما انخفض مخزون الطعام في العالم إلى أدنى مستوى بلغه في 30 سنة. وقد أدى شح الطعام وغلاؤه إلى اضطراب اجتماعي عالمي وعدم استقرار وعسر اقتصادي.
ويقول محمد الكهان، مدير برنامج الغذاء العالمي في اليمن، إن «أسعار الغذاء زادت من جراء عوامل عديدة، منها ارتفاع سعر الوقود والمخصبات والجفاف في أستراليا». ويضيف الكهان قوله: «بين يونيو 2007م، ومارس 2008م، زاد سعر الحبوب الأساسية العالمي %80، ولم يحدث مثل هذا منذ 28 سنة».
ويعيش ثلثا الشعب اليمني في المناطق الريفية، ويعتمد هؤلاء على الزراعة في كسب عيشهم. فالزراعة قطاع اقتصادي أساس في اليمن، ومشغِّل كبير لليد العاملة، في بلد تبلغ نسبة البطالة فيه %37. والزراعة إذن عامل يبطئ الهجرة إلى المدن. ومع هذا، فإن مصادر الدخل الشحيحة غير قادرة على إعالة السكان الذين يتوالدون بنسبة تفوق %3 كل سنة، تضع اليمن في المرتبة الرابعة بين دول العالم في سرعة التوالد، على ما جاء في تقرير حديث لمنظمة الطفولة الدولية «يونيسيف».
ويُعد سكان المدن أشد تعرضاً للفقر من جرَّاء غلاء الأغذية، وقد اجتاز %6 من اليمنيين عتبة الفقر نزولاً، في هذه الأزمة الأخيرة، فانضموا إلى %40 يعيشون أصلاً بأقل من دولارين في اليوم. وقال الكهان: «ماذا تستطيع عائلة من سبعة أشخاص، معدل دخل الفرد فيها دولاران في اليوم؟ إنها مضطرة إلى الاكتفاء بوجبة غذاء وحيدة في اليوم».
فالغلاء يؤثر بقوة مباشرة فيما ينتظر العائلة اليمنية أن تراه على مائدتها. ولذا اقتطع كثير من عائلات اليمن، من قوائم طعامها الأغذية الثمينة كالجبن والخضار الطازجة، واتبعت عائلات أخرى أسلوب تقليص وجباتها. ولا مفر للكثيرين من الإقلاع عن أكل الفاكهة واللحم واختصار نفقات العناية الطبية أو تعليم الأولاد.
وتؤثر قلة الغذاء كثيراً في صحة الأطفال. وقد جاء في تقرير دولي، صدر في سنة 2004م، أن %43 من العائلات في اليمن (أي 8.3 مليون نسمة) لا تنعم بالأمن الغذائي، وأن %22 (4.3 مليون) يعانون فعلاً قلة الغذاء. وقد جاء في خريطة الجوع التي تضمنها التقرير، أن نسبة هذا الشح الغذائي، طالت في المحافظات اليمنية بين %27 و%86 من السكان فيها.
وتتفاقم المشكلة الغذائية في اليمن، مع تعاظم الهوة بين موازنة برنامج الغذاء العالمي البالغة 28 مليون دولار، وبين الحاجة النامية بسرعة، لا سيما بعد موجة الغلاء الأخيرة.
(بتصرف عن نشرة «يمن أوبزرفر»)