عندما تسحبنا لسحرها القصة أوالرواية معنى ذلك أن الكاتبة أو الكاتب عرف كيف يضع كمية من الصدق أو ربما الإيحاء لنا بتلمس الشخوص وتحسس طاقاتهم من حولنا بما فيهم الجان..
ظهر تأثري بالرواية كبيراً ساعة انتهائي منها. أحسست بطاقة قريبة مني تأثر لها جسدي فأقشعر لها بدني، حقيقة امتزج الرعب فيّ من الأشياء غير المحسوسة.. هذا شيء قديم رافقني منذ الصغر على الرغم من حرص والدي على إفهامي أن ذلك شيء يغذيه خيالنا وليس واقعاً.. لكن مع معوذات أمي الليلية وسورة ياسين تحيطنا بها وآية الكرسي أشعر أن خيمة ربانية تغلف ما حولنا، فلا يتخطاها أي كائن..مع رواية (زيارة سجى) سحبت مني تلك الخيمة التي أحطت بها نفسي.. لذا ما أكتب الآن هو انطباعي الذاتي عن الرواية..
رواية (زيارة سجى)، وضعت بها أميمة جل اهتمامها، ولعبت بين ثلاث رواة، وكأنها تلعب بنا الثلاث ورقات.. سلمت لكل راوٍ قلمها وراحت تخط باسمهم..ولكل منهم حقيقته، عبر سيدة البيت الكبيرة في السن التي اتخذت لها الرواية أسلوباً يناسبها، وهند الحفيدة جيل الشباب بعالمه الكبير من واقعي وافتراضي.. ثم أدخلت سجى، من عالم غير مرئي..وما سجى إلا جنية حبستها هند ضمن لعبة (الوجي).
هذه الحقائق لا تبتعد كثيراً، لكنها تفسر كل بحسب طريقته.. وتفكيره،ولغته.. ولا يخلو من شخصيات أُخر مساندين ودافعين للأصلين( الرواة )، يدفعون بالحدث يميناً ويساراً.. بين هذا وذاك تدخل أميمة وكأنها شرطي مرور قبل أشواط النهاية ببضع صفحات، لتدعم روايتها، وتنظم مرور شخصياتها بعرض الأحداث وتصحح معلومات للرواة.. رغم أن دخولها فاجأ القارىء إلا أن ذلك توحد مع الرواية.. وبدت كمعلق على حدث يراه من زاوية أخرى..
أميمة في روايتها حاولت أن توجد حبكة بوليسية لحكاية محاولة قتل المحاسب /إبراهيم عسيري / ولكن كانت العقدة محلولة منذ بدايتها،، وهذا مما يبعد أميمة عن الرويات البوليسية.. وفكرة وجود حكاية القتل في الرواية كانت فرصة لإرهاب (هند) التي أدخلت حبيبها غرفة نومها بنفس ساعة وليلة الجريمة. وبدأ الأمر وكأنه انتقاماً لها على فعلتها، بدخول المحقق ورجل الأمن الأول في القصر الشخصية البدوية التي ترجف قلب هند إنه (سبيع فالح) البدوي الذي جردته أميمة من ألف لام التعريف..
تقول في مقابلة صحفية (…وفي روايتي (زيارة سجى) لم تكن الحبكة البوليسية هي المهيمنة على السياق السردي، بقدر ما كانت أحد الأساليب التي تدفع عربة السرد إلى الأمام، وتشق دروباً لصراع الشخصيات وتطورها).
أميمة تدلنا على العنوان في وجود أمن وحراسة مشددة تتكفل الدولة برواتبهم وبيوت متعددة نساؤها ورجل واحد يقود المسيرة عبر مساعديه وعيونه (أبو منصور)..
ليس في الأمن وحدة إنما في تفاصيل البيت وأهله وخدمه، وحكاية الانتقال لعالم الموجودين في هذا القصر.. وخلفياتهم من حضرية وبدوية.. ماما لولوة التي دفعت بنفسها عبر ابنتها زوجة لأبي منصور ثم تطلق، فتبعد عن القصر،لتحتله ماما لولو. فيبدو حضور الأم حضوراً عاجلاً لا يتسع لفنجان قهوة، والتي تحاذر من شربها إلا بالإصرار، خوفاً أن يدخل جوفها حرام، وهي التي تزوجت منسق حملات حج وعمرة وتدينت بقوة..كما كان حضور جد هند باهتاً..
تفوح رائحة البادية من أردان بعض النسوة القصر..حكايات بعضهن وضعتها أميمة، وحكايات تروى بالهمز واللمز عن عبير بنية الرياض،المهضومة الحقوق، التي وجد لها أب فليبيني صوري بعد أن حملت بها أمها الفلبينية من بن صاحب القصر.. والذي بدأ أنفها يشير إليه.
خططت أميمة في روايتها لثلاث شخصيات تتناوب الحديث، وتدفعها شخصيات بدأت جانبيه بعضها لكنها محورية في البيت الكبير.
الثلاثية هذه دفعت بالحدث والشخصيات للأمام كما أرسلت أميمة ومضاتها عبر سجى، الشخصية التي أوجدتها أميمة من عالمها الميتافيزيقي، وحملتها ما تريد قوله.. وكأني أحس أميمة تلبست تلك الشخصية، وكأنها تدير عينيها إلى أعلى لتستشرف ما لا يرى.
رغم ذلك لم تكتف بهيئتها اللامرئية عبر سجى، فطلت بشخصها الحقيقة عبر الرواية، ذكرتني بالمخرج / الفريد هتشكوك،وهو يطل علينا عبر الشاشة قبيل نهاية فِلم مرعب له..
أعود لثلاثية الحقائق، وثلاثية الأطفال النورانيين، والذين تتابعهم سجى بين وقت وآخر، وهم يرسمون، ويكررون الرسم، فيرسمون أبواباً، ما بين مفتوحة ومغلقة بمزاليج ومواربة على جدار القصر الكبير، سمَّتهم أميمة أثناء مرورها بهم (أطفال الأماني)، (أنهم أطفال الأماني التي يطلقها سكان المنزل، تبقى مأسورة في جسد هذا النوع من الأطفال، إلى أن تحدث طفرة غامضة لا أحد يعلم سرها.. وتتحقق الأماني ص 357).
ربما أرى دلالات هذه الثلاثية النورانية.. هي الحلم ربما ضد ثلاثية المرض والجهل والفقر، أو هي ثلاثية أخرى للأمل: العدالة والحرية والمساواة.. وربما ثلاثية غير التي فكرت (أنا) بها ثلاثية لا أدركها بحسي البشري.. ولكنها أبواب على شيء غير موجود.. إلا في حلم نوراني.. يحمله ثلاثة أطفال من نور..تخلت عنهم أجنحة ملائكية ملونة كحلم طفولتنا البعيدة الذاهبة هدراً..
في رواية زيارة سجى أمتعتنا أميمة ونثرت حولنا كثيراً من عالمها الجديد، دون أن تكرر نفسها عبر رواياتها، تخترق وتخترع أحياناً دروباً عُرفت ودروباً أخرى غير مسلوكة إلا من قلة من الكتَّاب.. قد تعبث قليلاً مع الشخصية، لكنها لا تفلتها وأن قالت ذلك أثناء تدخلها في الرواية..
أميمة تراعي وضعها ليس كراوية فقط ولكن كملتزمة بالحس المجتمعي، ولعل كونها ابنة رجل معروف بالثقافة العربية، وله مكانته داخل الوطن وخارجه، وكونها أم وزوجة راعت الكثير في عرض اللحظات الحميمية بين العاشقين (هند وسلطان) في تلك الزيارة جعلت الباب موارباً لمن يتلصص ومن يعف يبتعد.. وعادت ومرت فيما بعد لزحزحة الستارة، لكن لم تكشفها..
زيارة سجى، عالم ولجته الرواية، كانت الأقوال فيه للنساء وجل الأحداث يصنعها الرجال..
في نفس المقابلة تقول صاحبة الرواية.. (في روايتي هذه حاولت مقاربة عدة مستويات من السرد، عبر تعدد الرواة، وتداخلهم مع الشخصيات الغرائبية الماورائية، وتعدد بوابات عوالمها فبعضها يفضي إلى أفنية بشرية والأخرى تأخذنا إلى ساحات خارقة ميتافيزيقية، ولكن على الرغم من هذا فإنني لم أبتعد كثيراً عن حجرات النساء الخلفية المطوقة بالمحظور، ونسوتها اللواتي يكتشفن العالم عبر الشقوق والأبواب المواربة).
لا تبتعد كثيراً أميمة عن جمال اللغة وهي توشي روايتها بالجمال كمن يقدِّم ويضع وروداً في زوايا المنزل ويوزعها على الغرف، كما الشموع العطرية ولا تنسى البخور.
المكان كان عنصراً لعب دوره في الرواية، فهو ربما صانع الحدث بمن فيه من بشر، يقول عبد الرحمن منيف، في (سيرة مدينة):
«إن المكان في حالات كثيرة ليس حيزاً جغرافياً فقط، فهو أيضاً البشر في زمن معيِّن. وهكذا نكتشف علاقة جدلية بين عناصر متعددة، متشابكة ومتفاعلة. فالمكان يكتسب ملامحه من خلال البشر، الذين عاشوا فيه. ص 5».
وأخيراً هي رواية تحمل الكثير مما يمكن أن يقال.. من تفسيرات ورؤى، والكتابة التي لا تصنع حركة في المجتمع الأدبي هي غير فاعلة وغير جديرة بالنشر، و بالتالي غير جديرة بالكتابة عنها.