ظهرت طريقة إدارة المشاريع عبر الاستعانة بشبكات الأعمال كحل لتعقيدات البيئة العملية التي أصبحت تميز عديداً من المشاريع المتوسطة الحجم والكبيرة. يحدث ذلك في عالم الأعمال الذي أصبح يتسم أكثر وأكثر مع مرور الأيام بالتنافس الشديد والتداخل الواضح بين مجالاته وزوال الحدود بين الدول وارتكاز الأعمال والمشاريع على المصالح المشتركة بين الأطراف، إضافة إلى اضمحلال السوق بمفهومه الضيق المحلي وتحوله إلى مساحة متاحة للجميع بفعل العولمة وسياسة السوق العالمية المنفتحه.
تشهد المملكة بفعل الطفرة الاقتصادية الكبيرة التي تعيشها، حالة من إعادة إنشاء تنموي يعمل على الأخذ بالبلاد إلى القرن الواحد والعشرين وفق أرقى الأسس العلمية والإدارية والتنموية والبشرية، بحيث تعمل على نقل الفرد السعودي إلى مستقبله المفعم عملاً وجدية وتطوراً في جميع المجالات الفكرية والمهنية والاجتماعية. وهو الأمر الذي دعا الدولة إلى إطلاق عديد من المشاريع العملاقة التي تركز على تحديث البنى التحتية لمستقبل الأجيال. فبدأت، مثلاً، مشاريع الطرق التي تربط بين المدن إما من خلال مد الطرق السريعة التقليدية أو من خلال مشاريع القطارات والأنفاق والمطارات المحلية والإقليمية الدولية الممتدة في سائر المدن السعودية.
ومع الانفتاح الكبير في وسائل الإعلام وخلق آليات شفافة في رقابة العمل الحكومي كان لزاماً على القائمين على المشاريع الحكومية والخاصة والمرتبطة تحديداً بالفرد السعودي وخدمته أن يأخذوا بعين الاعتبار جانب الجودة وسرعة التنفيذ والسعر المناسب في المزيج العملي والإنتاجي، فبدأت تلك الجهات تنظر إلى أفضل الطرق وأسرع الوسائل وأجودها والجهات القادرة على التسليم وفقها ضمن الشروط الفنية المطلوبة التي تضع في عين الاعتبار توازن المكوِّنات الثلاثة الرئيسة (الجودة والسعر ووقت التسليم).
إدارة المشاريع
تُعرَّف إدارة المشاريع بأنها نمط العمل الذي من خلاله يتم تنظيم الموارد البشرية والفنية وإدارتها وفق الأسس التي من خلالها يتم إنجاز المشروع والالتزام بالمضامين المحددة سلفاً، واضعة في عين الاعتبار، كما أوضحنا، توازن المكونات الثلاثة سالفة الذكر. وعليه فإدارة المشروع مرتبطة أساساً بوقت محدد أي له تاريخ بداية وتاريخ نهاية من أجل تقديم خدمة معينة أو منتج ملموس بهدف إحداث تغيير محدد أو تقديم قيمة مضافة.
ومن التعريفات المتداولة في إدارة المشاريع ما قاله هيرسون أن المشروع هو «أي سلسلة من النشاطات أو المهام التي لها أهداف محددة، يجب أن تنجز ضمن مواصفات محددة ولها بداية ونهاية محددتان، ولها تمويل وتستعمل مصادر مختلفة من الأموال والوقت والمعدات والأعمال». وعرَّفه ليش وتيرز بأنه «وحدة استثمار صناعي جديدة لها بعض المعالم المميزة أو المتفردة وذلك من خلال تناغم الوقت والتكلفة».
فمن المعروف أن المشروع يمر بدورة تسمى «دورة حياة المشروع»، وتتضمن خمس مراحل رئيسة هي: المرحلة الأولى: التأسيس ووضع الإطار النظري العام للمشروع. المرحلة الثانية: التخطيط وهي مرحلة تأخذ بعين الاعتبار جميع المتطلبات البشرية والفنية والتشغليلة والمالية المتعلقة بتنفيذ المشروع. المرحلة الثالثة: التنفيذ التي تتحول فيها جميع الخطط والدراسات إلى واقع ملموس يمكن قياس ومراقبة قيمته المضافة. المرحلة الرابعة: المراقبة والتحكم لضمان التزام المخرجات بما تم تحديده في مرحلة التخطيط ووفق الأسس التي وضعت. المرحلة الخامسة: انتهاء المشروع وتسليمه للعميل بالشكل المناسب ووفق الجودة والسعر والوقت المحدد والمتفق عليه.
وضمن هذه العملية المعقدة والمتناسقة يجب أن تكون هناك هيكلة واضحة للمشروع. وجدولة لأعماله ونشاطاته الفردية والجماعية. بحيث يتم تقسيم العمل وفق المتاح، على أن يتم أثناء سير المشروع إجراء التعديلات اللازمة التي تحتمها الظروف التي تطرأ، ولها تأثير على مسار العمل بحيث يمكن الاستمرار بالعمل بالشكل الصحيح وفق الأهداف المحددة له في المشروع.
إذاً، وبناء على هذا التفصيل الخاص بالأسس التي تُبنى عليها المشاريع، يتضح لدينا أن المجهودات المتعلقة بإنجاز العمل تتطلب عديداً من المصادر الفنية والبشرية والتشغيلية التي تتوزع على تخصصات مهنية عديدة منها المرتبط بالتنفيذ المكيانيكي ومنها المعني بالجانب الإداري ومنها المرتكز على الأعمال الفنية والاستشارية، وهي مكوِّنات يصعب وجودها تحت مظله مؤسساتية واحدة باستثناء الشركات العملاقة، التي غالباً ما ينحصر عملها في مشاريع معيَّنة مستمرة، كما هو الحال في المؤسسات الرائدة في مجال النفط أو البناء الدولية.
نسيج الشبكة من مصادر خارجية
إن الأغلبية العظمى من تلك المؤسسات وغيرها من الشركات الكبيرة والمتوسطة والصغيرة التي تعمل في مجال خدمة العملاء والمشاريع، تعتمد بتفاوت على مصادر خارجية تعينها في جوانب معينة على أداء أعمالها المناطة بشكل يتناسب مع المواصفات والمقاييس المطلوبة من قبل العميل، وذلك بهدف تقليل التكاليف وضمان التخصص وبالتالي إجادة المخرج وسرعة التنفيذ وتسليم يتطابق مع الجداول المحددة.
لذلك نجد أن مصطلح «شبكات الأعمال» ظهر ليشرح بشكل واضح الآلية التي تم ابتكارها لتحقيق ذلك التكامل المطلوب في خلق طواقم من الكوادر البشرية والتشغيلية والفنية التي تعمل مع بعضها لإنجاز المشروع، معتمدة أساساً على قوة كل طرف وتخصصه، وبالتالي اعتباره ترسانة حقيقية لأصحاب الأعمال ومتعهدي المشاريع يستعينون بها من أجل تحقيق أهدافهم التجارية والربحية المنشودة.
وعليه، يمكن تعريف نمط (شبكات الأعمال) بأنها «العملية التي تنفذ فيها المشاريع عبر تبادل الموارد والخبرات بين أكثر من طرف وذلك بهدف تحقيق منفعة مشتركة».
وللتأكد من جدوى هذه الشبكات، فإنه من المهم أن يحرص أطراف الشبكة في مرحلة تأسيسهم لشبكة أعمالهم على تكوين انطباع جيد تجاه الآخر ومنذ الوهلة الأولى. فالانطباع الأول دائماً ما يكون الأهم، واللقاء المباشر الأول دائماً ما يكون هو الأساس الذي من خلاله تُبنى العلاقة المستقبلية بين الأطراف وتؤسس الثقة. كما أن التفاعل والتفاهم ومحاولة اكتشاف قوة الطرف المقابل وضعفه، تُعد أساسية في تلك المرحلة، مع الحرص على الابتعاد قدر المستطاع عن الحديث عن النفس بزهو وافتخار مبالغ وبعيد عن صلب التخصص. فذلك غالباً ما يخلق شعوراً لدى الطرف الآخر بالفوقية التي يصعب التعاطي معها في مجال العمل والأعمال.
هذه الأسس الشخصية والمهنية تُعد أساسية في بناء العلاقات والشبكات، وذلك لكونها النواة التي من خلالها يستطيع صاحب الأعمال أن يبني ترسانته من العلاقات المهنية والشراكات الفنية والتحالفات التخصصية. فخلق شبكة أعمال متوازنة ومتكاملة تعتمد على مكوّنات متوافقة ومكمِّلة لبعضها ومتناغمة في مسار تحقيق الأهداف المشتركة.
ولا شك في أن الميزة التنافسية أصبحت اليوم أهم ما ينظر إليه صاحب المشروع نظراً لاتساع السوق وتنوع العرض وتزايده. لذلك، فإن الشركة التي تسعى للدخول كمنافس قوي في المشاريع يجب أن يكون لديها قيمة تنافسية تمكنها من الوقوف أمام الشركات الأخرى بشكل يجعل صاحب العمل يتلمَّس القدرة على تقديم المطلوب والإنجاز. وهو تماماً ما يوفره نمط العمل بشبكات الأعمال التي تعمل وفق هذا النمط والتي تتميز بقدرتها على تغيير طريقة أدائها وعملها، الذي في الغالب يعتمد على إمكانات محدودة، إلى نمط يتسم بالديناميكية والمرونة.
أنماط التعاون والتحالف
هناك عديد من أشكال وأنواع شبكات الأعمال التي قد تستعين بها الشركات للاستفادة من مزيجها وذلك حسب الحاجة وحسب طبيعة المشروع وحسب السوق الذي تعمل به الشركة والمجال الذي تعمل به.
فمن أكثر الأشكال استخداماً في هذا المجال ما يمكن تسميته بـ «نمط التعاون»، حيث نجد شركة تتفق مع شركة أخرى تعمل في مجال مرتبط بمجالها، ولكنها تتخصص في جانب فرعي منه بحيث تقوم الشركة بالتعاقد مع تلك الشركة المتخصصة بتوفير الدعم التقني والفني في ذلك المجال المتخصص، وبأسعار تنافسية خاصة بها لا توفرها للغير، وذلك مقابل إعطائها الأولوية أو الحصرية في تنفيذ جميع أعمالها ضمن ذلك التخصص ولمدة معيَّنة أو في سوق معيَّن أو في قطاع معيَّن.
وغالباً ما يستمر هذا النوع من التعاون لسنوات، نظراً للمصلحة المشتركة بين الطرفين وللتفاهم الذي تخلقه الظروف والتعاون المثمر بينهما، وهو الأمر الذي قد يجعل بعض الشركات ومع مرور الوقت تسعى للاستحواذ على تلك الشركة المتخصصة في حال تبين لها أنها أصبحت جزءاً لا يتجزأ من التركيبة التشغيلية، وأن ضمها تحت غطائها يوفر لها ميزة تنافسية أكبر.
كما أن هناك نمطاً يمكن تسميته بـ «التحالف»، وهو الذي يتم عبر الاتفاق بين طرفين على تقديم عرض مشترك بين الطرفين للحصول على مشروع معيَّن، وهو على خلاف نمط «التعاون» يكون عبر بروز هوية الشركتين باعتبارهما مستقلتين أمام صاحب العمل، ولكنهما متحالفتان في تقديم عرضهما المالي والتنفيذي لتحقيق الهدف المحدد من قبله.
وفي الغالب، تكون الشركتان المتحالفتان متساويتين في الحجم أو بالإمكانات. ويُعد تحالفهما هذا ميزة تنافسية على اعتبار القيمة المضافة التي يقدمانها مع بعضهما نتيجة قوتهما في مجالاتهما. وهو نمط غالباً ما يتم تطبيقه في المشاريع الضخمة التي تتطلب إمكانات بشرية وفنية وإدارية عالية وتاريخاً طويلاً من النجاحات. ونجد هذا النمط مطبقاً بشكل لافت في المشاريع الضخمة التي إما تملكها أو تديرها الدولة أو المشاريع التي تديرها مؤسسات دولية أو عابرة القارات.
الأنماط الإقليمية والفردية
ومن أكثر الأنماط المستخدمه من قبل الشركات المتوسطة والصغيرة أو الناشئة هي تلك التي يمكن تسميتها بـ «الإقليمية»، وهي تلك التي توزع كوادرها وإمكاناتها البشرية والفنية على مكاتب متفرقة من أرض الوطن أو في دول إقليمية أو قريبة، يتميز أبناؤها بجودة العمل في مجالات معيَّنة. وهذا ما نراه في مجال الإعلام الذي نجد عديداً من مؤسساته يفتتح مكاتب إقليمية مخصصة لأعمال الترجمة أو التصميم أو التحرير… ففي ظل عالم يعتمد فيه التواصل على شبكة الإنترنت فإن الاستعانة بتلك الكوادر التي غالباً ما تكون تكلفتها منخفضة ومتخصصة وذات جودة عالية يجعل تسليم المتطلبات المحددة من قبل العميل أو صاحب العمل متوافقاً مع الأسس الفنية والمالية المحددة، وبالتالي يتم تحقيق المطلوب بأسهل و أرخص الطرق.
غالباً ما يكون نمط «الشبكة» مصدراً ممتازاً للحصول على أعمال متخصصة دون الحاجة إلى السعي كثيراً. فهناك كثير من الشبكات الدولية المتخصصة المنتشرة في مجالات أعمال معيَّنة يتعاون فيها أطرافها في تنفيذ مشاريع معيَّنة. وإن كان هذا النمط يتشابه مع نمط «التعاون» من حيث الطريقة إلا أنه يختلف من حيث الآلية، باعتبار أن العمل يكون ضمن شبكة كبيرة مغلقة من الشركات وفي أسواق مختلفة وفي مناطق جغرافية متباعدة، ويكون التعاون فيما بينها بناء على أفضل العروض المقدمة من أطراف مختلفة تعمل في السوق نفسه والموقع الجغرافي المحدد ووفق الشروط المحددة من الطالب، فلا حصرية أو ضمان لأحد ضمن هذا النمط على اعتبار أنها شبكة كبيرة من المنافسين والموردين.
وأخيراً، هناك نمط «الأفراد»، وهو النمط الذي غالباً ما تتم الاستعانة به في المشاريع التي تتطلب استشاريين متخصصين في مجالات معيَّنة يعملون في مؤسسات دولية أو إقليمية خاصة أو رسمية، حيث يتم التعاقد معهم بناء على ما يعرف عنهم من تميّز وتمكّن في هذا المجال أو ذاك بهدف تقديم خدمات استشارية أو إشرافية أو توجيهية لمشروع معيَّن دون الحاجة لتوظيفهم بدوام كامل.
ولا بد من الانتباه في هذا النمط من الأعمال بأن لا يكون هناك تضارب مصالح بين الاستعانة بذلك الاستشاري وما بين صاحب العمل. فيجب ألَّا يعمل ذلك الاستشاري مثلاً في شركة منافسة، فذلك من الناحية الأخلاقية يعد خروجاً وتجاوزاً غير مقبول قد يدخل في خانة الفساد أو التحايل أو الخروج على أسس المهنية والاحترافية للتعاقد.
لا شك في أن أنماط شبكات الأعمال تبقى عالماً واسعاً من التجدد والتنوع والابتكار. لذا يصعب جداً تحديد كل الأنواع والأشكال المطبقة. فهناك أنماط قد لا تتناسب مع طبيعة أسواق بعينها، وقد لا يتوافق بعضها الآخر مع أسوق أخرى، إضافة إلى أن أنماط شبكات الأعمال ما زالت تتكون وتتشكل مع تشكل وتطور الأسواق العالمية والانفتاح الذي تشهده الأسواق والدول فيما بينها. إلا أنها من حيث البُنى والأهداف تبقى مرتكزة إلى أساس التكامل والتعاون بين المؤسسات، والاستعانة بالإمكانات والقدرات التي يوفرها السوق بمكوناته البشرية والمؤسساتية. ومن المؤكد أنه مع مرور الأيام، ستظهر أنماط أخرى تتوافق مع متطلبات الأسواق العالمية والمحلية