فرشاة و إزميل

كلاوس كيمب..

الرجل الذي يصنع فناً من كائنات مجهرية

klauskempdiatomist_bwسبق للكثيرين أن رأوا سفناً منمنمة في داخل قناني زجاج، ومجسمات صغيرة بحجم رأس دبوس. لكن ماذا لو رأينا أعمالاً فنيّة، على مقياس الخليّة؟ إن الفنّ الذي يوضّب طحالب ميكروسكوبيّة الحجم، في تشكيلات فنيّة، يعود إلى علماء من العصر الفكتوري. لكن هذا الفن اندثر إلى حد بعيد، مع انقضاء القرن التاسع عشر، بعدما أخذ معظم أصحاب هذا الفن أسرارهم معهم. لكن عالِماً واحداً بقي يعمل بهذا التقليد الفني في المملكة المتحدة.

ليس في وقوف أي إنسان قرب الماء ما يلفت النظر. ولكن من منا كان ليتخيل أن إنساناً ينحني على مسطح مائي، ليبحث في نقطة واحدة منه على المواد الخام اللازمة لواحد من أكثر الفنون إثارة للاستغراب والدهشة؟.

«ليس موضع الماء مهماً بحد ذاته. فسواء أكان مزراباً أم خندقاً أم غور حافر حصان أم أي مكان آخر.. فحيثما وُجِدَ ماء، يستحق الأمر إلقاء نظرة»… هذا ما يقوله العالم المجهري والفنان كلاوس كيمب، أحد آخر ممارسي فن «ترتيب الدياتوم» في العالم.

waterوعندما يتطلع المرء إلى أعمال كيمب المحصورة ضمن شرائح زجاجية تشبه الشرائح المستخدمة في المختبرات الطبية، لا بد وأن يخطر على باله تلاعب الألوان في المشكال (الكاليدوسكوب) الذي طبع ذكريات طفولتنا. ولكننا عندما نعلم أن تركيب هذه الأعمال يتم بمقاييس لا تتعدى الميكرونات، تتطلب رؤيتها عدسة مجهرية، لا يمكن لردة الفعل أن تكون غير الدهشة من قدرات هذا الفنان وتفانيه.

فما هو الدياتوم؟
«الدياتوم»، طحلب مائي أحادي الخلية يعيش مغموراً بالماء، وهو الحلقة الأولى في أسفل السلسلة الغذائية من الكائنات التي تنتج غذاءً من الضوء. لكن الدياتوم، بخلاف أنواع الطحالب الأخرى، يتشكل من مادة عضوية محاطاً بطبقة من مادة السيليكا. وعندما تتحلل المادة العضوية، تبقى مادة السيليكا التي تتخذ أشكالاً جميلة متعددة.

يتشكَّل الدياتوم من مادة عضوية محاطاً بطبقة من مادة السيليكا. وعندما تتحلل المادة العضوية، تبقى مادة السيليكا التي تتخذ أشكالاً جميلة متعددة.

والماء ليس المصدر الوحيد الذي يعتمد عليه كيمب في فنّه. فمن أكثر الأسئلة التي تُطرح عليه هو مصدر الألوان في أعماله، علماً أن السيليكا هي مادة بيضاء. وفي هذا الصدد يقول الفنان إن تكسّر الضوء هو الذي يلوّن الدياتوم، تماماً كما يلوّن تكسر ضوء الشمس رذاذ الماء في الجو فيظهر قوس القزح.

microscope-drawing-clipart-2وحول خصائص الدياتوم يقول كيمب العالِم: الدياتوم شديد التنوّع، ويمكن للمرء عموماً أن يعرف من أين جُمِعَت العيّنة، تماماً مثلما يمكن للمرء أن يحدّد، بوساطة النباتات في الحديقة أو الحقل، ما إذا كنتَ في منطقة قلويّة أو حمضيّة. فلأنواع الدياتوم ما تفضّله، فما يعيش في المحيط، لا ينمو في الماء العذب، والعكس بالعكس. ويمكن الاستدلال بنوع الدياتوم غالباً، لمعرفة نقاء أو جودة المجرى المائي، أو البركة أو الشاطئ. ففي كل موقع تستوطن تلك الأنواع التي تتكيّف أفضل من غيرها معه. ولا يمكننا أن نتخيّل أهمية الدور الذي تلعبه هذه الطحالب في البيئة.

diatom-4وبمقدار ما يمكننا الاستدلال بمؤشر الدياتوم، لمعرفة نقاء الماء أو تلوث البيئة، كذلك تشكّل الطحالب أساساً لكثير من عوامل النظام البيئي. فبفضل قدرتها على التمثيل الضوئي، في كل بيئة تحتوي على الماء (من المحيطات إلى مجاري الأنهار، وحتى التربة الرطبة)، تلعب الطحالب واحداً من أهم أدوار «تصدير» الكربون من المحيط. وهي تقوم بهذه المهمّة، في سياق دورتها المتعاقبة بين الازدهار في الظروف الممتازة، والانكفاء حين يبلغ موقع موطنها حد التشبّع.

midsizeاكتشافه لهذا الفن ومساره الخاص فيه
يقول كيمب: «كنت في السادسة عشرة من عمري، حين تعلّقت تعلّقاً قوياً بعلوم الطبيعة، وشاهدت أنابيب عيّنات من الدياتوم، من العصر الفكتوري. لقد شُغِفتُ على الفور بجمال هذه الخلايا وتناسقها. إن التناسق والبُنية في الخلايا، وهما أمران لا تراهما العين المجردة، قد أذهلاني. وبعد مرور ستين عاماً على ولادة هوايتي هذه، لا أزال أشعر بالحماسة الشديدة، كلّما اكتشفت أو حصلت على عيّنة جديدة».

لعمل كيمب بُعد علمي يجعل علماء الأحياء يتابعون عمله ومكتشفاته. فهو يمتلك اليوم أكبر مجموعة من الدياتوم في العالم، تتضمَّن نحو 8000 عيّنة من مختلف أصقاع الأرض.

استلهم الفنان فنه هذا مما كان موجوداً في العصر الفيكتوري (القرن التاسع عشر). فيروي أنه عندما كان علماء ذلك العصر يكتشفون أنواعاً جديدة، كانوا يميلون إلى أخذ عيّنات منها وترتيبها في شكل هندسي أو فني، بما في ذلك الكائنات المجهرية. ولكن هؤلاء أخذوا سر المهنة معهم. وفي هذا الصدد يقول: «لقد ترك لنا العلماء الفيكتوريون نصوصاً تشرح عدداً من طرق ترتيب الدياتوم. ولكن المؤكد أنها لم تكن الطرق أو الطريقة التي اعتمدوها في عملهم. لأنني جربتها كلها ولم تجدِ إحداها نفعاً. فكان عليَّ أن أكتشف طريقة العمل بنفسي».

02وعن السؤال الذي يتكرر كثيراً على مسمعه حول ما إذا كان يعتمد في فنه على تشكيلات أو تصاميم مسبقة التحضير، يجيب فوراً بالنفي، ويضيف: «إذا طرحنا أرضاً مجموعة أحجام مختلفة من مكعبات وكرويات وغيرها، وطلبنا من الناس أن يبنوا شكلاً فنياً منها، لوجدنا أنهم سيستغنون عن استعمال بعض هذه القطع، لأنها لا تدخل في التصميم المتخيّل. هذا ما أفعله. عندما أبدأ بتصميمٍ ما انطلاقاً من شكل مربّع، وأتجه به لأن ينتهي بشكل دائرة أو شكل انفجار نجمي، عليَّ أن أختار من بين الدياتوم المتوفر أمامي ما يسمح لي بتنفيذ هذا الشكل الذي يبقى بدوره رهناً بما هو متوفر».

بعد مرور ستين عاماً على ولادة هوايتي هذه، لا أزال أشعر بالحماسة الشديدة، كلَّما اكتشفت أو حصلت على عيّنة جديدة…

ورداً على السؤال حول ما إذا كان يعود إلى تفقد بعض تراكيبه القديمة ليطوّرها أو يغيّر شيئاً فيها، يقول: «عندما أعمل على شريحة معيّنة، أستمر في العمل حتى أنهيه. وعندما أقفل على الشريحة بغطائه الزجاجي يصبح العمل منجزاً. وإذا لم يعبث أحدٌ بالشريحة، فمن المفترض أن تستمر على ما هي عليه إلى الأبد».

وعلى الرغم من كثرة الطلب إليه إنتاج نسخ عن أعمال بعض مشاهير هذا الفن في القرن التاسع عشر مثل جوهان ديتريش مولر، يرفض كيمب النسخ وتقليد أعمال الآخرين، مؤكداً أن كل عمل يخرج من بين يديه هو وحيد من نوعه في العالم.

للفن والعلم أيضاً
diatom-8إضافة إلى القيمة الفنية والبُعد الجمالي، فإن لعمل كيمب بُعداً علمياً قد لا يقلّ شأناً، يجعل علماء الأحياء يتابعون عمله ومكتشفاته. فالرجل يمتلك اليوم أكبر مجموعة من الدياتوم في العالم، تتضمن نحو 8000 عيّنة من مختلف أصقاع الأرض. ففيها ما هو مستخرج من المياه العذبة، ومن المياه البحرية وحتى من الأحافير والترسبات (وهذه الأخيرة تسمي الدياتوميت). وفي معظم الأحوال، من الممكن الاستدلال على مصدر دياتوم معيّن دون أن يكون ذلك مذكوراً بوضوح عليه.

«من دواعي سروري أنني استطعت إعادة إحياء شيء أخذه علماء العصر الفيكتوري معهم إلى القبر»…
كلاوس كيمب

ويقول كيمب: «عندما أعمل أحياناً على رسم دائرة من مثلثات، يجب أن تكون كل الدياتومات مثلثة الشكل وبمقاييس متساوية. وخلال البحث عنها واختيارها، يمكنني أن أقول لأحدها «إنني لا أعرفك»، فأبدأ عندها رحلة دراسته. وإذا لم يكن مصنّفاً من قبل فإني أصنّفه، وأنشر النتيجة. وقد صنّفت بالفعل الكثير منها».

dscn4سرّ المهنة لن يبقى سراً
على الرغم من بلوغه الثامنة والسبعين من عمره، لا يزال كيمب يعمل بهمة ونشاط كبيرين. محترفه في بيته. وأداته الفنية مجرد مجهر عادي وبسيط من الطراز المعروف باسم «بيولام»، وليس من مجاهر الأبحاث المتطورة. إذ من حسنات هذا الطراز البسيط سهولة تركيب الشرائح الزجاجية عليه. أما منهجه في العمل، أو سر المهنة كما يقال، الذي لا يزال سرّاً، فلن يبقى طويلاً كذلك.

organisms-6فالرجل يعبِّر عن أهمية عمله كما يراها بالقول: «إني أستمتع كثيراً بصناعة هذه الشرائح، وأجد متعة في كونها تسمح للناس برؤية جانب من الطبيعة غير مرئي بالعين المجردة والاستمتاع به كما أستمتع به أنا».

ويضيف: «من دواعي سروري أنني استطعت إعادة إحياء شيء أخذه علماء العصر الفيكتوري معهم إلى القبر. وإذا سألتموني ما إذا قد نشرت تقنيتي لكي أنقذ هذا الفن من الاندثار أقول لكم: نعم، لقد نشرتها بشكل عام. ولكن أهم عنصر في إنهاء العمل على شريحة كبيرة هو اللاصق. وكان عليَّ ابتكار هذا اللاصق، ولكني لم أنشره. لقد نشرت سابقاً butterflyscalespaintingcloseup2لاصقاً كان يعمل بشكل جيّد نسبياً. ولكن عندما يكون عندك على الشريحة نحو 200 نوع من الدياتومن وتتركه خلال الليل لتلصقه في اليوم التالي، فإن بعض الدياتوم كان يطفو على اللاصق ويخرب العمل. أما بخصوص اللاصق الجديد والجيّد فقد دوّنت كل شيء حوله على أسطوانة مضغوطة، وأعطيتها لزوجتي، مع التوصية بأن تُطلع على محتواها، بعد وفاتي، كل من هو مهتم بمعرفة الأدوات التي كنت أستخدمها».

 

أضف تعليق

التعليقات