رأي ثقافي

زهد ثقافي: غياب الدهشة وضمور ملكة الاكتشاف

لا بد أن قارئ عنوان هذه الصفحة سيصاب بالذهول، حيث لا يبدو أنه من المباح أن نصاب بالزهد الثقافي، باعتبار أن الثقافة سلعة غير مكلفة فضلاً عمَّا تضيفه على صاحبها من قيمة ورونق. هذا، أيضاً، ما كنت أعتقده في صباي وشبابي حين كنت أجمع المراجع والكتب وقصاصات الورق، أياً كانت مضامين هذا الورق، مثل نملة تتلقط فتات الخبز دون هوادة. كنت، أكثر من ذلك، سارقاً أو لاقطاً للكتب التي لا يُعرف لها صاحب. وعادة تكون هذه الكتب على أرفف مكتبات مهجورة أو قرب حاوية نفايات؛ أو في أسواق شعبية تباع فيها الكتب المهملة كما تباع قطع الأثاث القديمة.

أعترف كذلك أنني كنت في زيارات لا تخلو من تربص، أقتني من مكتبات القاهرة وبيروت كتباً ممنوعة أضعها في حقيبتي كيفما اتفق، فإن عبرت من الجمارك شكرت الله على فضله، وإن صودرت حمدته، حيث لا يُحمد على مكروه سواه. ولطالما صودرت مني مئات الكتب التي لا أعرف مصيرها إلى الآن. ولِعلم من صادرها، وقد مضى على آخر عملية مصادرة حوالي عشرين سنة، فإنني لم أسامحه ولن أسامحه إلى يوم يبعثون، لكونه حرمني من عادة احتفالية ثقافية كلما عدت من السفر محملاً بالأفكار والحروف الجديدة.

هذا الشغف المبكر بالكتاب وصرف كل مداخيلي الشحيحة آنذاك عليه والمجازفة في تهريبه ومصادرته من قِبل الرقيب العتيد، كل ذلك عاد إلى ذاكرتي مؤخراً حين عدت إلى مكتبتي، بناءً على أمر قاهر من زوجتي، لفحص محتوياتها من جديد والنظر في الاستغناء عمَّا يزيد عن نصف هذه المحتويات. فجأة اكتشفت، وأنا أتنقَّل من ركن في المكتبة إلى آخر، أن ما كنت حفياً به من كتب وأنا في الخامسة والعشرين لم يعد جديراً بهذه الحفاوة وأنا فوق الخمسين. ووجدت أنني أحكم على بعض الكتب (بالهلس) لأن ما فيها هو مجرد صرخات فكرية ضائعة في وادي العرب السحيق. بل وجدت أن أغلب المجلدات والكتب هي مجرد تكرار لبعضها بعناوين وألفاظ مختلفة، أي إن المؤلفين تماثلوا كثيراً في المعاني وتمايزوا قليلاً في المباني. غير ذلك كانت بعض بحوثي الجامعية لمرحلتي البكالوريوس والماجستير منافقة لفكر الجامعة وفكر الأستاذ أكثر من كونها تمثلني أو تنقل أفكاري وآرائي في موضوعاتها.

هذا يعني، بعد طول تأمل وألم، أن الإنسان قد يصاب بالزهد الثقافي في مرحلة متقدِّمة من عمره. وسبب هذا الزهد هو إما غياب الدهشة، وإما ضمور ملكة الاكتشاف التي تكون في أوجها في مرحلة الصبا والشباب. إذا قلنا إن الكتاب بهجة فإن هذه البهجة تشح مع تقدم السن، فلذة الكتاب الأول لا يمكن أن تقارن بها لذة الكتاب الأخير، خاصة حين تنضج كقارئ وتُبتلى بالقدرة على الفرز والنقد واستبطان نيات النصوص.

لذلك كنت أكره بشدة قراءة النصوص النقدية؛ وأكره ذلك العلم أو ذلك التخصص الذي يسمَّى النقد، لأنه ينزع من نفس القارئ لحظة الدهشة بالنص أو لنقل لحظة الوقوع في وهم اللحظة الثقافية أو اللحظة الشعرية الحلوة. ليس أنكى من أن ترى وجه حبيبتك جميلاً ثم يأتي من يفصِّل أو يفسِّر لك ملامحها محاولاً، بالقلم والمسطرة، أن يثبت لك قبحها. ليس ثمة طائل من ذلك سوى الرغبة الدفينة في نفس العلم للاعتداء على الفن.

الآن، فيما يبدو، حصحص الحق، وثبت أنني مصاب بالزهد الثقافي، حيث لم أعد أسافر من أجل كتاب وفقدت الرغبة أو القدرة على تمرير الكتب الممنوعة واستغنيت عن نصف مكتبتي دون أسف كبير. ما كان هناك، أثناء عملية جرد وفرز المكتبة، هو ذكريات بقيت معلَّقة على أطراف مرحلة الشباب المتدفق طاقة وعنفواناً ورغبة بتغيير الكون. لقد بقي الكون، خاصة الكون العربي، على حاله أو ربما تراجع حتى عن حاله، بينما كبرت أنا وصغرت أفكاري وآمالي. لم أعد أشعر أنني منقذ قادم على صهوة جواد حر. ترجَّل الفارس الموهوم ومات الجواد المُتَخيل. هكذا ببساطة.

أضف تعليق

التعليقات