الثقافة والأدب

السينما التاريخية
معركة غير متكافئة
بين الماضي والحاضر

  • 72g
  • 70a
  • 70b
  • 70c
  • 71a
  • 71b
  • 72a
  • 72b
  • 72c
  • 72d
  • 72e
  • 72f

من بين مواضيعها المفضلة، وهي عادة كثيرة وتشمل تقريباً كل شيء، يحلو للسينما أن تعود ما بين الحين والآخر إلى نوع من الأفلام يعرف، في أغلب الأحيان، كيف يستقطب جمهوراً واسعاً، خاصة وأن استعراضية الشاشة السينمائية والضخامة المطلوبة لمثل هذا النوع، تجعل السينما من دون منافس فيه تقريباً، حتى وإن زعمت الشاشة الصغيرة (التلفزة) القدرة على خوض النوع نفسه. وهذا النوع هو السينما التاريخية، التي يحدثنا عنها الزميل إبراهيم العريس.

تتشكّل السينما التاريخية من مجموعة الشرائط التي تعيد إلى الشاشة الكبيرة أحداثاً وقعت في الماضي، القريب أو البعيد، سواء استخدمت في ذلك مجموعات من الشرائط الوثائقية التي سجلت الحدث بالفعل، في القرن العشرين وحده طالما أن السينما لم تكن اخترعت قبل ذلك، أو بنت ديكورات وأتت بممثلين أوقفتهم أمام الكاميرا ليلعبوا أدوار شخصيات تاريخية.

وهذه السينما التاريخية، على تفاوت جودة أفلامها، كان لها دائماً جمهور عريض، جعل هذا النوع يعيش أكثر من غيره. كما جعل المنتجين والمخرجين يضيفون دائماً شرائط جديدة عن أحداث كان سبق لها أن قدمت على الشاشات مراراً، وعن شخصيات اهتمّت بها السينما منذ بداياتها. وحسبنا أن نذكر أن العام الماضي وحده شهد عرض شرائط عديدة تتصدى للتاريخ: من تاريخ طروادة إلى سيرة الإسكندر إلى حكاية الملك آرثر إلى الحروب الصليبية (في فيلم يصوره ردلي سكوت حالياً)، حتى ندرك كم أن هذا النوع يلقى القبول، بل الإقبال … فهل ننطلق من هذا لنتساءل عما يجعل الجمهور العريض مهتماً كل هذا الاهتمام بمعرفة ما حدث في التاريخ عن طريق السينما؟

دوافع المتفرجين
من الصعب، طبعاً، إدراك كل الأسباب التي تشد المتفرج إلى صالة السينما بمشاهدة فيلم تاريخي. فهناك من الدوافع هنا ما قد يوازي عدداً، عدد أفراد الجمهور المتفرج. ولكن بشكل عام يمكن اختصار بعض الدوافع الرئيسة في ثلاثة: الفضول، الرغبة في الهرب من الحاضر، واستخلاص دروس التاريخ التي يمكن أن يحملها الفيلم في طياته.

والحقيقة أن بحوث علم اجتماع السينما، تصدّت كثيراً وفي كتب عديدة لدراسة كل دافع من هذه الدوافع، من دون أن يغرب عن بالها في الوقت نفسه، واقع جمالي بحت، طالما أن الفيلم التاريخي، ومهما كان شأنه وموضوعه، يكون عادة استعراضياً، حافلاً بالألوان والأحداث والشخصيات، عابقاً بالأزياء والاكسسوارات، بحيث يمكن لكل مشهد أن يساوي ألف لوحة تشكيلية.

وهذا البعد الجمالي، أدركته السينما منذ بداياتها … وقبل أعوام من بداياتها، إذ يذكر لنا تاريخ السينما أن توماس أديسون، المخترع الأمريكي، قام في العام 1894م، أي قبل عامين من الولادة الرسمية لفن السينما على يد الأخوين الفرنسيين لوميار، بتحقيق فيلم رسوم متحركة حول إعدام ماري ستيوارث، ملكة أسكوتلندا وعرضه بواسطة آلة سحرية كان اخترعها قبل ذلك. وللإنصاف التاريخي لا بد من القول أن شريط أديسون هذا هو الرحم الشرعي الذي منه ولدت السينما التاريخية ككل.

فمنذ ذلك الحين، وبدءاً من الأخوين لوميار ومواطنهما جورج ميلياس، وصولاً إلى مخرجنا العربي يوسف شاهين وتلميذه يسري نصر الله – الذي عرض في مهرجان كان فيلماً طويلاً عن تاريخ المأساة الفلسطينية عنوانه باب الشمس -، لم يتوقف فن السينما عن سبر أغوار التاريخ، سواء أكان تاريخ الأمم والأحداث الكبرى، أو تاريخ الأفراد الكبار أو العاديين… وصولاً إلى تاريخ الذات عبر أفلام تحمل من السيرة الذاتية لأصحابها ما تحمل. وكل هذا يفتح الباب مشرعاً على سؤال إضافي لا بد من طرحه دائماً: هل يمكن اعتماد كل هذه الشرائط كوثائق يكتب تاريخ ما على أساسها؟

نابوليون في الفخ
يفتح هذا السؤال سجالاً طويلاً لم يتوقف الباحثون عن خوضه … ولكن ثمة ما يشبه الإجماع على استحالة أن تقدم هذه الأفلام – في معظمها على الأقل – إمكانية للاعتماد عليها… طالما أن الكاميرا التي تصور الأحداث – سواء أكانت تسجيلية وقعت حقاً، أو أحداثاً مُمثَّلة – لا يمكنها أن تكون محايدة. بل حتى حين يصور مشهد ما كما كان التاريخ قد وثّـقه كتابة، فإن السينما – كما سائر الفنون – يمكنها أن تمارس في لحظة ما، تدخلاً من المستحيل عليه أن يكون بريئاً. وللدلالة على هذا، لنتأمل المشهد التالي:

في فيلم وداعاً يا بونابرت الذي حققه يوسف شاهين في العام 1994م، ثمة مشهد كبير مستقى في جوهره من التاريخ الموثق، وهو مشهد بونابرت يخطب في قواته أمام الأهرامات قائلاً لها: إن أربعين قرناً من التاريخ تتأملنا من أعلى هذه الأهرامات … حتى هنا تبدو اللقطة محايدة وأمينة للواقع والتاريخ. لكن الذي يحدث في الفيلم بعد ذلك، هو أن الصورة تنتقل إلى العالم الفرنسي كافاريللي، المتنور الذي يرافق بونابرت في حملته، وسنجده طوال الفيلم ذا نزعة علمية معارضة لنزعة قائده العسكرية الاحتلالية. وكافاريللي إذ يسمع عبارة بونابرت، يدمدم أمام الكاميرا، أي أمامنا نحن الجمهور قائلاً: ها هو الأحمق يقع في الفخ . ليس ثمة في الحقيقة توثيق تاريخي يؤكد لنا أن كافاريللي قال هذه العبارة. لكن شاهين يموضعها هنا؛ مما يجعل فيلمه ينتقل من حيز التاريخ إلى حيز الأيديولوجيا أو في عبارة أكثر بساطة حيز التاريخ النقدي.

والحقيقة أن مؤرخي السينما، وغيرهم من المؤرخين الاكاديميين الذين اهتموا دائماً بالكيفية التي قدمت بها السينما التاريخ، قسموا تعامل الفن السابع مع التاريخ إلى ثلاثة أقسام:
– التاريخ الجمالي
– التاريخ البراغماتي
– والتاريخ النقدي

وطبعاً، ليس هنا مجال التشعب الأكاديمي في بحث مثل هذه التقسيمات، ولكن يمكن أن نقول باختصار، إن ألوف الأفلام التي حققتها كل سينمات العالم، أمريكية كانت أو أوروبية أو عربية أو غيرها، لتتناول فيها كل أحداث التاريخ وشخصياته، حملت دائماً واحداً من هذه الأبعاد الثلاثة، إن لم تحملها معاً، في أفلام كبيرة، صارت بدورها جزءاً من التاريخ، تماماً كما هي جزء من تاريخ السينما.

أشرنا أعلاه إلى أن الإنتاج السينمائي في العالم أجمع لم يتوقف عن تقديم التاريخ من خلال السينما منذ أول أيامه. غير أن التاريخ النقدي (أو الأيديولوجي) لم يظهر إلا في وقت متأخر نسبياً، وبالتحديد مع ولادة فن التوليف الفكري الحقيقي مع المخرج الروسي سرغاي أيزنشتاين. إذ قبل تلك الولادة كان من المتعارف عليه أن الصورة يمكن أن تكون أقرب إلى الحياد، طالما أنها في حد ذاتها، ومهما كانت وجهة النظر، تظل صماء حتى تعطي دلالة ما … ولقد كان إعطاء هذه الدلالة المهمة الرئيسة لفن التوليف، أي فن ربط صورتين أو أكثر وراء بعضها البعض. ولسوف يكون فيلم الدارعة بوتمكين (1925م) لأيزنشتاين واحداً من أول وأعظم الأفلام التي أعطت الصورة معناها هذا. غير أن الأمريكي د. و. غريفيت كان قد سبقه إلى التاريخ .. ولكن في بعده البراغماتي حين حقق مولد أمة ومن قبله فيلم تعصب أواسط العقد الثاني من القرن العشرين، متبعاً في هذا خطى الإيطالي باستروني الذي حقق منذ العام 1914م واحداً من أول الأفلام الضخمة في تاريخ السينما كابيريا .. والواقع أن هذه الأفلام تحمل معاً، مجتمعة أو متفرقة، كل الأبعاد الجمالية والبراغماتيكية والنقدية التي أشرنا إليها. فـ كابيريا اعتمد ضخامة الاستعراض والأساليب الجمالية الجاذبة للمتفرجين، أما غريفيت، فإنه تبدى براغماتياً، أي مقدماً للتاريخ كما تتصوره العقلية الأمريكية المبكرة: تاريخاً وصفياً ظواهرياً يحمل دلالته عبر التوافق المسبق على رؤية التاريخ بين المخرج ومتفرجيه، أما أيزنشتاين فإنه حوّل التاريخ إلى درس سياسي يخدم أفكاره السياسية في ذلك الحين.

كل التاريخ في شرائط
ومن الصعب علينا أن نقول اليوم إن السينما قد تمكنت بعد ذلك، وفي آلاف أفلامها التاريخية، من مبارحة تلك الأبعاد الثلاثة.

ونحن حين نتحدث هنا عن آلاف الأفلام فإننا نعني ما نقول. إذ على خارطة الإنتاج السينمائي العالمي طوال قرن وأكثر، ومن هوليوود إلى موسكو وبرلين، ومن بومباي إلى القاهرة وروما وباريس ولندن والمكسيك وغيرها، عرفت السينما كيف تقول أحداث التاريخ كلها ومرات لامتناهية بالنسبة إلى كل حدث. فمن فيلم حروب النار إلى كل ذلك الرهط من الأفلام عن الإمبراطورية الرومانية وشعوب سهوب آسيا والحروب الصليبية وثورة كرومويل وعصر النهضة وأيام الفراعنة والحروب الدينية ثم القومية ثم الأهلية ثم العالمية، وصولاً إلى تدخلات نهاية القرن العشرين العسكرية، فغزوات نابوليون والثورات الفرنسية والروسية، عرفت السينما كيف تؤرخ للبشرية وكيف تضع متفرجيها على تماس مباشر مع كل حدث سمع به الإنسان تقريباً.

وفي هذه الإطارات كلها كان للسينما التاريخية أبطالها المفضلون، من هرقل إلى نابوليون، ومن جان دارك إلى توماس بيكيت، ومن نيرون إلى سبارتاكوس، وصولاً إلى هتلر وستالين وإبراهام لنكولن ولينين ولم لا تضيف: مدام دي بومبادور وليوناردو دانشي وفان غوغ وسقراط وتشارلز لندبرغ؟

وعاء لتاريخ البشرية
توهل في إمكاننا أن نقول انطلاقاً من هذا إن السينما تكاد تكون اليوم الوعاء الأكثر حضوراً في احتوائه تاريخ البشرية؟

حسناً قد يذكرنا قارئ هنا بما قلناه أعلاه، بأنه من الصعب، بل من المستحيل، اعتماد السينما كوسيط صادق ونزيه في رواية التاريخ. هذا صحيح … ولكن هل حقاً كان في إمكاننا أن نعتبر كتب التاريخ نفسها، السلف الحقيقي للسينما التاريخي، كمصدر صادق ونهائي لرواية التاريخ؟

كان الكاتب الفرنسي غوستاف لوبون يقول: لو كانت الحجارة تنطق لبدا التاريخ كله كذبة كبرى … وهذا القول ينطبق على التاريخ مكتوباً تماماً كما ينطبق عليه مرسوماً (في لوحات كبار الفنانين) واليوم ينطبق عليه حضوراً، في أروع الأفلام وأكثرها صدقاً.

فما الذي يمكننا أن نقوله هنا؟

بكل بساطة، إن ثمة صدقاً تاريخياً في هذا كله، ولكن ليس في المكان الذي يمكن توقعه… ولعل الحكاية التالية تصلح مدخلاً لتوضيح الأمر.

خلال النصف الثاني من عشرينيات القرن العشرين، كانت السلطات السوفياتية كلفت المخرج سرغاي أيزنشتاين، نفسه، بتحقيق فيلم للأطفال بمناسبة ذكرى ثورة أكتوبر البلشفية. في البداية، رغب أيزنشتاين في أن يستخدم في الفيلم مشاهد توثيقية كانت صورت هجوم الثوار على قصر الشتاء في بطرسبرغ، وهو الهجوم الذي كان نجاحه الانتصار الحاسم للبولشفيين. لكن السلطات رفضت إعطاءه الشرائط التوثيقية، فما كان منه إلا أن أتى بآلاف الكومبارس، و أعاد تصوير مشهد هجوم العمال والفلاحين على القصر. وأنجز الفيلم وحقق نجاحاً كبيراً واعتبر تحفة من تحف السينما التاريخية. ولكن ظل هناك باحثون ومؤرخون حيّرهم موقف السلطات: لماذا رفضت استخدام المشاهد الحقيقية مفضلة دفع تكاليف باهظة مقابل إعادة تصويرها وتمثيلها؟ فما الذي حملته تلك المشاهد؟
هو الهجوم نفسه، ولكن تبين للمدققين لاحقاً أن المهاجمين كانوا يرتدون أزياءً عسكرية موحّدة. إذاً؟ إذاً لم تكن المسألة في حقيقتها مسألة هجوم عمال وفلاحين، بل جنود منظمين، ما يشير بوضوح إلى أن المسألة كانت مسألة انقلاب عسكري، لا مسألة ثورة شعبية …

لقد فطنت السلطات إلى خطورة انكشاف تلك الحقيقة، فأخفت الشرائط وتلاعبت في الواقع التاريخي. وهذا التلاعب سيظل، وهو لا يزال حتى الآن، سمة من السمات الرئيسة لـ فن التأريخ عن طريق السينما. ومع هذا نصر هنا على أن كل هذه الشرائط على ما فيها من تلاعب تبقى صادقة ومعبّرة، ولكن ليس عن الواقع التاريخي الذي ترويه، بل عن واقع الرواة أنفسهم، أي صانعي الفيلم … وفي زمن صنعهم للفيلم. لا في الزمن الذي يروي الفيلم أحداثه.

أفلم يُقل دائماً إن التاريخ يكتبه المنتصرون، أو أصحاب المصلحة في كتابته، كما يلائم مصلحتهم؟ حسناً … إن آلاف الأفلام السينمائية التاريخية التي أنتجت منذ العام 1894م وحتى العام 2004م، لا تقول أبداً أي شيء آخر. إنها تقول تاريخها الخاص، تاريخ صانعيها. ويقيناً أن يوسف شاهين حين يجعل العالم كافاريللي يعلق على ذلك النحو على عبارة نابوليون الخالدة إنما يعبر عن نفسه، عن يوسف شاهين نفسه، وعن رأيه في نابوليون وفي حملة نابوليون على مصر، وفي هذا كله غش لذيذ ما بعده من غش: إن المسكين بونابرت، حين قال عبارته، كان واثقاً من أنه يقول كلمة الفصل، الحقيقة والغاية، دون أن يعرف ما يخبئه له التاريخ المقبل. أما شاهين فإنه حين علق ساخراً، على لسان أناه – الآخر في الفيلم كافاريللي، كان يعرف ما الذي سيحدث خلال الزمن اللاحق، وكان يعرف أن الجمهور سوف يضحك معه على بونابرت إذ وقع في الفخ.

أفلا نرى في نهاية الأمر، أنها مباراة بين شاهين ونابوليون، وأن هذه المباراة غير متكافئة على الإطلاق؟.

أضف تعليق

التعليقات

د. فتحي عبد العزيز محمد

مقالة رائعة