إنها بالتأكيد «أم المفارقات» أن يتحول ما وُسِمَ تفاؤلاً بـ«الربيع العربي» إلى موسم طويل من الدمار والموت والرعب والفوضى في البلدان العربية التي حل بها، وامتد عبر ارتدادات وتداعيات مقوضة للطمأنينة إلى دول أخرى كانت تتوهم أنها في منأى عنه، أو حاولت انتهاج سياسة النأي بنفسها عنه.
هذا هو العالم العربي الحقيقي الصغير، الجزء الذي لا ينفصل عن العالم الحقيقي الكبير، الذي لا يبدو أن فيه موطئ قدم للوهم. لا حياة للوهم إلا في مخيلات العالقين بشباكه من الشعراء والروائيين والعشاق؛ أولئك الذين قد يتحول شلال شعر الحبيبة، في مخيلة أحدهم، إلى ملاذ آمن من العالم الخارجي حينما يسعى بإصرار مرعب على إزهاق حياة كل إنسان، كما لو أنه لم يعد قادراً، أو لا يملك القدرة في الأصل، على تحمل رؤية الناس سعداء؛ وحيث يغدو الحُب سداً منيعاً يصد عن العشاق هبات البؤس عندما تتسلل إليهم من ثقوب غير مرئية في الفضاء أو تلفحهم بسمومها عند كل انعطافة في طريق.
كان الشعْر، شَعْرُ الممرضة المساعدة الإنجليزية كاثرين باركلي الملاذ، الخيمة التي ارتمى فيها الملازم الأمريكي فريدريك هنري سائق سيارة الإسعاف في إيطاليا أثناء الحرب العالمية الأولى؛ وكان الحالم أو الواهم الذي خلق المرأة ذات الشعر الخيمة وأدخل فيها اللاجئ المتيم، الروائي آرنست هيمنغوي، وكانت الرواية رائعته (وداعاً للسلاح).
يقال إن الذاكرة تعمل بغموض؛ وأقول جازماً إنني أحد المؤمنين بذلك. إن الذاكرة تعمل بطريقة تجعل التحكم في عملية التذكر وانهمار التداعيات أو إيقافهما أمراً صعباً للغاية أو ربما مستحيلاً. كان إيقاف التداعيات هو ما حاولت القيام به -رغم وعيي بعبثيته- وهي تعود بي إلى الوراء سنوات عديدة، إلى الساعات التي وجدت نفسي خلالها أقرأ رواية هيمنغوي، غارقاً في عالمها الخاص الصغير المستظل بـ«السلام المنفصل»، الذي أَمّنَهٌ الحُب للعاشقين وسط عالم يجود بالدليل تلو الدليل على توقفه عن الحُب، مشرعاً قلبه، تعويضاً عن ذلك، للكراهية التي عبرت عن نفسها بما لا يتخيله، أو يتحمله إنسان سوي، من صور الدمار والفوضى والاقتتال الوحشي. ولا أدري لماذا أضيف الصفة «الوحشي»؛ فكل اقتتال وحشي في الأصل، ولكنها الرغبة الأمّارة بالتأكيد الذي يبدو أنها دفعتني على إتباع الاسم بالصفة الفائضة، التي يتضح لي الآن أن استعمالها متسق تماماً- مالم أكن مخطئاً في تصوري- مع فكرة هذه الكتابة المعبرة عن فيض التداعيات التي أثبتت تمردها على محاولتي السيطرة عليها والتحكم في انهمارها عن «السلام المنفصل» الذي تحقق للعاشقين في عالمهما المتخيل.
الحقيقة لم تكن (وداعاً للسلاح) الرواية أو الكتاب الوحيد، ولا هيمنغوي نفسه الروائي الوحيد، الذي استجلبته تداعياتي إلى سطح الذاكرة، وأنا في موضعي غير المريح على طرف التلقي لصور العنف والدمار اللذين يزخر بهما الربيع العربي. لكنهما، هيمنغوي وروايته، كانا الأكثر استحوذاً او استبداداً في تذكري، نظراً لما تمتلكه فكرة «السلام المنفصل» من إغواء وإغراء خصوصاً عندما يكون شعر الحبيبة ذا قدرة خرافية على توفير مصدّات تبقي العالم الخارجي في الخارج، عاجزاً عن الإجهاز على لحظات السعادة التي يهنأ بها الحبيبان.
لكي ينعم أي عربي في (الربيع العربي) بحياة سعيدة يتوجب عليه أن يعيش بعقلية فردريك وكاثرين ، بأن يبحث عن «السلام المنفصل»، إذا كان ذلك ممكناً، أضيف جملة «إذا…» مستدركاً تحت تأثير الرفض المتنامي، في ذهني الآن، لهذه الفكرة غير النقية تماماً من السذاجة، لأن «السلام المنفصل» المطلق الذي أكتب عنه وهم كبير، فكلمة «عاجل» التي تومض برفيف سريع أمامي على شاشة التلفاز الصامت تجذب عيني وذهني قسراً -كما تفعل في كل مرة تظهر على الشاشة- إلى قراءة خبر قد يحدث حزاَ صغيراً أو كبيراً في ما أتوهم اللحظة أنه «سلام منفصل» أرخى بأهدابه عليّ أثناء الكتابة. سيفعل به الخبر المتمدد أفقياً بجانب «عاجل» ما فعلته الأخبار السابقة واللاحقة، بما تهل به من صور القتل والتمثيل بالجثث و تدمير مقومات الحياة.
يذكرني هذا الرفض لفكرة «السلام المنفصل» بأنه حتى هيمنغوي نفسه لم يقل بإمكانية تحققه بالمطلق وبشكل دائم، فحتى الهناء والسعادة اللذين ينعم بهما الحبيبان كانا يتعرضان للاجتياح من البؤس والألم في العالم الخارجي، كما تجسد في إصابة هنري، أو استدعائه لجبهة القتال، وأخيراً في انهيار عالمهما الخاص بموت كاثرين من نزيف ما بعد الولادة.
أصل إلى الاقتناع بعبثية الحلم «بسلام منفصل» مطلق في عالم يصر على تسوية خلافاته بالعنف، وبأن رواية هيمنغوي كانت عن محاولة البحث عنه، أو النجاح الجزئي المؤقت في تحقيقه. ربما تكون محاولة البحث هي الأجمل. هذا ما يجب أن أفعله أو نفعله ، بحب الحياة، بالعمل، بالقراءة، حتى بأكل الآيسكريم كما تفعل جوليا روبرتس على غلاف كتاب إليزابيث غلبرت، المتمدد باسترخاء أمامي على المنضدة!