علوم

الزراعة تحت الأرض

BODY_4-1أدى نشوء الزراعة قبل نحو 10 آلاف سنة إلى تخلي الجماعات البشرية عن الاعتماد الكلي على الصيد والالتقاط العشوائي للثمار البريّة، وبدء الاستقرار، حيث الموارد التي تصلح لزراعة محاصيل معينة، ومن ثَم إلى تدجين حيوانات معيَّنة. هكذا تجمّع الناس حيث الزرع والضرع، فظهرت المدن الأولى.
لكن يبدو أن مستقبل الزراعة محفوف بتساؤلات تطرحها تحديات الموارد والنمو السكاني والظروف البيئية. ويناقش هذا المقال تحولاً مدهشاً في مسيرة هذه المهنة العريقة، التي يوجهها البحث العلمي في اتجاهات لم تخطر يوماً ببال أيٍّ من أجيال المزارعين.

بالعِلم وتطوير التقنيات تمكَّن البشر عبر آلاف السنين من اكتشاف حدود قدرتهم على ترويض الطبيعة، ليزرعوا نباتات تثمر محاصيل نافعة لهم. العِلم نفسه هو الذي صنع المصانع وملأ بها الأرض حتى خنقها، فتوسَّعت رقاع المدنية حتى زاحمتْ أماكن الزراعة. وزاد تطور الرعاية الصحية من معدلات الأعمار فكَثُر البشر على سطح البسيطة. ونتيجة لذلك، اكتسحت المدن المتمددة المساحات الزراعية عموماً. وصارت الموارد التي كانت تفيض بها أطراف الكوكب لا تستوعب هذا العدد، ما شكل تحدياً غير مسبوق لقدرة الزراعة على إطعام ما يربو على السبعة مليارات إنسان.

Underground_01المفارقة أن العلم الذي كان أساس البدء بالزراعة وهدّد مستقبلها، يظهر للمرة الثالثة في هذا الخط الزمني لينقذها. إذ ظهرت اقتراحات حديثة لتطوير الزراعة، منها ما يسمَّى بالزراعة العمودية، وهذا المصطلح يعني الإفادة من المساحات الفارغة في العمائر الكبيرة وناطحات السحاب وإحلال الرقاع الزراعية فيها. كما ظهرت فكرة الزراعة الذكية / الدقيقة، التي تَستخدم الأقمار الصناعية لتنظيم عملية الزراعة في رقعة زراعية معيَّنة لتحقيق أعلى ناتج بأقل قدر من التكاليف. ومن الأفكار المدهشة التي بدأ ينادي بها البعض كذلك استخدام مساحة الأرض نفسها مرتين في آنٍ معاً لزيادة الرقعة الزراعية، وذلك بأن نقوم بالزراعة فوق الأرض.. وتحتها كذلك!

زراعة تحت الأرض؟ لماذا؟
radish-1يقول المثل الغربي: «لا تُصلح ما ليس معطوباً»، بمعنى أنه طالما كان الشيء يعمل فالأجدى أن نتركه وشأنه، بِلا أي تطوير أو تحسين. ويبدو أن هذا ما طبقه البشر مع الزراعة. فظلت تمارس في القالب نفسه لآلاف السنين لا تكاد تتغير طريقتها، لأنها – كانت إلى عهد قريب – تؤتي أُكُلها بالشكل المطلوب. أما اليوم فقد زادت النداءات التي تحث على تطوير الزراعة وإخراجها من قالبها التقليدي، ولهذا أسبابه العديدة:

• الانفجار السكاني:
يقطن كوكبنا حالياً 7 مليارات إنسان، وبينما يزداد عدد الناس فإن الموارد الغذائية لا تزداد بما يتماشى مع العدد. ويتوقع العلماء أن يصل تعداد البشر إلى تسعة مليارات ونصف المليار في الثلاثين سنة المقبلة، ما سيؤدي إلى وقوع أزمة على صعيد توفير الغذاء الكافي لهذا العدد.

• تقلُّص الأراضي الزراعية:
كانت الأرض عذراء، مملوءة بالأراضي الخصبة وغير الخصبة، أما اليوم فإن المصانع والبيوت والمنشآت البشرية تنتشر وتتوسع وتقضي على كثير من الأراضي. ويومياً تقل المساحات الزراعية، وتزداد المساحات الصناعية.

• تغيُّر الطقس:
red-amaranth-1الاحتباس الحراري الحاصل حالياً بغضِّ النظر عن مسبباته، غيَّر مناخ الكوكب الذي أصبح أكثر تقلباً وأقسى (أعاصير، فيضانات، جفاف، …إلخ) تضر بالمحاصيل الزراعية وتجعل حتى بعض الأماكن الخصبة غير مضمونة وخطرة. فمثلاً، في عام 2008م فاض نهر المسيسيبي في الولايات المتحدة قبل موسم الحصاد مخلفاً خسارة مالية قُدِّرت بثمانية مليارات دولار أمريكي. كذلك، زيادة الحرارة على سطح الأرض جعلت بعض أعداء المحاصيل كالأعشاب الضارة والآفات والفطريات تنتعش، لأنها تفضّل الدفء.

• توفير الماء:
الموارد المائية معرَّضة للشُّح ويمكن أن تتصارع عليها الأمم مستقبلاً، فضلاً عن أن %70 من الاستهلاك البشري للماء العذب يذهب للزراعة، وهو رقمٌ هائل يزيد ضعفين عن استخدام الصناعة له (%23) وأكثر من استخدامنا البلدي له – أي في المنازل – بسبعة أضعاف (%8). كثير من هذا الماء يضيع بلا طائل متسرباً من أنابيب شبكات النقل. والماء العذب محدود، وكبرى الدول المنتجة للطعام مثل الصين والولايات المتحدة والهند وباكستان وإسبانيا وأستراليا وصلت مخزوناتها من المياه الجوفية إلى مستويات متدنية مقلقة.

• حماية البيئة:
الزراعة بطريقتها الحالية ملوِّثة للبيئة، بما فيها من مبيدات للزرع، ومخصِّبات، ووقود للشاحنات والمولدات والأجهزة، وكهرباء للإنارة والتبريد والتدفئة، وانبعاثات الغازات مثل الميثان وثاني أكسيد الكربون، وهو شرُّها.

• القدرة:
لدينا الآن القدرة لأن نطوِّر الزراعة لتدخل عصراً جديداً لم يكن الأسبقون يقدرون عليه، فالزراعة تحت الأرض تتطلب تقنيات متخصصة ومتطورة. وبناءً على ما سبق، فقد أضحت هذه القدرة أداةً ضرورية نحافظ بها على استمرارية الغذاء والمحاصيل الزراعية.

gu4_1قبو الماضي يحوي عِلم المستقبل
في أحد الشوارع في جنوب لندن قريباً من قلب العاصمة، يبدو المشهد عادياً: شارع صاخب، محطة مترو، الناس تمشي لحاجاتها، لا شيء خارج المعتاد. لكن أسفل هذا الشارع بثلاثين متراً هناك شيءٌ غير متوقع: مزرعة! افتُتِحَت أول مزرعة تحت الأرض في لندن في منتصف عام 2015م، واختارت شركة «غروينغ أندرغراوند» (Growing Underground) ملجأً كبيراً قديماً من أيام الحرب العالمية الثانية، فاتخذته مزرعة تحت أرضية. تبلغ مساحة هذه المزرعة 167 متراً مربعاً ومن الطبيعي ألَّا تصل أشعة الشمس إلى هذا المكان. وهذه من العقبات التي اجتازها العلم بأن جعل النباتات هناك تعيش على ضوءٍ صناعي. والطريف هنا أن من أسباب العمل على هذا المشروع، هو أن أحد المؤسسين طباخ، وقصد أصلاً من المشروع أن يزوِّد مطعمه بالمحاصيل الطازجة! والجيد في الأمر أن موقع المزرعة يتيح له أن يحصل على الخضار المطلوبة بسرعة، فتخرج من المزرعة إلى المطعم مباشرة.

لم تكن هذه أول تجربة للزراعة تحت الأرضية، فالفكرة كانت تجول في الخواطر من قبل، لكن تحويلها إلى حقيقة احتاج وقتاً. فقد طُبِّقَت في اليابان في عام 2005م في قبو كان خزانة لأحد البنوك وزُرِع فيه الخس والطماطم والفراولة والأرز. ومن التجارب التي سبقت مشروع لندن، ما فعله علماء من جامعة بوردو في ولاية إنديانا الأمريكية، الذين زرعوا الذرة التي تشتهر بها ولاية إنديانا، لكن هذه المرة في منجم مهجور أسفل الأرض، واكتمل زرع وحصاد الذرة في وقت أقل من المعتاد وبكمية أكبر، وكانت النتيجة أفضل حتى من الذرة التي زُرعت في مشاتل ومحميات الجامعة.

بعض النباتات التي تعرَّضت للضوء الأحمر فقط صارت أسرع نمواً من النباتات التي عُرِّضَت لألوان أخرى

زراعة تحت الأرض؟ كيف؟!
اعتدنا أن نُعَرِّف الزراعة أنها قائمة على التربة والشمس والماء. لكن الزراعة تحت الأرض استطاعت أن تستغني عن العنصرين الأولين، واستطاع العلم إحلال بدائل مكانهما. أما التراب فيمكن استخدام أساليب الزراعة في الماء (Hydroponics) حيث تُزرع النباتات بدون تربة في مياه أذيبت فيها بعض المواد المغذية. وضوء الشّمس يُستبدل به الضوء الصناعي الذي يمكن تغيير لونه وقوته، وهذان عنصران لهما تأثير، فقد لوحظ مثلاً أن بعض النباتات التي تعرَّضت للضوء الأحمر فقط صارت أسرع نمواً من النباتات التي عُرِّضَت لألوان أخرى. ولتغيير قوة الضوء تأثير أيضاً على نمو واكتمال عمر المحاصيل. أما الماء فهو أصل الحياة ولا بديل له، إنما يمكن تطوير استخدامه بالترشيد وكذلك بمعالجة المياه المستعملة.

لا مشكلة! لا مشكلات!
إن الزراعة تحت الأرض تحل كثيراً من المشكلات التي تعاني منها الزراعة التقليدية وكذلك المشكلات التي تتسبب بها تلك الزراعة، كما أنها تتمتع بمزاياها الخاصة، ومنها:

• الاستمرارية:
فهي لا تخضع لموسميّة الزراعة العادية، بل يمكن تنمية المحاصيل طوال السنة بلا توقف وبغض النظر عن الفصول وأحوال الطقس.

• المساحة:
توفر مساحات جوفية كثيرة غير مستغلة حالياً، وقابلية استحداث مزيد منها بتكلفة معقولة.

page 23• التحكم والثبات:
كل شيء على ظاهر الكوكب يخضع للعوامل الطبيعية، فالشمس والماء والهواء من العوامل التي تغيِّر كل شيء باستمرار، سواءً أكان طلاء السيارة أو جدار البيت أو حياة الغابة أو حتى بشرة الناس. لكن أسفل الأرض هو بمنأى إلى درجة كبيرة عن هذه العوامل القاهرة، ومن الممكن السيطرة على العوامل المؤثرة فيه كالضوء والغازات الضرورية والحرارة الثابتة المناسبة. كما يمكن التحكم وراثياً بالمحاصيل، وهذا ما حصل في تجربة جامعة بوردو المذكورة بالأعلى، ذلك أن محصولها من الذرة حوى مورّثاً ينتج بروتيناً يقتل يرقات حشرة النقّابة الأوروبية، وهي من الآفات التي تضر محاصيل الذرة. فباطن الأرض يحتضن اللاجئ إليه أفضل من السطح، وعند حصول كوارث طبيعية كالأعاصير ورماد البراكين أو حتى مؤثرات كالعواصف الرملية، فإن أسفل الأرض يحمي منها. ويمكن للمزرعة تحت الأرضية أن تظل طول سنين في حرارة ثابتة وتروية مستمرة وضوء محسوب بدقة مهما جرى على سطح الأرض من تقلبات واضطرابات طبيعية أو بشرية.

x5-led-grow-light• مراعاة البيئة والصحة:
ركّزت تجربة جامعة بوردو على النتيجة أكثر من العملية كاملة، لذلك لم يكن هناك تركيز على الأثر البيئي كما حصل في مشروع لندن بعدها بعشر سنين. فشركة «غروينغ أندرغراوند» جعلت من أُسس البرنامج الحفاظ على البيئة واستخدام مصادر طاقة نظيفة، ففي هذا المشروع كانت البيئة خالية تماماً من الآفات الزراعية، وبالتالي لم تكن هناك حاجة لاستخدام المبيدات. ومعلوم أن المحاصيل التي تتلوث بالمبيدات تتسبَّب بمشكلة حقيقية، خاصة في الدول النامية. ويزداد خطرها على من يتعاملون مباشرة مع المحاصيل، مسببةً أمراضاً للمناعة، وأخرى عقلية وتناسلية وحتى سرطانية، بل إن المبيدات تؤثر ليس على البشر فقط بل على الحياة التي حولها كلها، فالانقراض الجزئي والاختلال في التوازن بين الكائنات الفطرية بسبب تعرضها للمبيدات ظاهرة معروفة. فضلاً عن تشبع التربة والماء بالسموم لسنوات طويلة حتى بعد التوقف عن زراعة الأرض.

• الماء:
كما سَلَف فإن استهلاك الماء هائل في الزراعة، لكن الواعد أن مشروع لندن استطاع إنتاج محاصيله بكمية ماء أقل بسبعين في المائة من الكمية المستخدمة في العادة!

من أسباب العمل على هذا المشروع هو أن أحد المؤسسين طباخ، وقصد أن يزوّد مطعمه بالمحاصيل

الزراعة والاقتصاد
الآثار الاقتصادية للزراعة تحت الأرض كبيرة ملحوظة. فقد صار من الممكن تقليل التكاليف الزراعية عبر تحسين استخدام الماء. فقد أظهر مشروع لندن أن بإمكاننا تقليل استخدام الماء العذب بنسبة الضعفين على الأقل. وربما يجد العلم طرقاً لتقليل هذه النسبة أكثر مستقبلاً. أيضاً يمكن استخدام مصادر متجدِّدة مثل مياه الصرف المعالجة دون المساس بالماء العذب الذي يمكن أن يوجّه للشرب وأغراض أخرى غير زراعية.

كما أن تقليل المبيدات يظل هاجساً. فسوق المبيدات ضخم. وفي عام 2011م قُدِّرَ حجم السوق العالمي بسبعة وثلاثين مليار دولار، وهو لا يزداد إلا نمواً، ويتوقع الباحثون أن يفوق حجم السوق 65 مليار دولار بحلول عام 2017م. والزراعة تحت الأرض ستوفر الكثير على المجتمعات التي تنفق على المبيدات.

ومن المهم كذلك أن نلتفت إلى ضرورة الحفاظ على التربة. فالأراضي الطبيعية مورد ثمين، لكن استبعاد التراب واستخدام مواد أخرى سيحفظ التربة ويوفر ثمن الأجهزة التي يتطلبها استصلاح الأراضي الترابية كأنظمة الري الضخمة.

إلى ذلك، فإن الدول التي لا تحظى بأراضٍ زراعية خصبة، فستتمكن بفضل هذا التوجه من إنشاء رقاع مترامية الأطراف صالحة للزراعة باستخدام تقنيات الزراعة تحت الأرض، ولو طَبقت هذه الدول الزراعة تحت الأرضية على نطاق واسع فستتمكن من أن تجعل الزراعة من مصادر الدخل لاقتصادها، وسيمكّنها هذا من تقليل واردات المحاصيل الزراعية والاعتماد على نفسها لمحاولة الوصول إلى درجة من الاكتفاء الذاتي.

fushia-lightمشروع لندن تحديداً بدأ بأهداف متواضعة، لكنه سرعان ما تحوَّل إلى شركة تجارية تبيع المحاصيل المزروعة تحت أرض لندن مباشرة للأسواق والمستهلكين. وهذا سيغيّر وجهاً ظل ثابتاً فترة طويلة وهو إمكانية الاستغناء عن وسيط النقل والتغليف والشحن والتوزيع بين المزارع والمستهلك، فيمكن تبسيط العملية الآن وتقليل الخطوات التي تتسلسل بين بداية العملية (زرْعُ المزارع البذرة) وصولاً إلى أكل المستهلك لطبق السلطة. ولعل الزراعة تحت الأرض تفتح باباً جديداً للتجارة الزراعية بحيث لا تظل حكراً على الشركات أو الأسواق، خاصة إذا قلّت تكاليف التأسيس على مرِّ الزمن وبُسّطت العملية للشخص العادي، فيقدر الأفراد أن يزرعوا في أقبيتهم وبيوتهم بالمبادئ نفسها التي تعتمد عليها الزراعة تحت الأرضية ويتّخذوا من الزراعة مصدر دخلٍ جديد وغير متوقع، أو حتى أن يتناول المرء ما تزرعه يده فيقلل تكاليف شراء الخضار والفواكه.

أخيراً جدير بالذكر أن الزراعة المستمرة خلال السنة يمكن أن تحمي المستهلك من تقلبات السوق وأسعارها.

فهل الزراعة تحت الأرض هي المستقبل؟ ما زالت التقنية في مهدها ولم تُطبّق على نطاق واسع. غير أن النداءات بدأت تعلو وتزيد لاعتماد طرق زراعية بديلة ومنها الزراعة تحت الأرض. وإذا استطاعت الزراعة تحت الأرض أن تتلافى مشكلات الزراعة التقليدية المذكورة ومخاطر التعديل الوراثي فإن هذا يبشّر بتطويرها على نطاق واسع وإدخالها عصراً جديداً ينعش اقتصاد أمم كثيرة ويحسّن الحياة البشرية.

أضف تعليق

التعليقات