بين كل لحظةٍ وأخرى تصاب الروحُ بالإعياءِ والضيقِ وربما أوشكتْ على العطَب إن لم يتداركها صاحبُها بالرعاية والعناية ومحاولة إحياءِ وترميم ما تهدَّم منها، وهذا ما يمكن أن يُطلق عليه مصطلح التطهير الروحي الذي لا بد للروحِ أن تمر به كلما أثقل عليها الشعور بالضيقِ واليأسِ والعدمية. وحين تتعبُ روحُ الشاعر، وتبحثُ عن ملجأٍ لها تعيدُ فيه إعادة تكوين نفسها من جديد، يأتي الشعر محمّلاً بالحزنِ والبكاءِ واللوعة، التي تعمل على تطهير الروح وإعادة بثِّ الأملِ في جذورها المهترئة، لأنّ الدموع النازفة من هذه الروح هي ذلك المطرُ الذي يغسل كل رواسب الحياة ويعيدُ إليها بهجتها ونضارتها.
ولا يمكن للشاعر أن ينفكَّ عن قيد الحزنِ الرهيبِ مهما حاول التظاهر بخلافِ ذلك، ربما لأنّ الحزنَ هو الثيمة الأصيلة لهذا الوجود الكوني، نعم لا يمكن لأفهامنا أن تدرك تلك المراحل الغيبية السحيقةِ في عمقِ التاريخ الإنساني، كي نتعرّف من خلالها على صور ومراحل الأحزان الكائنة في تلك المناطق الزمنية المعتمة التي سبقته، ولكنّ الحزنَ الذي رافق أبانا آدم منذ أن برأته يدُ الله مروراً بخروجه من الجنة هو وحواء، وما أعقب ذلك من حوادثَ تاريخية إلى لحظتنا الدموية الراهنة، كلها تجعل للحزنِ صورةً ووجهاً حقيقياً مرعباً، لا يمكن أن يتستَّر خلف الأقنعة البشوشة، مهما حاولنا ذلك واحتلنا له.
الحزنُ هو الوجه الأمتن والأكثر أصالةً لمعدنِ الفرحِ الزائف، الذي لا يكاد يصمد أمام قوةِ جذبِ الحزنِ الرهيبة. ربما لذلك نبكي أحياناً من الفرح مع أنّ البكاء من مظاهر الحزن المادية، ولكنه مظهرٌ يوحي لنا بأنّنا لن نتخلَّص من أحزاننا الوجودية الأبدية، حتى ونحنُ في قمةِ الفرحِ والنشوةِ والسعادة ..
هل يعني هذا بأنّ الحزنَ هو الأصل والفرح ليس إلَّا لحظة طارئة خافتة سريعة الذبول؟ وهل نحزنُ لأننا خبَرنا معنى الوجودِ الحقيقي فلم يعد بإمكاننا الضحك على ذواتنا؟ وهل يمكن لهذا العالمِ أن يستغني ولو للحظةٍ واحدة عن أحزانه الوجودية المتراكمة منذ الأزل؟
يقولُ شاعرٌ ما إننا يجب علينا أن نحزن، ليس من أجل الحزنِ وحسب، ولكن لأنّ الحزنَ جديرٌ بأن نحتفيَ به ..
حريٌّ بنا أن نحزنَ ليس لأننا نرى العالم بمنظارٍ سوداويٍ متشائم، ولكنْ لأنّ أحزاننا كائناتٌ جميلة وفية، نستطيع المراهنة عليها إلى آخرِ لحظةِ حزنٍ في الوجود.
وجه الفرحة الآخر..
نعم أبكي..
لأني كلّما أبكي تطهرتُ
وأشرقَ داخلي وحيٌ
وطافَ بمهجتي بيتُ
لأنّ الحزنَ قنديلُ السنا
ودموعيَ الزيتُ!
حزينٌ..
رغمَ أنّ الحزنَ يوصيني بأن أفرحْ!
ومن سُخريِّةِ الأقدارِ
أنّي للهوى أشرحْ!
وأضحكُ ملءَ أحزاني
ودمعي غادرٌ .. يفضحْ
لماذا الحزنُ؟
لا أدري.. ولكنّي عهِدتُ الحزنْ
صديقَ الضُرِّ والسرّاءِ
حضنَ مواجعي، والأمنْ
كأنّ فؤاديَ الصحراءُ قاحلةٌ
وحُزني المُزنْ
حزينٌ ..
مثل آدمَ حين ودَّع بهجةَ الجنةْ
وقبَّلَ ذكرياتِ الخُلدِ
والإشراقِ
والفتنةْ
وهاهو هائمٌ في الأرضِ
يُتبِعُ زفرةً .. أنّةْ
كحواءَ التي أودى بها نحو الردى آدَمْ
وأخرجها (وكانت دُرّةً) مِن جنّةِ الحالِمْ
فظلّتْ طولَ غُربتها
تُهدهدُ أدمعَ العالمْ!
وتُوقِدُ جذوةَ الأحزانِ في قلبي
يدا قابيلْ
تورِّثني الدمَ الموَّارَ
ينضحُ من ثرى هابيلْ
ويصرخُ بي:
تظلُّ الأرضُ تُنجبُ قاتلاً وقتيلْ
حزينٌ ..
مثل تينِ الشوكِ
يذرَعُ وَحشةَ الصحراءْ
يفسِّرُ رملَهَا المحمومَ
يستقصي دروبَ الماءْ
ولكنَّ الخطى تاهتْ
فلا أرضُ .. وليس سماءْ
ويسألني:
أتبصرُ في الدياجي دمعةَ النجمةْ؟
أتصغي للنشيجِ ينزُّ منها..
يصبغُ العتمة؟
ويسألني .. ويسألني ..
فتُورقُ في فمي بسمةْ!
كأفلاكِ السماءِ..
مجرَّةِ الكونِ السديميةْ
تُعانقُ حزنَ روحي الآنَ
أحزانٌ بدائيةْ
تعلِّمني بأنّ الحزنَ دُنيا لا نهائيةْ
أنا الجنديُ ..
أطبعُ في خيالِ حبيبتي قُبلةْ
وأُقسِمُ .. في غدٍ سأعودُ
بعد حروبِنا السهلةْ!!
يموتُ غدٌ
ويبقى الحزنُ
يغرسُ في دمي نصلَهْ
لأنّ الحزنَ في عينيَّ
وجهُ الفرحةِ الآخَرْ
أقدِّسُ كلَّ أحزانِ الوجودِ
وأُبهجُ الناظِرْ
بكلِّ ملامحِ الدنيا
وقسوةِ دهرنا الساخِرْ