لا أحد في المملكة بالذات يقدر على نسيان إطلالة الشيخ علي الطنطاوي في برنامجه التلفزيوني «على مائدة الإفطار» حتى أنه كل ما هلّ رمضان حلّت ذكرى هذا البرنامج ومقدمه الجليل، اللذيذ بأسلوبه واستطراداته. القافلة استضافت هنا ابنته أمان الطنطاوي في ذكريات مختصرة عن حياته من داخل بيته وعن أصدقائه ورمضانياته.
لكم تساءلت متى تُراني عرفته لأول مرة.. أظن أول مشهد وعته ذاكرتي أطفال يلهون ويلعبون على الشرفة كما كان يسميها الوالد. عمات وأعمام يدخلون ويخرجون، وضيوف، وعمة كبيرة تقطن معززة مكرمة في ذلك البيت، تنادي: يا علي. وعلي ذلك الابن بالنسبة لها، كان معتكفاً في غرفة على السطح، يسهر الليل، ويكتب نبضات نابعة من أعماقه، مقالات تُطبع في الصحف حينها.. كان يكتب مقالاً يومياً في صحيفة الأيام ويلقي حديثاً أسبوعياً يوم الجمعة من إذاعة دمشق.
عرفته حينها، ولكني ازددت معرفة به حين انتقلنا إلى السكن في بيت منفصل، في جبل قاسيون، المطل على دمشق. كنت أراه يغادر إلى المحكمة صباحاً، كان قاضياً في محكمة التمييز، يذهب صباحاً ويعود حوالي الثانية ظهراً. وفي أحيان كثيرة يصحبنا معه بعد انتهاء الدوام الرسمي، نجول في قصر العدل حيث كانت المحكمة. قد يأخذنا معه للمسجد، وقد يشتري لنا بعض الحلوى والألعاب. كنا نُسرُّ بصحبته كما نُسرُّ بعودته إلى البيت، ذلك أن الوالد حين يعود من المحكمة كان ينادي يا أولاد، ومعلوم أننا بنات، ولكن الوالد، رحمه الله، كان دائماً ينادينا يا أولاد، ويدعونا إلى الانضمام إليه في غرفة الجلوس. كان، يرحمه الله، يتبع نظاماً في طعامه بأن يأكل كل أربع ساعات كمية محددة ونوعاً واحد غالباً، وبعدها يطلب الشاي الأخضر الذي كان صنعه من اختصاصي.
ما عرفته خرج مساءً أبداً، حتى لو خرجت الوالدة إلى زيارة النساء المعتادة. كان يبقى جالساً معنا، وكانت من أمتع الجلسات طالما حدثنا خلالها عن الجنة وما فيها، وقصّ علينا قصص الأنبياء، وعن ما وعد به الله سبحانه وتعالى عباده الصالحين.. ثم يعود لكتبه وقراءاته، وهو خلال ذلك مستعد للإجابة عن كل أسئلتنا. أما إذا نام خلال ذلك الوقت فعلينا التزام الهدوء التام. حذار من فتح الأبواب بشدّة، حذار من رن الجرس، حذار من الصوت العالي، ولو حصل وصحا على صوتنا كنا نتألم كثيراً لأنه يبدو مستاءً. نظرته كانت كافية.. ما وعيته عاقب عقاباً محدداً في حياته، لم يكن قاسياً ولكنه في أحيانٍ كثيرة كان جارحاً ثم يندم فيراضينا.
علَّمنا احترام المعلمات والمدرسات ولكنه رغم ذلك كان ينصفنا لو تضايقت إحدانا من أمر ما في المدرسة. وكان يختلف اختلافاً كبيراً عن معظم الآباء والأمهات الذين يهتمون بدرجات أبنائهم في المدارس ونتيجة الامتحان. فهذا لم يكن يشكل عنده أهمية، فلو أرسلت المعلمة تقول: أمان مقصرة في المدرسة، لم يكن يؤذيني أو يغضب كما يفعل بعض أولياء الأمور حالياً بل كان يقول: يا أمان أحضري كتاباً من المكتبة، فإذا أحضرت الكتاب قال: افتحيه واقرئي الصفحة الفلانية. فإذا قرأتها طلب مني أن أكتب بعض الكلمات غيباً، بعدها يلتفت إلى والدتي ويقول: (يا عايدة هالبنت ممتازة)!! هكذا كان تقييمه لمقدرتي الدراسية!!
كنت في السنة الخامسة ابتدائي حين ذهب الوالد والوالدة إلى الحج فقررت أن أفاجئهما بحجابي. وقد فعلت، لأننا الأخوات الخمس تحجبنا برغبتنا وبتشجيع الوالدين، لكن أحداً منهما لم يجبرنا على الحجاب، وقد كانت هذه من الطرق التربويّة الناجحة، فقد أحببنا الصلاة والصيام، وقراءة القرآن بالقدوة، والكلام غير المباشر دون إجبار.
أما قراءات الوالد فكانت منوعة، مكتبته كانت تحوي العلم، والأدب، والفقه، والفكر. وكان يقول: لو قالوا لي إختر عشرة كتب لاخترت أحدها كتاب “دع القلق وابدأ الحياة” ولكنه كان يقول إن الأصح: دع الهم وابدأ الحياة.. فنشأنا جميعاً نحب القراءة مثله. فقد كان يقرأ كل يوم عدداً من الساعات. وإذا لم يقرأ كان يمارس نشاطاته، وأحبها إليه رياضة المشي، وطالما أخذنا أنا وأختي يمان وبعض أقربائنا فنبدأ المشي دون تخطيط.
جانب آخر لا بد من ذكره. حين وصل (التلفزيون) للشام لأول مرة، أحضره لنا الوالد. سمح لنا بمشاهدة أشياء ومنع مشاهدة أشياء، كنت أكتب له كل يوم الفقرات التي ستعرض فيكتب إلى جانب كل فقرة نعم أو لا. ثم أصبحت في ما بعد أكتب الفقرات وأكتب الموافقة أو الرفض ثم أعطيها إياه ليراها فيوافقني. كان واثقاً أنه إذا منعنا امتنعنا فلم يكن يلح أو يراقب بعد المنع.
ثم إني ما عرفته يقابل أحداً إلا يوم الجمعة حيث كان يصلّي في جامع دنكز ثم يبقى مع صاحبيه، الأول صاحب الطفولة والشباب والفكر سعيد الأفغاني، يتيم الوالدة مثل الوالد، والثاني الشيخ عبدالغني الدقر ابن الشيخ علي الدقر الذي جمعه بهما يُتْم الوالدة كذلك. ثم حُب الثلاثة للأدب والفكر والنقاشات العلمية والفكرية. كان ثلاثتهم يتغدون معأ.
ثم مرت الأيام وجئنا مكة المكرمة. سكنّا بجانب الحرم وأصبح الوالد كل يوم يجلس في الحرم من بعد العصر إلى ما بعد العشاء. كانت له جلسة دائمة تحت سدة المؤذنين مقابل الحجر الأسود. يتجمع حوله الشباب والكهول والمحبّين، وتجري أحاديث ومناقشات ولقاءات.
فإذا عاد إلى الشام صيفاً التقاه الأحبّة بشوق إلى جلساته والاستفادة من علمه. كان يلقاهم كل يوم جمعة في مسجد الخير في دمشق فيسألونه ويجيبهم، ثم يعود إلى منزله حيث كان يحب الجلوس على الشرفة ومشاهدة الشام التي أحبها حباً كبيراً وفيها كتب معظم كتاباته الأدبيّة وكتبه الكثيرة. كان يكتب كلما جاءته الخاطرة، قد يكون جالساً وإلى جانبه الورقة والقلم. أو يكون في سريره نائماً فتوقظه الفكرة فيمسك القلم ويخطها على الورق. فقد كان يربط القلم إلى جانب سريره حتى إذا جاءت الفكرة كتبها قبل أن تطير.
كان أيضاً حريصاً وحكيماً في تعامله مع الأطفال. سأله ابني طارق مرة وكان صغيراً: لو سقينا الزرع هل ينزل الماء على الشياطين لأنهم تحت الأرض؟ فأجابه باهتمام: من قال لك أنهم تحت الأرض؟ إنهم في كل مكان لكنك لا تراهم كالهواء الذي تستنشقه، هل تراه أو تمسكه؟ وهم كذلك، لا جرم لهم لكنهم موجودون، فتعوذ منهم دائماً.
أذكره أكثر ما أذكره في رمضان، ورمضان في الشام خاصة، حيث كان الشتاء والمدفأة.. نستيقظ ليلاً لنجلس بجانب المدفئة نأكل.. كان الوالد حريصاً جداً أن نأكل أكلاً مغذياً وكنا بعد السحور نجلس بجانبه وهو يتلو القرآن بصوت طالما أحببته وخشعت لصوته، خاصة وهو يقرأ أواخر سورة البقرة }ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا…|. أما في المغرب فكنا نفطر معاً ثم كان يُحضر جميع أفراد العائلة فنصلّي التراويح في جماعة. ولما حضرنا مكة صرنا نصلي في الحرم الفجر والعشاء والتراويح.
لا أذكر أننا اهتممنا في رمضان أو اهتم الوالد بأكلات معينة، كان رمضان عنده كباقي الأيام. لكن أهل الشام جميعاً يهتمّون في رمضان بعصيراتهم المفضّلة مثل التمر هندي وقمرالدين والشوربة والتسقية، أمّا الوالد فكان دائماً يهمه الأكل المغذّي المنوّع. ولطالما ارتبط رمضان في أذهاننا وأذهان محبّي الوالد جميعاً بحديث على مائدة الإفطار الذي كان يسجله في جدّة.
رحم الله الوالد ورحم أيّامه، وأسأل الله أن يمكنني فأكمل هذه الذكريات في كتاب يضم أثره الكبير في حياتنا..