بيت الرواية

كيليطو يتحدَّث بالعربية..

جميع اللغات!

page 78كتاب «أتكلم جميع اللغات، لكن بالعربية» للباحث المغربي عبدالفتاح كيليطو، والذي ترجمه عن الفرنسية عبدالسلام بنعبد العالي، يضم بين دفتيه نصوصاً تقارب تلك العلاقة الملتبسة بين لغة الضاد، واللغات الأجنبية في الحياة اليومية وبين ضفاف الكتب، وتؤكد تأملات كيليطو استحالة تحرر المرء من لغته الأم أثناء تعامله مع لغات أخرى، مثلما يستحيل عليه أن يكون أحادي اللغة/اللسان، حتى لو كان يجيد لغة يتيمة.

عن علاقته باللغة المحكية، يؤكد دكتور كيليطو أنه يتكلم الدارجة في حياته اليومية، ويقرأ الفصحى. «عودني التكوين الذي تلقيته على ألا أقرأ إلا النصوص التي كُتبت بالفرنسية أو بالفصحى. صحيح أن هناك أشعاراً وحكايات وأمثالاً بالدارجة، إلا أنها تظل بالنسبة إليَّ مرتبطة أساساً بالشفوي. عندما يحصل لي أن أقرأها، أحس بانطباع غريب: فبسبب النقص في التعود، آخذ في تهجئتها كما لو كانت مكتوبة بلغة أجنبية. بقدر ما يكون التكلم بالدارجة يسيراً، بقدر ما تكون قراءتها شاقة مملوءة بالفخاخ. مما يدل على أن للغتين الفرنسية والفصحى نقطة مشتركة وهي كونهما لغتي التدوين، وبالتالي لغتي الأدب. عن طريقهما تمكنت من الاستمتاع بلذة قراءة النصوص الأدبية».

ويشير عبدالفتاح كيليطو إلى أن اللغة الأجنبية التي نتقنها ترفد لغتنا الأم بعبارات أو مفردات أو صياغات نحوية حين لا تمنح كتّابنا نماذجها الأدبية، وهو ما حصل في القرن التاسع عشر مع الأدب العربي الذي أنقذته عملية الترجمة، التي انطلقت آنذاك وساهمت في تجديده عبر إجباره على استيعاب أجناس أدبية جديدة وتبنّي أشكال كتابية لم تكن معروفة عندنا، في الوقت الذي كان فيه أدبنا العربي متعباً، خائر القوى، يحتضر في عزلة مضنية، ويستشهد بالشاعر الألماني غوته القائل: «ينتهي كل أدب بأن يملّ نفسه، ما لم ينعشه إسهام أجنبي».

ويسترسل الباحث المغربي في تأملاته الماتعة، ويتحدث عن المفكر الفرنسي جاك دريدا، الذي يَعُده من بين الكتَّاب القلائل، إن لم يكن الكاتب «المغاربي» الوحيد الذي لا يكشف في كتابته أنه منحدر من خارج، من بلد بعيد عن «المركز»: «لا أظن، في هذه اللحظة وإلى أن يثبت العكس، أن بإمكان القارئ أن يكشف عن طريق القراءة أنني «فرنسي من الجزائر»، هذا إن لم أعلن أنا نفسي عن ذلك». ولكن، عند الحديث الشفهي لا يكون جاك دريدا بمثل هذا اليقين: «لا أعتقد أنني أضعت نبرتي، وأنني فقدت كل ما يميز لهجة «فرنسي الجزائر». يتجلى ذلك بحدة في بعض المواقف «اليومية» (عند الغضب أو الدهشة والتعجب، وهذا بين أعضاء أسرتي ومن آلفهم، فهو يتجلى أكثر في المجالات الخصوصية أكثر مما يظهر في العمومية، وهذا معيار يمكن الثقة فيه لخوض تجربة هذا التمييز المتذبذب الغريب)».

النطق بلغة أخرى
kilitto ghilafويجزم صاحب «الكتابة والتناسخ» أنه مهما حاول الأجنبي أن يعدل من حاله، «لا بد وأن يقع في لحظة أو أخرى على الحرف الذي يعجز عن نطقه، بحيث يُفتضح أمره كأجنبي. هل بإمكانه أن يتجنب استعماله؟ وهل ذلك في متناوله؟ في بعض الحالات قد يصدق ذلك، شريطة إتقان اللغة الأجنبية تمام الإتقان. وعلى الرغم من ذلك، فحتى هذا الإتقان المفترض من شأنه أن يثير الشبهات ويفضح الأصل. فيما يخصني، فإن الحرف الذي يفضحني ويشي بي هو حرف الراء. لن أتمكن قطّ من النطق بحرف الراء الباريسي، ولا سبيل إلى الاستغناء عنه، فهو موجود في كل كلمة. لهذا طالما أعجبت بشخص كان يشكو من لثغة في الراء: يتعلَّق الأمر بعالم الكلام المعتزلي واصل بن عطاء. يعتقد عادة أن علماء الكلام أهل جدة وصرامة، هذا صحيح، إلا أننا عندما نطلع على ترجماتهم، ندرك أن البعض منهم لا يفكر إلا في التسلي (يصدق هذا أيضاً على النحاة، الذين يضاهون تلامذة صغاراً في ساحة مدرسة). لم يكن واصل إذاً، وهو من أصل غير عربي، لم يكن قادراً على النطق بحرف الراء، ولما تعب، كل مرة يفتح فيها فاه، من أن يكون محط سخرية من طرف أقرانه، تمكن من حل لمعضلته بأن أسقط من حديثه جميع الكلمات التي تشمل الحرف المشكلة. لكي يتقن التكلم بلغة، كان عليه أن يفقرها، ويحرمها من مكون أساس لأبجديتها وألفاظها. بهذه العملية، لم يُعد غريباً عن العربية أجنبياً عنها».

ويُعد صاحب «من شرفة ابن رشد» الأدب نسخة من عقد الازدياد، وسجلاً للحالة المدنية، إذ ليس من الصدفة أن الروايات المغربية الأولى تتحدث عن الطفولة، معلنة ذلك أحياناً في عنوانها: «صندوق العجائب» (بالفرنسية) لأحمد الصفريوي (1954)، «في الطفولة» لعبدالمجيد بنجلون (1957). فالنصوص العربية القديمة لا تكاد تشير إلى الطفل، و«حي بن يقظان» استثناء نادر. منذ 1954، أخذ المغاربة يكتبون بالدرجة الأولى عن طفولتهم، عن مجيئهم إلى العالم. لم يوجد أدب مغربي إلا منذ اليوم الذي قامت فيه أمنا، «مجنونة المسكن» تلك، بوضعنا في تابوت وتسليمنا لليمِّ، للمجهول، لأخطار المدرسة وفتنة تعلم لغة أخرى، لغات أخرى، لجزيرة تصدر فيها حيوانات غريبة وكائنات خرافية أصواتاً غير مألوفة. دعونا أنفسنا عند تلك المخلوقات لتدارك تأخر ثقافي كان كل واحد منا واعياً له، انتقلنا إلى جزر بعيدة: باريس، القاهرة، وعرضياً دمشق وبيروت، لنقلِّد بحذق ومهارة أصوات الكائنات التي تقطنها. بحثنا عن أسرة بديلة، عن لغة كتابة، عن شمس، عن غزالة أو ظبية. من هذه الزاوية، يبدو الأدب المغربي كصدى وظل وانعكاس قمري.

هل تضفي الترجمة قيمة؟
لن نغالي إن اعتبرنا التهميش صناعة عربية بامتياز، ويستشهد الباحث المغربي بحالة د. عبد الله العروي، منوهاً بالاعتبار المرتبط باللغة الفرنسية والصدى الإيجابي الذي خلفه كتاب العروي عند مثقفين فرنسيين مشهورين، وهو ما يفسر الاهتمام الكبير الذي أثاره في الشرق. «أن تمر عبر البعيد لتعرف القريب وتعترف به: لعنة تثقل كاهل العرب منذ وقت طويل على ما يظهر، منذ أكثر من قرن..»، ثم يخلص إلى أنه في الظروف الحالية وبصفة عامة، ليس هناك حظ كبير للكتاب العربي أن ينقل إلى الفرنسية. لكن، لا ينبغي أن يفوتنا أن الترجمة إلى لغة أوروبية تشكِّل حدثاً يستحق الذكر ويثير البهجة في العالم العربي، فيتم الاحتفاء به، وتتحدث عنه الصحف والمجلات، وتعرض صورة غلاف للكتاب بافتخار وتباهٍ… «أنا مترجَم، فأنا إذن موجود». أمر لا يتصور في فرنسا أو الولايات المتحدة، حيث لا يولي أحد كبير أهمية للترجمة، وحيث لا تستمد المؤلفات قيمتها من نقلها إلى لغة أجنبية.

فهل هناك من يتصدى للترجمة؟
عندما تغدو ثقافة أجنبية ثقافة مهيمنة، غالباً ما ينظر إليها على أنها نوع من التهديد. فيتم السعي لتفادي ضررها، وفي أقصى الأحوال تتم مقاومتها مقاومة منتظمة. تمدنا الأخبار الراهنة بأمثلة عديدة على موقف الانكماش هذا (يكفي استحضار موقف النابذين للغرب). الأمثلة على ذلك ذلك متوفرة أيضاً فيما مضى من الأزمنة.

هذا النفور من الترجمة لا يلاحظ فحسب عندما يتعلق الأمر بالنصوص الدينية، وإنما حتى بالنصوص الحكمية أو الأدبية في بعض الأحيان، ويتذكر كيليطو أن كتاب «كليلة ودمنة» كاد ألَّا يترجم، بما أن رغبة مؤلفه، الفيلسوف الهندي بيدبا، كانت هي الوقوف ضد نقله خارج الهند، ولولا الإصرار الذي أبان عنه الفرس للتعرف إليه وتملكه، لما صار واحداً من أكثر الكتب ترجمة في العالم… في معظم الأحيان، يكون الوقوف ضد ذيوع الثقافة الخاصة في الوقت نفسه وقوفاً ضد ذيوع الثقافة الأجنبية. «لن تقرأني، ولن أقرأك. لن تترجمني، ولن أترجمك».

ويُعد د. عبدالفتاح أن الأدب العربي إذا كان يكتب اليوم على نحو مخالف، فذلك راجع إلى تغيير نمط القراءة. فنحن اليوم نقرأ النصوص العربية وذهننا منصرف إلى النصوص الأوروبية. ونحن لا نقارن بين ندَّين، وإنما نقيس في كثير من الأحيان تلامذة على معلمين، ويستشهد بقول إرنست رينان : «العمل الذي لم يترجم، لم ينشر إلا نصف نشر».

للاقتراب من ثيمة اللسان المشطور أو الازدواجية اللغوية، يقارب كيليطو إحدى روايات التونسي عبدالوهاب مؤدب معتبراً الازدواجية اللغوية هي أكثر التجليات حدة لتأمل البديل، وليس من قبيل الصدفة أن تظهر الحية في الرواية، ويستشهد بالجاحظ الذي يرى أن الحية تعيش عمراً طويلاً، وتسكن جحر حيوانات أخرى، وتبدل جلدها، وفضلاً عن ذلك فهي ذات لسانين. «هذه الخاصية الأخيرة هي العقاب الذي تلقته لكونها أغرت آدم وحواء. أتكون الازدواجية إذن لعنة؟»، وينوه بالغنى الاستثنائي للكتاب، وهو ينظر إلى الثقافة العربية بموازاة مع سلسلة من الثقافات الأخرى، ويُعد هذا الكتاب كيليطو أول من سعى ، ضمن ما يعرف بالأدب المغاربي المعبَّر عنه بالفرنسية. ذلك السعي الجريء، بعيداً عن مقولة الاستلاب الثقافي المبتذلة، ويحلم بكائن كوني، وهو نداء موجَّه إلى العرب كي يتجاوزوا «الجهل بالتركيب الذي حققته حقبتهم الكلاسيكية»، مواصلاً بذلك الطموح العميق للجاحظ والتوحيدي والغزالي وابن رشد، وهو منبهر باللقاءات المتعددة اللامتوقعة، باستعارة ملتقى الطرق.

أضف تعليق

التعليقات