قضية العدد

سيد الحوار المحاور الخفي

  • 26e
  • 26b
  • 26c
  • 26d

منتديات الحوار تسرق الرأي من صحافة الورق
أصبحت المنتديات الإلكترونية جزءاً مهماً من الحياة اليومية في المجتمع السعودي، بعدما أسست لنفسها وسطاً تفاعلياً لم يكن متوقعاً حتى سنواتٍ قليلة.
وما يجري، حالياً، في ردهات الإنترنت يكاد يفوق قدرة المجتمع على الاستيعاب؛ ذلك أنه خاض التجربة من دون أي تمهيد كافٍ، وصار يمارس الحوار الإلكتروني على نحوٍ يحمل بشارات كثيرة على مستوى التواصل والتقارب، ويحمل، أيضاً، تحديات جدِّية على مستوى صناعة الوعي، وثقافة الاختلاف، وحدود الحرية..
الزميل حبيب محمود تصفّح عدداً من منتديات الحوار السعودية، وخرج بعدد من الإشارات..

في طريق غوغل الطويل؛ كان البحث جارياً عن كلمة عربية واحدة؛ هي منتدى . ومحرك بحث عنكبوتي مثل غوغل بإمكانه أن يختزل العالم في ثوانٍ محدودة. وهذا ما حدث بالفعل؛ ففي أقل من عُشر دقيقة واحدة قدّم محرك البحث مليوناً وعشرة آلاف رابط في شبكة الإنترنت يحمل هذه الكلمة..! وهذا العدد يتزايد يوماً بعد يوم.

في هذا العدد الهائل من الروابط تختبئ آلاف الأفكار والمعلومات والمواقف والحزازات والنعرات، الصغيرة والخطيرة. وتتفاعل لوحات المفاتيح مع مئات الآلاف من الأشخاص الذين هيأت لهم تقنية الاتصالات والإنترنت وسائل ما كانت تخطر ببال أحد منهم حتى قبل عقد من الزمن..!

وفي وسط مثل الشبكة العنكبوتية ينعدم ما يُمكن تسميته مكاناً ؛ إذ لا مكان في هذا العالم الرقمي الذي شطب كل ما عرفته البشرية عن المسافات والأقاليم والبلدان.. لقد أصبحت كل المواقع متداخلة حد انعدام التمييز بين شرقي الأرض وغربيها..!

من المجانين.. إلى المجاريح..!
من كلمة منتدى تتفرع وتتشعب المداخل والطرقات على ذلك النحو الذي لا يحترم الدهشة، إذ سرعان ما تنطفيء الدهشة الأولى بدهشة ثانية، ومن ثم دهشة ثالثة، فرابعة، ويتحوّل التجول والبحث إلى سلسلة من المفاجآت المثيرة للضحك.. وللبكاء..!

مجانين نت .. هذا اسم منتدى..! لا تندهش؛ فهناك منتدى منافس اسمه مجانين كوم ..! والقصة لا تنتهي عند المجانين المعترفين بجنونهم؛ فهناك مجاريح هائمون في منتداهم.. هناك أيضاً هائمون في عشق السراب ، و أرض الأحلام . وكم هو مثير للتساؤل حين يعترض طريقك منتدى شلة بنات ، ثم تحملق عينيك في عدد الأعضاء المتواصلين في هذا المنتدى.. إنهم بالآلاف.. والموضوعات التي تناولها المنتدى تناهز العشرات من الآلاف، والكتابات التفاعلية بلغت أضعاف ذلك. لكن شلة بنات مليء بآلاف الأعضاء الذكور الذين يسرحون ويمرحون في حمى الموقع المخصص للفتيات..!!

برنامج تفاعلي
تُصنّف المنتديات الإلكترونية ضمن برامج الإنترنت التفاعلية التي يمكن استخدامها بواسطة متصفح الإنترنت العادي. ولذلك فهي متاحة لكل شخص يجيد الاتصال بالإنترنت. ومن المعروف أن البريد الإلكتروني يمثل خدمة تفاعلية تتم بين المتراسلين. كما أن برامج الحوار المباشر Chat خدمة تفاعلية أخرى، تتم مباشرة بين مجموعات، أو أفراد ضمن مستويات متفاوتة من الخصوصية.

والمجموعات البريدية خدمة متطورة عن البريد الإلكتروني، فعبرها يتم إرسال أكبر عدد ممكن من الرسائل إلى أشخاص مشتركين آلياً.

لكن المنتديات تتميز عن هذه الخدمات بعدد من المزايا الفنية. فالمنتدى، في الأصل، هو موقع شبكي مثله مثل أي موقع آخر، يحمل عنواناً نمطياً كبقية مواقع الإنترنت، ويمكن تصفحه كأي موقع. ويتم تحميل برنامج المنتدى عليه، وتتفرع منه وصلات تبويبٍ مصنّفة حسب رغبة صاحب المنتدى. وعلى الرغم من أن صاحب المنتدى يبقى المتحكم الأول في موقعه؛ فإن تشغيل المنتدى يتم، فعلياً، بواسطة الأعضاء المشتركين. فهم، بدورهم، يكتبون الموضوعات ويضيفون عليها معلوماتهم وآراءهم وانطباعاتهم. وعلى هذه الممارسة يتم التحاور والتفاعل.

وبما أن المنتدى موقع نمطي أصلاً؛ فإن كل ما يُكتب فيه يبقى متاحاً للقراءة والطباعة والتوثيق لكل زوار الموقع. كما يمكن البحث عن أي موضوع في الموقع واستخراجه ما لم يتم حذفه من قبل صاحب المنتدى. وهذا يعني أن السيطرة على ما تنشره المنتديات هي رهنٌ لمسؤولية صاحب الموقع. وقد درجت العادة على أن يستعين صاحب الموقع بفريقٍ من المشرفين يعطيهم صلاحياتٍ متفاوتة، فهناك مشرفون لديهم صلاحية التحرير والتعديل فيما ينشره الأعضاء، وهناك مشرفون يملكون صلاحية حذف الموضوعات أيضاً، وهناك مشرفون بإمكانهم التطفل على الأعضاء أنفسهم ومراقبة خصوصياتهم المرتبطة بعضوياتهم. وهكذا تتفاوت الصلاحيات بتفاوت مستويات المشرفين الذين هم، أصلاً، أعضاء في المنتدى تتم ترقيتهم بناءً على درجة نشاطهم وتفاعلهم مع الموقع.

لعبة أسماء..!
المشكلة الأشدّ خطورة في المنتديات هي مشكلة العضوية. فعضوية أي منتدى لا تتطلب، في الغالب، أكثر من أن يكون لدى طالب العضوية بريد إلكتروني، وعلى أساسه يقوم بتسجيل اسم خاص به، وبعد إجراءٍ اعتيادي سريع يُصبح عضواً، كبقية الأعضاء، بإمكانه كتابة الموضوعات والتعليق على موضوعات غيره وتدوين ما يريد.

إن أي شخص يستطيع أن يطلق على نفسه ما يحلو له: اسمه الحقيقي، أو عنترة بن شداد، أو سمكة قرش، أو طالب القرب، أو طه حسين، أو أبا نوّاف.. وغالباً لا يكون هناك فرق بين أن يكون العضو صفة أو طرفة أو اسماً أو حيواناً أو زهرة ليلك..!

لا يتوقف أمر العضوية على اسم أو اسمين.. هناك فرصة لعشرات الأسماء. قد يتخذ شخص ما اسماً لعضوية رئيسة، ثم يسجل مجدداً اسم عضوية أخرى مختلفة احتياطية، ورابعة.. وخامسة.. وعاشرة..!

بالطبع؛ تبدو المسألة كما لو كانت لعبة يديرها شخص واحد عبر عدد من الأسماء الإلكترونية، ولكل اسم واجهة وأسلوب وطريقة. ناهيك عن ذلك فرص إثارة القضايا والموضوعات، على درجاتها، من قبل شخص واحد، ولكن من وجهات نظر مختلفة..!

في الصفحات الأدبية، مثلاً، يكتب زيدٌ قصة قصيرة، وبعد يوم يعلق عليه عمرو تعليقاً يشيد فيه بالقصة الرائعة . وبعد ساعات يكتب خالد قراءة نقدية للقصة. ثم يتلوه عابر سبيل ليضيف مديحاً على المديح. وما تمرّ أيامٌ حتى تتحوّل صفحة القصة القصيرة إلى مساجلة ومزايدة على أهمية النص وبنيته وجمالياته ومضمونه الكبير..! ولكن الحقيقة المضحكة هي أن عمرو و خالد و عابر سبيل هُم زيد نفسه.. صاحب القصة..!!

ما فعله زيد مع قصته يمكن أن يفعله أي عضو مع أي موضوع. ففي الصفحات السياسية ينبش عضو ما قضية شائكة، فتشتعل الصفحة تعليقات واعتراضات ومزايدات ومراهنات.. في النهاية يظهر أن نصف الأعضاء المتناحرين إنما هم شخص واحد ساند نفسه بأسماء عضويات أخرى..!!

محاور خفي..!
في وسط كهذا ينفتح المجال على كل شيء ويتخطى المتوقَّع. والعودة إلى روابط غوغل تقود إلى قراءة واقع ما يجري في المنتديات. ويمكن تلخيص هذا الواقع بأنه واقع المحاور الخفي الذي يقول ما يريد في أي وقت يريد..!

المحاور الخفي هذا قد يأتي من أي مكان من العالم.. قد يدخل الموقع ويستخدم عضويته، وقد يلصق بياناً سياسياً لمجموعة إرهابية ما، وقد يحمّل مقطع فيديو لذبح رهينة، أو يسجل مطالب سياسية من إحدى الحكومات..!

قبل عقود كان المجرمون والإرهابيون يوجهون تهديداتهم ويُملون مطالبهم من خلال هواتف العملة أوالرسائل الورقية. التهديدات والإملاءات يتلقاها أشخاص معدودون، وغالباً ما يكونون ذوو الضحايا. ولا يمكن مقارنة ذلك بما تتيحه تقنية الإنترنت لمجرمي اليوم.. ورجال الأمن أيضاً..!

والمنتديات هي ملتقى الجميع بالطبع، وما يحدث هو أن كل نية ورغبة وموقف يمكن التعبير عنه عبر لوحة مفاتيح صغيرة. ويبقى الفارق واضحاً بين الخير والشر مهما تطوّرت الوسيلة..!!

التجربة السعودية..!
في مجتمع، مثل مجتمع المملكة، يمكن التقاط الكثير من الإشارات التي أوجدتها منتديات الإنترنت. إنها – ببساطة – نوعٌ من الانفجار في التواصل يعبّر عنه تكاثر وتوالد المواقع الحوارية السعودية على نحو متسارع وخارج عن المتابعة.. وبالتالي عن السيطرة..!

صفة الانفجار هذه آتية من تقدير العمر القصير جداً للمنتديات المرتبط بعمر خدمة الإنترنت في البلاد. فهو لم يتجاوز بعد سنواته السبع. والتجارب الأولى التي خاضها قلة من المثقفين كانت قد نسجت على منوال منتديات الساحات ، وهو موقع إماراتي المنشأ، لكنها أسست للكثير من التجارب اللاحقة التي توالت تباعاً وانتشرت في الشبكة الإلكترونية وصارت جزءاً من الحياة اليومية السعودية، تتجسد فيه الكثير من المعطيات الدينية والاجتماعية والسياسية والثقافية.

وليس من قبيل المبالغة القول إن الانفجار في مواقع المنتديات أعطى لكل مدينة سعودية موقعاً حوارياً واحداً على الأقل..! وهناك قرى سعودية لدى كل واحدة منها خمسة أو ستة منتديات، وفي كل منتدى ألفان أو ثلاثة آلاف عضو..!!

منتديات عامة
وقد تعوّد أصحاب المنتديات تفريع مواقعهم إلى صفحات.. هناك صفحات القضايا العامة، والصفحات السياسية، والدينية، والاجتماعية، والأدبية، والفكرية.. والتفريع يطول الفن التشكيلي، وقضايا المرأة، والمطبخ، والتربية، والطفولة، ناهيك عن هواة البرمجة الإلكترونية، والهكر..إلخ..!

بعض المهنيين، بدورهم، وجدوا في هذه التقنية ملاذاً لهم، فاستحدثوا مواقعهم الحوارية للتعويض عن انعدام وجود مؤسسات تدعم اهتماماتهم.. على سبيل المثال، لا التقصّي، منتدى التمريض السعودي يلتقي فيه العاملون في هذا الحقل ويتبادلون أخبار المهنة، ويناقشون متاعبها ومشاكلها، ويعبرون عن مطالباتهم الكثيرة التي ربما لا تجد من يصغي إليها في وسائل الإعلام التقليدية. ومثله منتدى المحامين، ومنتدى الأسهم، و.. و.. إلخ

خصوصية محلية
وعلى الرغم من التشابه الممل بين المواقع العامة، فإن هناك قدراً من الخصوصية يمكن أن تتسم به بعض المواقع، وبالذات تلك المحلية الطابع التي يؤسسها أصحابها بأسماء مدن أو قرى أو مناطق. في مثل هذه المواقع يكون المنتدى ملتقى لأبناء المدينة أو القرية، وربما القبيلة. وفي إطار الموقع الجغرافي المحدود يتناول الأعضاء أخبار مدنهم وقراهم وقضاياها المحلية على أنحاء متعددة.

والآثار التي يمكن أن تتركها هذه المنتديات تبدو ضئيلة نظرياً، غير أنها من الناحية العملية كبيرة جداً في حالاتٍ كثيرة. فقبل عام تقريباً نشب صراعٌ إلكتروني بين أبناء إحدى قرى المنطقة الشرقية حول انتخاب مجلس إدارة جمعيتها الخيرية، واستوعب الصراع كثيراً من حالات التشنج والتعصب والمناوءة والمؤازرة، الأمر الذي انعكس على نتائج الترشيح. لكن الصراع لم ينتهِ بصدور النتائج، بل استمرّ إلى ما بعدها بسيل من الاتهامات التي رجحت وجود تزوير في آلية الترشيح..!!

مثل هذه الدرجة الحادة من التعبير لا يمكن أن تجد لنفسها مساحة في وسائل الإعلام التقليدية التي يضيق هامش مسؤولياتها المحافظ على تمرير المهاترات والتشنيعات والإساءات الشخصية مهما صغُرت. وهذا يعني أن ما يُسكت عنه في وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة يُمكن التصريحُ به صراخاً في الملتقيات الالكترونية، وبحدة لا ترحم ولا تتردد في تكسير العظام، إذا لزم الأمر..!

كلام مجالس..!
وما حدث في قضية الجمعية الخيرية يمكن انسحابه على الكثير والكثير من قضايا المجتمع السعودي. فقد تخلقت المنتديات من عملية تهجين اعتباطية لوسائل الاتصال المتطورة المتمثلة في الإنترنت من جهة، ولبدائية أحاديث المجالس من جهة أخرى. والطريف أن ما يجري هو أن أحاديث المجالس التي لا يمكن إعلانها في وسائل الإعلام تجد طريقها سالكاً إلى العلن على نحو يوصف بـ الحر ، والوسيلة هي: الإنترنت..!

فإذا ما منحت الإنترنت للمتحدث فرصة التخفي أو المواربة؛ فإن كل شخص وكل فكرة وكل مبدأ من الطرف الآخر إنما هو عرضة لهذه الحرية المرعبة. ولا حماية لأحد من هذا الوسط التواصلي الخطير، إلا الضمير..!!

هل تحاور أشباحاً..؟
في إحدى المحاورات الحادة كان أحد السعوديين طرفاً واضحاً باسمه الصريح وصفته. لكن هذا الوضوح جعله محاوراً أعزلَ أمام مجموعة من المحاورين المدججين بالأسماء المستعارة..! فكانت الصورة المضحكة المبكية هي أن الروائي كان يناقش أشباحاً في قضايا بالغة الحساسية بمسؤولية جادة، في حين يمارس أشباحه كل أنواع التشنيع والقذف الشخصي والاعتداء العلني..!

منطقياً لا يمكن لمعركة فكرية أن تكون طبيعية ومفيدة وموضوعية إذا خيضت على هذه الشاكلة. ولطالما كان هذا المثقف البارز عُرضة لأشباح الإنترنت، الأمر الذي دفعه إلى التوقف عن محاورة من وصفهم بـ الأشباح في المنتديات..!

وذات مرة أجرت إحدى الصحف المحلية حواراً وهمياً مع الدكتور الحمد، ضمن سلسلة لقاءات وهمية واضحة أجرتها الصحيفة مع عدد من المثقفين، وكان محرر الصحيفة يضع السؤال والإجابة من دون الرجوع إلى الضيف، وهذا النوع من الأعمال الصحافية معروف. وفي حوار الحمد استنطق محرر الصحيفة كلاماً لم يقله الحمد أصلاً. وعلى الرغم من وضوح فكرة الحوار الوهمي؛ استغل أحد فرسان التخفي الإنترنتي ما كتبه المحرر على لسان الحمد، ونقله إلى أحد المنتديات واعتبر ما فيه اعترافاتٍ صريحة للدكتور الحمد نفسه، وبنى على هذه الاعترافات أحكاماً خطيرة..! ثم أعانه أعضاء آخرون على التأليب والتشنيع، الأمر الذي اضطرّ الصحيفة إلى نشر إيضاح في صفحتها الأخيرة، بيّنت فيه أن الحوار الذي نشرته لم يكن إلا حواراً لم يتم ، وأن الدكتور الحمد كان ضيفاً وهمياً، علاوة على الإيضاح المنشور، أصلاً، ضمن الحوار..!

ومثله الناقد محمد العباس، وهو صاحب تجربة منتديات واضحة، فقد تعرض مراراً وتكراراً إلى محاولات قذف شخصي علني لم يوفّر حتى خصوصيات حياته..!

تجربة غامضة الملامح..!
بعد قرابة سبع سنواتٍ من عمرها لا تزال المنتديات واحدة من الإشكاليات التي يتعاطاها المجتمع بشكل يومي، ويعلن عبرها عن تداخلاته وأنماطه الفكرية. ويمكن الجزمُ بأنها حالة غير مؤسسة على نضج اجتماعي كافٍ لخوض التجربة وتفعيلها في سياق احتياجات المجتمع الماسة إلى التواصل ومن ثم إلى التقارب الذي يصهر الاختلافات في حالة انسجام وتعايش..! بمعنى: إن المجتمع الذي تعامل، لعشرات السنوات، مع وضع إعلامي منضبط وخاضع لتقاليد وأعراف مثلتها الصحافة المحلية؛ وجد نفسه فجأة في مناخٍ مختلف تماماً.. مناخٍ يعطي الحق الإلكتروني لكل فرد ليقول ما يريد ويعبّر عما يشتهي..!!

إنها حالة صدمة إعلامية حقيقية، كشفت عن خبايا دقيقة في المجتمع، فراح رواد المنتديات يصرخون بأصواتٍ عالية ضدّ – أو مع – أفكار، أو أشخاص، أو مباديء، أو حالات وظواهر، أو أحلام وآلام ومطامح، مستفيدين من القدرة على التخفي..!

وكم هو مدهش أن يتجه عاملون في الإعلام إلى المشاركة في المنتديات، بعضهم بأسمائهم الصريحة، وبعضهم بأسماء مستعارة. وهو ما يشير إلى أن الملتقيات الإلكترونية باتت تعويضاً جدياً لجزء مهم من الهامش المفقود في الإعلام المحلي حتى للعاملين في الصحافة. فما لا يمكن نشره في الصحيفة أو المجلة، لسبب يراه رئيس التحرير أو مديره، يجد طريقه إلى قراء المنتديات ومتابعيها..!

وهذا يعني أن المنتدى قد بدأ يسرق صحافة الرأي من الصحيفة والمجلة، بل ويطوّر تفاعلاتها ويسجل ردود أفعالها لدى جمهور الإنترنت الذي يتكاثر يوماً بعد يوم..!

مساحة المرأة..
حالة الصدمة، أيضاً، مكنت المرأة من تأسيس اندماج مع هذا النسيج الإلكتروني الحديث. وبالتأكيد استفادت المرأة السعودية من واقع المحاور الخفي لتعطي لنفسها أي اسم تراه، وتعبر عن نفسها على النحو الملائم لشخصيتها. وقد أدّت مشاركات المرأة في المنتديات إلى ظهور منتديات نسائية، وموقع عالم حوّاء الذي تأسس عام 2000م بجهود رجلين سعوديين، استقطب آلاف السعوديات للمشاركة والتعبير والتفاعل في العديد من القضايا. وبعده أخذت المواقع النسائية تتكاثر وتتناسل، ويشارك فيها الرجال والنساء..!!

إشارات وتحديات
من هذا كله يمكن اقتناص عدد من الإشارات الأولية التي رسمتها المنتديات السعودية، وفي الوقت نفسه صنعت عدداً من التحديات أمام المجتمع ومؤسساته، بصرف النظر عن الظروف والإمكانيات والأسباب والمسببات التي تقف على خلفية السلوكيات الإلكترونية إذا جاز الوصف.

في مقدمة هذه الإشارات هو أن المنتديات ليست مواقع محلية في حقيقتها الإلكترونية.. إنها متاحة لكل مستخدم إنترنت على وجه البسيطة. وبالتالي؛ فهي تعبّر عن كل تفصيلات حياتنا، بما فيها من مقبول ومرفوض لدينا. والتحدي الجدي يتركز في ألا نخجل من كل هذه الأخلاط التي تكشفها المنتديات عنا، بل من الضروري، منطقياً، أن نتفهم واقع الطبيعة البشرية في الأفراد والجماعات، وأن نعمل على تطوير الوعي بدلاً من التشنج والدخول في مواجهات شرسة، أو اللجوء إلى إجراءات قمعية.

أسست المنتديات مهاداً اجتماعياً للتواصل والتحاور، ومن شأن هذا التواصل أن يعزز ثقافة الاختلاف واحتكاك الرأي والرأي الآخر. في الوقت نفسه لا يمكن التغافل عن أن إنضاج هذه الثقافة سوف يمر عبر طريق طويل وشائك، وهو ما يعني أن ثمناً مهماً سيدفعه المجتمع إذا تُرك الحبل على الغارب في الصدامات المتكررة التي تشهدها المنتديات.

ومن الإشارات، أيضاً، هو الاتساع اليومي لجمهور هذا الوسيط التواصلي الحديث، والتكاثر الواضح في أعداد المنتديات المحلية. وكلا الأمرين يعطي إشارات جدية إلى أنماط التفكير الاجتماعي، وقراءته للأحداث والأوضاع والمتغيرات. وجديرٌ بالمختصين أن يخضعوا ما تفرزه المنتديات من أفكار وانطباعات – ومعلومات – إلى البحث والدراسة في العديد من القضايا التي تطرحها المنتديات، بوصفها انعكاساً لأوضاع اجتماعية متصلة بالكثير من القضايا الوطنية.

كشفت المنتديات عن كونها صوت من لا صوت له في وسائل الإعلام التقليدية، بل وصوت من له صوت أيضاً. ومن بعضها تخرج كثيرٌ من الهواة والمبتدئين في ميادين الكتابة الاجتماعية والسياسية والأدبية وغيرها. كما أسست ملتقيات تفاعلية لأصحاب المهن والهوايات والاهتمامات. وبما أن التجربة قد كوّنت لنفسها تراكماً مرحلياً؛ فإن المؤسسات الثقافية والمهنية باتت في مسؤولية مضاعفة تجاه المواهب والقدرات الإبداعية والمهنية.

أصبحت المنتديات بيئة تستوعب الصالح والطالح في موقع واحد. فهي تصلح لأن تكون صحافة صفراء تلاحق الفضائح وتلفق الشائعات، في الوقت الذي يمكن أن تقوم بدور التثقيف والتوعية وتعزيز الإيجابي من أخلاقيات المجتمع وموروثاته. وبما أن السلوكيات المختلطة عادة ما يكون تأثيرها أقوى سلبياً، فإن التحدي الحقيقي يجب أن ينبع من المؤسسات التربوية، وفي مقدمتها مؤسسة الأسرة. فالإنترنت باتت وسطاً تربوياً رابعاً، بعد أوساط الأسرة والمدرسة والمجتمع.

بما أن المحاور الخفي سيبقى إشكالية يصعب التعاطي معها، بل والمساس بها؛ فإن تطويق آثارها سيظل ضمن نطاق محدود وخاضع لإدارة كل منتدى على حدة. وبما أن أصحاب المنتديات هم من أبناء المجتمع، بما فيه من تعدد واختلاف طبيعي، فإن كل عضو – استعارياً أم حقيقياً – يمثل إشارة إلى موقعه الفكري والنفسي والاجتماعي.. والخلاصة: هي أن المحاور الخفي سيبقى سيد الحوار.. مصلحاً كان أم مفسداً.. شئنا أم أبينا..!

أضف تعليق

التعليقات