تظل التجارب الإنسانية خير منهل، يستقي منه الكاتب عنفوان شخصياته وضعفهم ومكابرتهم، حتى لكأنهم مساقون في نسق منظّم إلى أن يصلون إلى حتفهم بعد فراغ الحاجة منهم!
في السطور التالية تختبئ نسرين البخشونجي بين شخوص الرواية لتستكشف الأهداف التي أصابتها الروائية التركية سولماز كاموران وأصل الحكاية وراء السلحفاة «مينتا»..
أن تدفعك السطور الأولى لعمل أدبي للقراءة بنهم، فهذا إنجاز. وأن يخدعك المقطع الأول، فتظن أنك ستقرأ رواية رومانسية لطيفة ثم تكتشف أنك وقعت فريسة لنص صعب، وملحمة إنسانية عميقة، فتلك هي عبقرية الكاتب وموهبته الفطرية.
البحث عن الحرية شغف إنساني، والحفاظ على الهوية رغم البُعد عن الوطن لزمن طويل خيار صعب لكنه غير مستحيل، هذه الفكرة هي أساس رواية «مينتا» للكاتبة التركية سولماز كاموران وأصل حكايتها. ربما لهذا السبب استخدمت الكاتبة السلحفاة البحرية «مينتا» -باللغة السواحلية الإفريقية القديمة- كرمز للحرية والهوية الأصيلة كثيمة مغايرة وغير مألوفة.
تدور الأحداث خلال مائة عام تسرد خلالها الكاتبة قصة خمسة أجيال من نسل «نجا» وأخته «ندى» وسلحفاة «مينتا» صغيرة استطاعت أن تبقى على قيد الحياة لمائة عام على الرغم من التغيرات المناخية، فالبحار النظيفة صارت ملوَّثة بسبب النفايات. السلحفاة التي أرعبتها قذائف الحرب العالمية الأولى ثم الثانية أبطال الرواية الأساسين. لذا يمكن تصنيفها كرواية اجتماعية في إطار تاريخي. بعيونها رأينا تغيير الحياة وتبدل الأزمنة.
تبدأ الرواية بمقطع رائع يصف حفلاً مبهجاً لأهل قرية إفريقية بمناسبة فقس بيض السلحفاة البحرية أو «مينتا» في ليلة مقمرة على شاطئ هادئ، بينما تتمايل فروع أشجار الصنوبر مع الرياح بخفة. أثناء الحفل يبدأ البيض في الفقس واحدة تلو الأخرى ليبدأ الصغار صراعهم الأول مع الحياة، فالسرطانات الجائعة تنتظرهم بشغف. وسط معركة الحياة والموت بين السرطانات وصغار السلاحف التي ينجح عدد قليل منها في الوصول إلى البحر، يقتحم غرباء المكان فجأة ليختطفوا عدداً لا بأس به من أبناء القرية مكبلين بالحديد على سطح مركب.
سواران من الخشب أعطتهما أم «نجا» و«ندى» على عجل لطفليها قبل الرحيل، صارا ميراث الأبناء والأحفاد. كذلك ظلت الأغنية التقليدية التي يغنيها أهل الجزيرة ليحتفوا بسلحفاة «مينتا» في ذاكرة الأسرتين لمائة عام. وهما -السوار والأغنية- الوسيلة التي استخدمتها الكاتبة ليتعرف بهما فيما بعد «راي» الأمريكي حفيد «نجا» و«حمرا» التركية حفيدة «ندى» على شاطئ البحر.
من خلال هذه الحيلة التي تبدو كلاسيكية ورومانسية، بدأت الكاتبة الرواية وأنهتها في نفس المكان على شاطئ البحر، ورغم اختلاف الأشخاص بقي الأصل والإرث.
الإطار الزمني للرواية بدأ قبيل الحرب العالمية الأولى بعدة سنوات. يؤخذ الطفل «نجا» على متن سفينة أبحرت به لأيام طويلة، لينضم للعبيد الأفارقة في الولايات المتحدة الأمريكية. يعتق «نجا» العبد لدى أحد المواطنين الأمريكيين ذوي الأصول الأوروبية بقرار حكومي في بداية مرحلة تحرير العبيد السود في أمريكا، وهو القرار الذى اعتبره الأمريكي غير عادل وأنه اقتحام سافر في خصوصياته وممتلكاته الخاصة من قِبل الحكومة. حين عَلم «نجا» الذي لم يكمل عامه العاشر أنه حرّ خرج من منزل سيده وصار يركض حتى وصل إلى «المستنقع» حيث يعيش الأمريكيون الأصليون – الهنود الحمر، عثر عليه زعيم القبيلة الذي يُدعى «الثعلب الجريح» فأخذه وعاش كواحد منهم ثم تزوج «رياح المستنقع» ابنة زعيم القبيلة.
بيعت أخته «ندى» التي شهدت انفصال مصر عن الدولة العثمانية، لتاجر مصري الذي تزوج أربع نساء في محاولة فاشلة منه لإنجاب طفل. «ندى» لم تلقَ معاملة فظة من نساء البيت لكنها في المقابل لم تحظَ بحنان إحداهن. حين توفي الرجل، أخذت إلى بيت أحد الأقارب والمتزوج من إفريقية أساءت معاملة «ندى» لعقدة نقص داخلها حتى اتخذت قراراً بإبعادها تماماً عن المنزل فآوتها الطباخة في الغرفة التي تسكنها وأولادها الفلاحين، ثم زوجتها لولدها «مصطفى» لأن أهل القرية بدأوا يتحدثون عن تلك الغريبة التي تعيش معهم لأن هذا الفعل حرام شرعاً.
العنصرية من القضايا البارزة في هذا النص، فعلى الرغم من تحرير العبيد الأفارقة من قبل الحكومة الأمريكية ظلت بعض القوانين والعادات الاجتماعية تمارس التفرقة، فلم يكن يسمح لإفريقي أن يصير غنياً، وبالتالي تظل مجالات العمل العليا محصورة على البيض، وربما بنفس المنطق فكروا ألاَّ يسمح للسود أن ينضموا للمدارس حتى يظل الفرق بين البيض والسود شاسعاً. من خلال قصة الطفلة الذكية «ناي» ابنة «نجا» الوحيدة. فكر الأب الجاهل أن من حق ابنته أن تتعلم، أملاً في أن تكون حياتها المستقبلية أيسر وأفضل. فألحقها بمدرسة غير رسمية أسسها رجل أسمر يدعى «ت.ج» وبعدما أظهرت الطفلة تقدماً ملحوظاً يحرق بعض العنصريين المدرسة فيموت المدرِّس أثناء محاولته إنقاذ الطفلة من لهب النار، وتصاب بحروق في جسمها تتسبب في انسحابها من المجتمع.
ربما لهذا السبب جعلت الكاتبة شخصية «راي» حفيد «نجا» عالم الجيولوجيا البحرية حتى تتكئ على أن العنصرية في هذا الشأن قد انتهت تماماً في المجتمع الأمريكي، وأنه قد ورث شغفه بالبحار وسلحفاة المينتا منذ طفولته. التخصص العلمي الدقيق للبطل هي المبرر المنطقي الذي صنعته الكاتبة بحرفية ليكون سبباً كافياً لسفره إلى تركيا حيث يلتقي بقريبته.
وتستمر الكاتبة في مناقشة قضايا اجتماعية ذات صبغة تاريخية من خلال أبطال الرواية. فمن خلال قصة «أميرة» ابنة «ندى» نتعرف إلى أجواء الحرب العالمية الأولى وتأثيرها الاجتماعي والاقتصادي على المجتمع الأرستقراطي التركي، إعلان الحماية البريطانية على مصر. على الضفة الأخرى من النص يموت «جيمس» زوج «ناي» أثناء خدمته في الجيش الأمريكي أثناء الحرب.
لسبب ما ذكرتني هذه الرواية برائعة نجيب محفوظ «حديث الصباح والمساء» ربما لتعاقب الأجيال في النص، لكن مع اختلاف كبير في الأفكار المطروحة وأسلوب السرد. بينما استخدمت الكاتبة أسماء أبطالها في تقسيم فصول الرواية حتى لا يتوه القارئ في وسط زخم الشخصيات. رتب محفوظ شخوص روايته المنشورة عام 1987م ترتيباً أبجدياً حسب اسم الشخصية بغض النظر عن الإطار الزمني الذى عاشت فيه، فقصة الجد الأكبر للعائلة «يزيد المصري» موجودة في آخر الرواية، بينما بدأ النص بقصة «أحمد محمد إبراهيم» وهو أسلوب فريد يجعلك تندهش وتتساءل كيف خطرت للأديب هذه الفكرة، أعتقد أن مهمة كتابة هذه الرواية كانت أصعب كثيراً من أي رواية أخرى بسبب ابتكاره لهذه التقنية.
يؤخذ على كاتبة الرواية أنك حين تنتهى من قراءة النص سوف تتبادر إلى ذهنك أسئلة كثيرة حول حياة بعض الشخصيات فمثلاً ما سر عذاب «روز» حفيدة «نجا» حتى تفكر في الانتحار؟ ولماذا أخفق «نجاد» حفيد «ندى» في حياته بعدما كان شخصية رائعة؟ اللافت كذلك أن الكاتبة كانت تتخلص من أبطال روايتها بالموت إلا «ندى» التي اختفت من النص دون ذكر مصيرها فقط تركت منزلها وذابت كقطعة سكر.
«مينتا» هي الرواية الثانية للكاتبة -التي صارت من أشهر كاتبات تركيا المعاصرين- والتي تم ترجمتها لعدة لغات من بينها العربية والبلغارية كما قامت سولماز كاموران بترجمة روايتها إلى اللغة الإنجليزية.
ربما لهذا السبب لم أشعر أن النص فقد روح كاتبته. كما حدث حين اطلعت مؤخراً على النسخة العربية من الرواية, حزنت لأن المترجمة نقلت الرواية حرفياً دون أن تدرك أن ترجمة النص الأدبي هو إعادة خلق للعمل. فالترجمة الأدبية عملية صعبة ومعقدة. فالمترجم لابد أن يحافظ على أن يعيد كتابة النص وأن تبقى روح كاتبه الأصلي دون المساس بجماليات النص, كذلك تشكيل لغة سردية تناسب اللغة المترجم إليها العمل. ربما لهذا السبب يجب أن يتميز المترجم بحس أدبي عال حتى لا يطفئ وهج السرد.
الرواية التي تخطَّى عدد صفحاتها الثلاثمائة ترتكز فيها الأفكار على مشاعر الغربة، الحرب، والعنصرية في تواز مع مشاعر الحب، والتضحية، والرغبة في الإبقاء على الهوية والأصل.