الطعام السريع أو الفاست فوود ، مصطلح دخل عالمنا المعاصر كما دخله الكومبيوتر، والبث التلفزيوني الفضائي، وغير ذلك من الوسائل التي أحدثت تغييراً كبيراً في السلوك والثقافة، وربما أكثر من ذلك بالنسبة إلى الطعام السريع، الذي يترك بصماته على الصحة والبيئة. ومع الضجيج المثار عالمياً حول آثار بعض أنواع الأطعمة السريعة في الصحة العامة، تستعرض هدى بتروبولس الجوانب المختلفة لهذا الموضوع الذي أصبح جزءاً أساساً في حياتنا اليومية.
كان رواج ما اصطلح على تسميته بالإنجليزية تشينز من الظواهر الأكثر انتشاراً على الصعيد العالمي في القرن العشرين. وإن كان هذا التعبير قد أُطلق أولاً على سلسلة المخازن الكبرى والمتوسطة، فقد تحوّل في العقود الأخيرة من القرن نفسه ليشير إلى مجموعات المطاعم السريعة التي عرفت توسعاً هائلاً، وباتت تشكل قطاعاً اقتصادياً ضخماً جداً.
خدمة طعام سريع أم ظاهرة مجتمعية؟
يعرف الطعام السريع بأنه: طعام غير مكلف، يجري تحضيره وتقديمه بسرعة في مطاعم بسيطة.. . وما كان يسمى بالوجبة الخفيفة سناك بالإنجليزية، وهي تكون عادة عبارة عن سندويتش أو قطعة بيتزا، أو سلطة، وما قد يُضاف شرق أوسطياً، كالفطائر على أنواعها والمخبوزات (من زعتر إلى لحم إلى جبنة) والفلافل والشاورما وربما حتى الحمص والفول، قد يندرج اليوم في الإطار العام لمصطلح الطعام السريع الذي نما استخدامه مع تطور الصناعة نفسها.
ولذلك يساق أيضاً تعريف للطعام السريع بشكل يواكب العصر المتأثر بالسلسلة الكبرى، كمصطلح لا يصف طعاماً بذاته، بل يصنّف نوعاً من تقديم الطعام، يتوفر بعد لحظات من طلبه، ويسلّم مباشرة على منضدة صندوق الحساب، طعام يجري تحضيره مباشرة ويمكن أكله من دون استخدام أدوات الطعام.
وما بدأ كنزوع أمريكي في انتشار سلسلة من الأطعمة السريعة منذ منتصف الخمسينيات بعد تأسيس مطاعم تقدم الدجاج المقلي فقط، تحوّل إلى ظاهرة عالمية مع بداية انتشاره في أسواق أوروبا ثم العالم منذ منتصف السبعينيات. وقامت صناعته على أسلوب إنتاج متجانس، مواده محددة وقليلة، ويعتمد على أسلوب تحضير وطبخ موحد.
هذا التجانس في الإنتاج، وتحديد المعايير، ومنهجة أسلوب الإنتاج وتصنيعه؛ يجعل من تكراره ليشكل سلسلة من المطاعم أو المقاهي مسألة سهلة تبدأ في محيطها المحلي ثم تتوسع عالمياً.
وما يجعل نجاح هذه السلسلة أمراً ممكناً يكمن أيضاً في ملاءمتها لذوي الدخل المحدود، وأيضاً تعميم ثقافة استهلاكية شائعة أصبحت مع الوقت جزءاً من الحالة الروتينية كمعطى وليس كوارد.
إن عالمية هذه الظاهرة لا تنفي كونها متفاوتة التأثير. فهي متضخمة جداً في أمريكا الشمالية؛ حيث توفر منفذاً استهلاكياً لثلث الأمريكيين البالغين تقريباً كل يوم. فالطعام السريع يدخل حياة المجتمع في أكثر من جانب: في أسلوب استهلاكه الواسع، وفي تنظيم المدن ومراكزها التجارية المتماثلة التي تتألف من سلسلة مختلفة من المخازن والمطاعم، وفي إنتاجها الذي أخذت فيه النشاطات الكبيرة الممركزة مكان المزارعين وأصحاب الأعمال الصغار، وفي نوعية إنتاجها المصنّع.
وفي أوروبا كانت ظاهرة الطعام السريع أيضاً واسعة؛ وذلك بسبب الاعتماد المتزايد على تناول وجبات الطعام خارج المنزل، بحيث أصبحت حصيلة إنتاج المطاعم تضاهي الإنتاج الزراعي، والعاملون فيها يناهزون ضعف العاملين في الزراعة (هذه النسب تخص بريطانيا ويمكن أن تنطبق على أوروبا أيضاً). أما في البلدان الأقل تصنيعاً والعالم الثالث عموماً، فإن التأثير كان كبيراً لكنه لم يصبح بعد مُهيمناً. فسلسلة المطاعم السريعة الآتية من الخارج هي أكثر كلفة مما هو قائم ومحلي، الذي تعتمد غالبيته على منشآت صغيرة، أمّا ارتياد مطاعم السلسلة العالمية فيظهر كمجاراة للعصر؛ ولأن المكان يبدو أكثر لياقة وأنظف..
ولكن ومنذ سنوات خمس تقريباً، بدأت تنمو حركة ارتجاعية تنتقد المستوى المتدني لنوعية الطعام السريع، وبات المصطلح يحمل دلالة غير مستحبة. وها هي الصناعة تتجه اليوم إلى محاولة تحويل نظر الجمهور إلى مصطلح بديل مثل مطاعم الخدمات السريعة .
جاذبية الطعام السريع
فعّالية وملائمة، وماذا أيضاً؟
لا يمكن فهم ظاهرة سلسليات الطعام السريع إلا بالرجوع إلى منشئها في الولايات المتحدة الأمريكية والطريقة التي نمت فيها وغزت بها حياة المجتمع في أكثر من جانب. كانت الريادة في هذا النمو لأخوين ابتكرا عملية إنتاج أكثر فاعلية لزيادة الإنتاج وتقليل الكلفة وبالتالي السعر، وجذب المزيد من الزبائن: استغنيا عن الخدمة المباشرة للزبائن وعن أدوات الأكل التي استبدلاها بالأغلفة، وركزا على بيع مواد قليلة لا تحتاج إلى تلك الأدوات (الهامبرغر والبطاطا والكولا). سرّعا عملية الإنتاج بشراء خلاّطات كبيرة، وشجعّا الزبائن على طلب طعامهم على المنضدة أو من النافذة وهم في سياراتهم. وباشرا أسلوباً جديداً وهو منح امتياز لعلامتهم يسمح لغيرهم بإنشاء مطاعم تحمل الاسم نفسه مقابل دفع مبلغ من المال ونسبة من المبيعات، وهي عملية اتبعت مفاهيم تتعلق بوضع معايير متجانسة وقوانين إنتاج وخدمات صارمة وصناعة منتجات متناسقة ومتماثلة في جميع الأماكن. هذا النجاح شجّع غيرهم على القيام بالمثل، في الخمسينيات والستينيات الميلادية.
إلا أن القفزة الأساسية حصلت في العقود الثلاثة الأخيرة، حيث نمت هذه الصناعة محلياً من 10 بلايين دولار عام 1970م إلى 110 بلايين عام 2000م. وفي هذا النمو اليوم وصل عدد فروع أحد المطاعم إلى 28 ألفاً في أمريكا و 31 ألفاً في 121 بلداً)، إلا أن سلسلة متنوعة بدأت تتطور لتسويق الدجاج، البيتزا، التاكو المكسيكي، الساندويتشات، وغيرها، لتشكل في أواخر القرن العشرين ما يتعدى 160,000 مطعم سريع يخدم أكثر من 50 مليون أمريكي يومياً. وبذلك تسلل الطعام السريع إلى جميع زوايا المجتمع الأمريكي، بحيث بات يخدم في المطاعم وفي المطارات والسفن والجامعات والمدارس ومحطات الوقود وحتى في مقاصف المستشفيات..!
يطرح هذا النمو تساؤلاً عن أسبابه. ويذكر منها عادة: ملاءمته لأسلوب حياة يضع قيمة للفاعلية، والأسعار المخفضة، والدعاية القوية وجاذبيتها للأولاد والشباب، والسفر بالسيارات الذي يتطلب التوقف كل فترة، وتجانس الفروع بما يجعلها مألوفة، فيطمئن لها الزبون.
لا شك أن النمو الاستثنائي لظاهرة سلسلة المطاعم السريعة قد قادته تغييرات اجتماعية، منها اضطرار عدد متزايد من النساء إلى الانخراط في العمل، كما أن وتيرة العمل نفسه والحياة المتسارعة جعلتا منافذ الأطعمة السريعة والرخيصة ضرورة مكملة. وبدورها قدمت هذه السلسلة إمكانيات لم تكن متاحة من قبل للعائلات ذات الدخل المحدود لارتياد المطاعم بكلفة قليلة، وباتت إلى حد ما، في ظل اقتصار أماكن الترفيه على المراكز التجارية، ملاذاً عائلياً أحياناً لا مفّر منه.
إلا أن دور الدعاية كان عنصراً أساساً في الترويج الواسع للسلسلة وخلق عادات طعام ملائمة وغير ملائمة. ربما كان من أهم نجاحات مطاعم الهامبرغر استهدافها الأولاد في الدعاية وفي إنشاء الملاعب المكملة للمطاعم، وفي خلق الوجبة السعيدة الخاصة بالأولاد وإرفاقها الدائم بأشكال متنوعة من الدمى التي باتت مع الوقت الأكثر ألفة لديهم. وهناك مشاركة واضحة لهذه المطاعم في الألعاب الرياضية الأكثر شعبية كالأولمبياد وكرة السلة الأمريكية. وتتسابق سلسلة المطاعم في جذب ما تعتبره المستهلكين الأكثر ثقلاً ، الذين تتراوح أعمارهم ما بين 18 و 24 سنة، عبر إدخال حصص طعام من النوع الثقيل مثل المونستر برغر و الملك الضخم و بيغ إكسترا .
الطعام السريع مرحلة أخيرة
من صناعة فعلها التجانس
يأخذنا كتاب أمة الطعام السريع لكاتبه إيريك شولوسير إلى متاهات تصنيع الوجبات السريعة في الولايات المتحدة. وهو يحاول أن يجيب عن السؤال: من أين تأتي هذه الأطعمة التي تبدو مألوفة كالهامبرغر والبطاطا وأعيدت صياغتها من خلال وسائل تكنولوجية مهمة؟
يقول لنا الكتاب، إنه باستثناء السلطات، تتلقى سلسلة المطاعم السريعة الأطعمة جاهزة، إما مجمّدة أو معلبّة أو مجفّفة، وتحتاج خطوات بسيطة للإعداد (تسخين أو قلي أو إضافة ماء)، لكن العملية تحصل في إطار متقدم من المكننة من أجل إعدادها بسرعة وبكميات كبيرة. أما تصنيعها، فيعود إلى مجمّعات صناعة غذائية لشركات متعددة الجنسيات، توسعت وتركزت في الثمانينيات من القرن العشرين بسبب اندماجات مهمة سهلتها سياسة حكومية متسامحة تجاه الاحتكارات.
فتضخم القوة الشرائية لهذه السلسلة وحاجتها إلى درجة كبيرة من انسجام المنتج أحدثا تأثيراً مهماً في مجريات العرض، فارضاً تخفيضاً للأسعار ومقوياً المركزة الصناعية على حساب التنويع والمنتجين الصغار. أحد المطاعم انتقل، مثلاً، من شراء اللحوم المعلبة من 175 موزعاً عام 1968م، إلى خمسة موزعين فقط بعد سنوات قليلة. وتضخمت بشكل هائل شركات صناعية لتقطيع البطاطا من أجل صناعة تنويعات في الأشكال، جاهزة للقلي، تامة التماثل، وتستطيع أن تنتج آلاف الأطنان يومياً. وتلازم مع التصنيع الغذائي اعتماد متزايد على صناعات كيمائية لإدخال النكهات والمذاقات، وليس هناك مذاق تعجز هذه الصناعات عن تقليده..!!
ولهذا السياق الصناعي امتداد عالمي. فالشركات الغذائية تسير خلف سلسلة المطاعم، وتشتري مثلًا مساحات زراعية في الصين واستراليا وتبني مصانع تحويلية إلى جانبها من أجل السوق الآسيوية لصناعة الطعام السريع.
ويحتل موضوع الامتياز درجة كبيرة من الأهمية في تكريس التجانس. وعلى سبيل النموذج، هناك كتيّب تعليمات للتطبيق من قبل الامتياز بات اليوم في حجم مجلد، يدخل في أدّق التفاصيل لاستخدام الأدوات والشكل الخارجي لكل مادة على لائحة الطعام وتعامل الموظفين مع الزبائن وغيره. هذا التنظيم الصارم لا يترك أي مجال للاعتماد على مهارات العاملين بما أن العملية الإنتاجية ككل موجودة في نظام عمليات الآلات.
هل من عواقب لهذه الدرجة
العالية من المكننة والتصنيع؟
بعض ما يساق في هذا المجال هو أمراض جرثومية قد تنتج عن السرعة الفائقة في تعليب اللحوم (خاصة المفرومة منها). والمفارقة هنا أن سلسلة المطاعم تتمتع بقدرات على الفحص والإشراف على الطعام، لا تتوافر عادة للمؤسسات الصغيرة؛ مما يجنبها الوقوع في إحداث أضرار مباشرة كالتسمم والبكتريا. إلا أن ما يؤخذ على هذه السلسلة اليوم هو التساؤل حول أضرار على المدى الأطول لأطعمة محوّلة يزيد فيها الدسم ويقل الغذاء. والبعض يريد تحميلها مسؤولية البدانة وأمراضها، كما حمّلت شركات التبغ تبعات التدخين.
البدانة بعد التدخين
بين القانون وقناعة المستهلك
منذ ما يقارب السنوات الخمس بدأ موضوع البدانة يثير بعض الحساسيات تجاه الاستهلاك غير المدروس للأطعمة السريعة الرائجة . فحالة البدانة أصبحت صارخة في مجتمعات كالولايات المتحدة وكندا، والتساؤل حول أسبابها بدأ يطرق باب موفري الأطعمة الأكثر تناولاً في الولايات المتحدة، أي سلسلة مطاعم الوجبات السريعة. ودرجت استخدامات جديدة لتصنيف الطعام حسب نوعيته واستخدامه، مثل الطعام البالي (جانك فود)، لوصف طعام يحتوي على كميات حرارية ودهنية وسكر وأملاح وفائدته الغذائية ضعيفة (مثل الكعك المسمن والسكريات والمشروبات الخفيفة وغيرها)، و الطعام الملائم (كونفينينت فود)، لوصف الطعام المحوّل والمعد لحد أدنى من التحضير ويرتبط تناوله بعادات جديدة كالأكل أمام شاشة التلفزيون. ومعها بدأ التساؤل: أين تقع محتويات الأطعمة السريعة الدارجة في هذا الاعتبار، وما إذا كان عدد منها يمكن إدراجه في تصنيف الجانك فود .
وما إن يبدأ في الولايات المتحدة، حيث للقضاء ثقل خاص، التساؤل حول الأضرار المتعلقة بالبدانة، وتطرح إمكانية ارتباطها بتناول مداوم لصنف من الأطعمة أو عادات أخرى، حتى يتحوّل الموضوع مباشرة إلى اتهام. جملة من الدعاوى، خاصة بالإنابة عن أطفال بدينين، رفعت ضد بعض مطاعم الوجبات السريعة، تتهمها بالتسبب في حالة البدانة وما ينتح عنها من أمراض. وعلى الرغم من أن القضاء لم يُحِل بعد أياً من هذه الدعاوى إلى المحاكم، فإنها بدأت تعيد إلى الأذهان سيناريوهات سابقة لموضوع التدخين وتحميل صناعة التبغ مسؤولية الأضرار الناتجة عنه، بفرض غرامات عليها بلغت مئات بلايين الدولارات كتعويضات عن جزء من نفقات علاج الأمراض المرتبطة بالتدخين.
فهل يمكن أن يواجه بعض مطاعم الوجبات السريعة مصيراً قانونياً واجتماعياً مماثلا؟
بالنسبة إلى البعض، هذا الأمر لم يعد مستبعداً. وخسارة دعاوى قليلة ليست رادعاً، فدعاوى التدخين خسرت أكثر من خمسين حالة في البداية. وهناك جاذبية خاصة للموضوع، إذا أخذنا بالاعتبار تقديرات نفقات علاج الأمراض المرتبطة بالبدانة (التي قد تصل إلى 117 بليون دولار بمقابل ما جرى تقديره لـ 130 بليون دولار بالنسبة للتدخين) بالنسبة لكبار المحامين المعروفين في اختصاصهم بدعاوى الأضرار المدنية، ما يسّمى محامو المحاكم، والذين يجنون منها أرباحاً طائلة تشجعهم على خوضها بعناد، خاصة عندما يكون من الممكن سياقها في إطار مقاضاة جماعية للمتضررين ضد الشركات.
موضوع الادعاء على شركات الأطعمة السريعة أصبح قضية ساخنة في الولايات المتحدة والتجاذب فيها يحصل على ثلاثة أصعدة: القانوني، والتشريع القانوني، والرأي العام.
ولتجنب المواجهات مع القضاء، نقل قطاع الغذاء قضية اعتبرها تحاملاً وعبثاً إلى الكونغرس الأمريكي، الذي وافق (في مارس 2004م) على مشروع قانون الشيزبيرغر لحماية الصناعة تجاه الدعاوى العابثة، وتحريم ادعاء الزبائن البدينين بأن وزنهم الزائد سببه أكلهم في بعض المطاعم.
وفي هذا التجاذب يبقى للموقف الشعبي تجاه سلسلة الطعام السريع القول النهائي لأي سياق محتمل في الوصول إلى مفترق كالمفترق الذي عرفته الدعاوى ضد صناعة التبغ، أي إلى تحميل المسؤولية لشركات الطعام السريع عن حالة جماعية اسمها البدانة . فالتغيّر في الرأي العام هو الأساس الذي يمكن أن يشجع المدعّين العامين في الولايات للمطالبة باسترداد التكاليف الصحية المرتبطة بأمراض البدانة، كما حصل مع صناعة التبغ.
لقد هزّ حدثان إعلاميّان جزءاً من الرأي العام في السنوات الأخيرة. كان الحدث الأول كتاب أمة الطعام السريع ، الذي لا يتعرض للبدانة بل لما يعتبره تأثيراً مجتمعياً وغذائياً سلبياً لمطاعم الوجبات السريعة، وكان الأكثر مبيعاً حين صدر عام 2002م ولا يزال رائجاً.
والتحدي الإعلامي الأهم جاء عام 2004م، على شكل فيلم سينمائي وثائقي بعنوان كبّر حجمي (Super Size Me) من إخراج وتمثيل مورغان سبيرلوك الذي قام بتسجيل تجربته الشخصية بعد تناوله ثلاث وجبات في اليوم لمدة شهر واحد في أحد المطاعم، ويوّثق للتغير الفيزيولوجي الذي أصابه من زيادة وزن وتدهور صحي. وقد بدأت بعض المدارس تتصدى للدعايات المشجعة للأطعمة السريعة، وتزيل الماكينات التي توفر أطعمة الجانك فود .
وفي هذا المجال يقول المتكلمون باسم سلسلة مطاعم عملاقة (في برنامج مسجل لإذاعة بي بي سي البريطانية) إن الشركة قادت الصناعة ككل في توفير معلومات غذائية شاملة لزبائنها، لكي يكون باستطاعتهم أن يختاروا بشكل مدروس ما ينتقوه من أطعمة .
أي مستقبل بين التجانس والتنويع وبين الملاءمة والتغذية وبين العالمي والمحلي؟
تعرضت حالات النمو السريع أينما حصلت وبشكل عام إلى ظواهر ارتجاعية للحد من عواقبها. فالنمو الصناعي أثار احتجاجات بيئية، والنمو السياحي نمت بمقابله سياحة بديلة.. ولا يخرج نمو صناعة الطعام والسلسلة التي أنتجتها عن هذا السياق العام من حالات الارتجاع.
قبل جيل واحد تقريباً كان يؤخذ لنوعيةالطعام حساب كبير. فالطعام المنزلي الموروث عبر السنين وفّر وجبات متوازنة غذائياً، ولم يكن الإنتاج الغذائي بوفرته الحالية وبنموه التصنيعي القائم ليجعل حساب كميته الزائدة أو نوعيته مسألة على بساط البحث. أما اليوم فبدأ الأمر يتغير. فالصناعة الغذائية المعاصرة لم تؤسس على موروث خبرة السنين بل على معادلات عقلانية الحساب. ولم تقم لصالح التغذية بل لتخفيض الكلفة وتسريع الإنتاج. وبات المستهلك مضطراً إلى أن يجاري هذا التطور بمثله، أي أن يبدأ بالحساب العقلاني لما يأكله لكن من منطلقات مصلحته ومن أهم متطلباتها التغذية الصحية.
فمن الأمور التي تؤخذ على وجبات الطعام السريع أنها نقيض بعض الخصائص الأساسية للطعام كما توارثناه:
أولاً، تؤسس لتجانس هو نقيض التنوّع كحاجة لتغذية متوازنة.
ثانياً، أنها لا تؤسس على موروث، لا بل تعرضه للاضمحلال.
ثالثاً، تعتمد على المحوّل أكثر من الطبيعي. كما تؤخذ عليها أيضاً درجة الدسامة في عدد من منتجاتها التي تجعلها أكثر جاذبية وإشباعاً.
وهذه المآخذ، سواء أكانت في محلّها دائماً أم لم تكن، ومعها بدايات حساب عقلاني للمستهلك، بدأت منذ عقد تقريباً تؤسس لتغييرات في قطاع الأطعمة السريعة.
جاذبية الطعام السريع لا تزال قائمة، وهناك توسّع ملحوظ لدى القطاع ككل، يأتي لصالح فروع على حساب فروع أخرى، ويدفع باتجاه بدايات لتعددية وتنويع. والساحة مفتوحة على احتمالات جديدة، فهناك من يريد العودة إلى مطعم الأم . وحركة الطعام البطيء تريد إعادة الاعتبار لكل ما فُقِد. فهي منذ عام 1986م تطرح نفسها كالحركة الإيكولوجية لفن الأكل، وتسعى إلى المحافظة على المطبخ المحلي (وتدعي أن 75 في المئة من التنوّع الغذائي الأوروبي و90 في المئة من الأمريكي قد فقد منذ عام 1900م).
وهناك من يعتبر أن الموجود يمكن تحسينه وملاءمته مع احتياجات التغذية. وقد بدأت السلسلة المهيمنة، تحت ضغوط هذه المآخذ، تجري بعض التحسينات، فأدخلت بعض المطاعم إلى وجبة طعام الأطفال بعض الخضار والفواكه الطازجة، كما بات يقدم وجبات خفيفة الدسم من الهامبرغر والميلك شيك، وخفف كمية الدسم في زيت المقالي، وبدأ يراعي موضوع البيئة في استخدام مواد الحفظ. وأُدخلت تحسينات شبيهة أيضاً على عدد مهم من السلسلة الرائجة الأخرى. وبات من الممكن الحصول على وجبات تتضمن سلطات ومشاوي دجاج في معظمها. ويظهر أيضاً منحى ثالث أكثر توفيقاً بين هذين الاتجاهين. سلسلة مطاعم سريعة، ربما لم تكتسح السوق لكنها أصبحت متاحة، تعيد بعض الاعتبار للموروث والمحلي، من مطابخ عالمية متنوعة. ولعادات تناول الأطعمة الخفيفة كالساندويتشات والفطائر من مختلف المناشيء. ولأن موضوع الخدمة السريعة لا يزال يطرح نفسه كمسألة ملائمة في المجتمعات الحديثة، فإن وجبات كاملة ومتنوعة ومتعددة ومن مطابخ عالمية، تحتوي على لائحة طعام أي مطعم عادي، بدأت تُقدّم بشكل خدمي جديد يسهل بيعها السريع وتناولها بالحد الأدنى من الخدمة، وبأسعار مخفّضة أصبحت ممكنة في إطار إنتاجها الموسَّع كسلسلة.
ولكن الهيمنة اليوم لا تزال للسلسلة الكبرى. فهي الأوسع انتشاراً ومبيعاً في الأسواق العالمية، والتغييرات الأساسية تحصل في إطار المنافسة بينها. إلا أن الدخول الجديد في إطار الهيمنة على الأسواق الأمريكية كان لسلسلة مطاعم تقدم ساندويتشات، وهو يعكس ميل المستهلك إلى التنوّع والتغذية الملائمة التي يمكن أن توفرّها الساندويتشات المختلفة المواد ونوع الخبز الأفضل الذي تقدمه. والسوق، في إطار هذه الميول الاستهلاكية، مفتوحة على تنويعات أكثر وعلى الجديد.
كما أن الامتداد العالمي لهذه السلسلة الكبرى لا يزال ظاهرة. إلا أنها ظاهرة بدأت تجد منافسين، غير المنافسين التقليديين كالمحلات الصغيرة المنتشرة للمأكولات السريعة المتنوعة، بظهور سلسلة محلية في آسيا وأمريكا الجنوبية وأوروبا، بعضها لا يلبث أن يتوسع على نطاق إقليمي جغرافي، ومنها من يطمح أيضاً للعالمية. ومنها مطاعم للمآكل الشرق أوسطية السريعة التي سجلت نجاحاً باهراً في البرازيل وتمتد الآن إلى المكسيك، ويطمح صاحبها البرتغالي الأصل إلى أن يصل إلى الولايات المتحدة حيث التحدي الكبير. أنواع ساندويتشات سريعة تظهر في اليونان وتنتشر سريعاً في البلقان. كما أن الطعام السريع التايلندي والياباني ظاهرة جديدة أيضاً تؤسس لأبعاد إقليمية. وفي المنطقة العربية نجحت بعض مطاعم السعودية في التوسع إقليمياً بعد نجاحها وانتشارها محلياً، الأمر نفسه ينطبق على مطاعم مصرية. وهناك أمثلة عن نجاحات سلسلة محلية في أوروبا الشرقية كأوكرانيا. واليوم تقف صناعة الطعام السريع أمام سجال ساخن يدخل في صميمه التنويع والتغذية والعودة إلى الموروث المحلي.
لقد نشأت هذه الصناعة بالاعتماد على فعل ابتكاري لبعض الأطعمة، وكرست في إطار تصنيعها المتسارع التجانس في الإنتاج. وقبل أن تتعرض لامتحان البدانة اليوم، واجهتها في العالم الأقل تطوراً المأكولات السريعة الموروثة من دون أن تفقد سوقها على الأقل في عالمنا العربي، مثل الشاورما والفلافل والحمص والفول والأشكال المتنوعة من الساندويتشات.
المستقبل يطرح أمام هذا السجال خيارات أخرى على حساب الهيمنة، تترك مجالاً للمصالح الصغيرة للتحرك في اتجاه تحسين إنتاجها كماً، ولمحاولات تطوير الموروث المحلي لملاءمة العصر. ولكن المسألة لاتعني إمكانية النوم على حرير الأمل، بل تتطلب جهداً للتحسن أمام مايطرح من احتمالات.
اقرأ عن الغذاء
ملفات الأغذية السوداء
لاعلاقة مباشرة لهذا الكتاب بموضوع الوجبات السريعة ومطاعمها، ولكنه يتناول جانباً آخر من جوانب الغذاء المعاصر -إذا جاز التعبير- ألا وهو الغذاء الزراعي الذي يقول عنه المؤلف: إنه مريض.. نعم مريض بغطرسته ومحاولة فرض منتجاته على مناطق أوسع كل يوم. مريض بمصادرة المسؤولية من المزارعين، مريض بقدرته على التدخل في كل مكان، في مراكز التربية الصناعية والمسالخ ومصانع التحويل والحقول الواسعة والمنتجات… ويصف بعض المنتجات المصنعة بأن لاعلاقة لها بدورة الطبيعة.
والمؤلف هو الصحافي الفرنسي جان-كلود جابيت، الذي يطارد المشتبه بارتكابهم تجاوزات على صعيد الغذاء الزراعي. ويحفل كتابه الواقع في 283 صفحة بالأمثلة المثيرة التي تقشعر لها الأبدان ، حسبما جاء في التعريف بالكتاب، الذي عربه الدكتور عادل سفر ومازن يحيى الشهابي، ونشرته دار العبيكان العام الماضي.