ضمن مستويات النجاح والفشل في العمل الوظيفي، كثيراً ما نسمع عن عاملين لمعت أسماؤهم من خلال تحقيقهم لأكثر مما كان متوقعاً منهم، تماماً كما نسمع عن آخرين كانوا من المشهود لهم بكفاءاتهم، ولكنهم عجزوا عن تقديم الحدود الدنيا من العمل المطلوب منهم، فتعثروا (وتحطموا) وشاركوا مؤسساتهم في دفع ثمن الخيبة.
ليلى أمل تسلِّط الضوء على تطور بالغ الأهمية طرأ على مجال الإدارة في السنوات الأخيرة، وبات يركِّز على نوعية العلاقة ما بين المدير والموظف ودورها في تطور هذا الأخير، بحيث أن نجاح الموظف وتطوره وعوائد هذا النجاح على المؤسسة، باتت رهناً بهذه العلاقة التبادلية. ولما كان مركز القرار في هذه العلاقة هو عند الطرف الأعلى في السلم الوظيفي، تتفتح الأعين أكثر فأكثر على دور المدير عند البحث في حسن أداء الموظف أو فشله.
تغيرت العقلية السائدة التي تحكم العلاقة بين المؤسسات وموظفيها تغيراً كبيراً خلال العقدين الأخيرين. فقد كانت هذه العلاقة تقوم على مجموعة من القناعات ترى أن الموظفين هم من في حاجة إلى المؤسسات، وأن الوظائف المتاحة قليلة ويتنافس عليها كثيرون. وأن الموظف باقٍ دائماً، ولا حاجة إلى القلق بهذا الشأن.
كما كانت هذه النظرة ترى أن القدرات البشرية في المؤسسة يمكن أن تحدث بعض الفارق في نجاحها، لكن هذا الفارق ليس كبيراً. لأن قدرة المؤسسة التنافسية تعتمد في الأساس على عوامل أخرى كرأس المال، والآلات والمعدات، والموقع الجغرافي.
لكن مع التغيرات الكثيرة التي حدثت في مجال الأعمال، أثبتت دراسات عديدة، وقبلها الواقع، أن المؤسسات تحتاج إلى موظفيها ربما أكثر من حاجتهم هم إليها، وأن الندرة الحقيقية ليست في الوظائف، ولكن في أصحاب القدرات البشرية المتفوقة التي يمكن أن تشغلها. فهذه القدرات هي العامل الأكثر حركية وأهمية في أداء المؤسسات ونجاحها، وهي المقياس الأعلى صوتاً في الحكم على قدرتها في الثبات والصعود وسط بيئة شديدة التنافسية.
ونتيجة لهذا «الإدراك» الجديد، انتبه المديرون لأهمية القدرات البشرية وقوة تأثيرها. وأصبح ضم أصحابها إلى مؤسساتهم هدفاً يحتل مركزاً متقدماً في قائمة مهامهم وأولوياتهم، وأصبحت الشركات تهتم أكثر من أي وقت سابق بكونها جاذبة للموظفين، عن طريق تقديم مميزات مادية في الرواتب والمكافآت تتجاوز الحدود الدنيا المفروضة في قوانين العمل، وتبدي بعض المرونة فيما يخص مواعيد العمل والإجازات، كما تبني برامج تدريبية تزيد من خبرات موظفيها ومعلوماتهم عن تخصصهم، وتسعى إلى التمتع بسمعة جيدة تقول إنها شركة «صديقة للموظفين»!
لكن المشكلة هي أن كل هذه الجهود والنوايا الطيبة لا تكفي. فالعوامل التي تؤدي إلى اجتذاب المؤسسات للموظف الكفء، تختلف كثيراً عن العوامل التي تؤدي إلى استمراره في العمل لأجلها يوماً بعد يوم، وتحفزه على اكتساب مهارات جديدة ومعرفة جديدة في مجال عمله، وتدفعه لأن يفكر في حلول جديدة للمشكلات وفرص جديدة تضيف لنجاح المؤسسة.
بمعنى آخر، هناك مجموعة أخرى مختلفة من المهارات تحتاج إليها الإدارة لكي تتمكن من تطوير موظفيها، وتحوِّل قدراتهم التي ضمتهم إليها على أساسها، إلى أداء مرتفع يسهم بفاعلية في تحقيق نجاح المؤسسة.
ما الذي أتى بي إلى هنا من الأساس؟
لا يمكن تحت أي ظرف أن يجتمع الأداء المرتفع للموظف، مع إحساسه بعدم الوضوح تجاه عمله بشكل خاص، وتجاه عمل المؤسسة كوحدة واحدة بشكل عام. فعدم الوضوح هو عائق كبير أمام كل نواحي العمل: كفاءة العمل الفردي، وفاعلية العمل الجماعي، وحتى شعور الموظف بالرضا وبالانتماء. فكيف يمكن للموظف أن يحدِّد أولوياته خلال ساعات عمله المحدودة، إن لم يكن يعرف جيداً ما هي الأهداف من الأصل؟ وكيف يمكنه أن يقدِّر إسهام بقية أعضاء فريقه إذا لم يكن باستطاعته أن يعرف ما هي الإسهامات المطلوبة منه هو نفسه؟ وكيف يمكن أن يشعر بالنجاح أو يبذل جهداً لتحسين أدائه في مجال محدَّد، إذا لم يكن يعرف كيف يقاس نجاحه ويقيم لدى مديريه؟
يجب أن تكون لدى كل موظف صورة واضحة تماماً، أولاً عن دوره الوظيفي الذى عينته الشركة لأدائه، وثانياً عن المهام التي عليه أن يقوم بها يوماً بعد يوم في كل مشروع أو مهمة يتم تكليفه بها، وثالثاً عن أهداف المؤسسة وأولوياتها.. من تخدم، وكيف، وبأية معايير، وما هي مواردها الأساسية وكيف تستخدمها.
وعلى الرغم من الأهمية الشديدة للوضوح في بيئة العمل، إلا أن نسبة هائلة من المديرين لا يستطيعون تطبيقه. فقد أظهرت بعض الأبحاث أن أكثر من 50 بالمئة من الموظفين في مجالات عمل متعددة، لا يستطيعون تحديد ما هو المطلوب منهم بالضبط في العمل!
إذاً كيف يقوم المدير بهذا الأمر؟ أولاً، يجب أن يكون لديه هو نفسه صورة واضحة عن دوره وواجباته وأولوياته، وعما يريده للمؤسسة، وما يطلبه من موظفيه. ثانياً عليه أن يأخذ كل الأهداف والأولويات والخطط والصور الكبيرة التي يتعامل على أساسها خط القيادة الأول في المؤسسة، ويحولها إلى صيغة واضحة تناسب موظفيه، وتحدد أمامهم أهدافاً قصيرة المدى، ومجموعة محددة وواضحة من معايير الأداء.
والطريقة الفعَّالة التي يمكن للمدير أن ينقل بها هذه الصيغة لموظفيه، تعتمد على مفتاح شديد الأهمية.. الاستمرارية. فالمدير الجيد يقدِّم الإيضاحات اللازمة لموظفيه عبر كل اجتماع، وكل محادثة، وكل تقرير يتعامل معهم من خلاله. فكل حديث يدور بين المدير وموظفيه هو فرصة جديدة لجعل الأمور أوضح قليلاً.
مكافأة العمل الجيد
يقول أوبري دانيالز، المستشار الإداري للشركات، في كتابه «الوصول إلى أفضل ما في الناس»، إن كل سلوك بشري، تكون له تبعات معيَّنة، وإن طبيعة هذه التبعات هي التي تحدِّد ما إذا كان السلوك سيتكرر أم لا. وتنقسم تبعات السلوك إلى أنواع متقابلة: فهي إما أن تكون إيجابية أو سلبية، آنية أو مستقبلية، مؤكدة أو محتملة. ومن هذه الأنواع تكون أقلها تأثيراً التبعات المستقبلية السلبية غير المؤكدة. وهذا ما يوضح على سبيل المثال لماذا يصعب على المدخن الإقلاع عن التدخين.
وعلى هذا الأساس، يوضح دانيالز أنه لكي يُخرج المدير أفضل ما في موظفيه من طاقات ومهارات يجب أن يدير تبعات سلوكهم. فإذا أراد لسلوك معيَّن أن يتكرر، فعليه أن يصمم تبعاته بحيث تكون آنية وإيجابية مؤكدة. وبمعنى أكثر وضوحاً، عليه أن يتعلم جيداً كيف يتعرف إلى العمل الجيد، ويقدِّره، ويحتفي به.
ورغم التأثير الهائل لعملية تقدير العمل الجيد على أداء الأفراد والمؤسسات، إلا أنها لا تلقى ولو جزءاً من العناية التي تستحقها من قبل المديرين وأرباب العمل. إذ تشير إحصاءات إلى أن أكثر من ثلثي الموظفين يرون أنهم لا يتلقون التقدير علي عملهم الجيد. وإذا ترجمنا هذه النتيجة فسنجد أن لها احتمالين. إما أنهم قدموا عملاً عالي الجودة لكنهم لم يحصلوا على التقدير الذي يستحقونه، أو أنهم لم يقدِّموا عملاً عالي الجودة من الأصل. والاحتمالان في النهاية سيئان.
يعرف المدير الجيد أن التقدير والمكافأة، ليست نتيجة للعمل الجيد، ولكنها السبب فيه. فالعمل الجيد ليس إنجازاً متميزاً يحدث لمرة واحدة. العمل الجيد هو ممارسة مستمرة، وتحسين مستمر.. خطوة صغيرة تعقبها خطوة صغيرة لكن في الاتجاه الصحيح. ويعرف المدير الجيد أن عليه أن يقدِّر هذه الخطوات الصغيرة ويحتفي بها. وحين يفعل، يعرف أنه بذلك يعزِّز الأداء الجيد، ويجعل فرص تكراره دائماً أعلى.
وعلى العكس من ذلك، إذا لم يتلق الأداء الجيد ما يستحقه من تقدير، (في حالة اعتقاد المدير خطأ أن التقدير يفقد الحماس، ويدفع إلى الرضا والتكاسل) يتلقى أداء الموظف ضغطة قوية على المكابح. فحين يقدِّم الموظف أداءً جيداً مرة بعد مرة، ولا يتلقى رد فعل يوازي هذا الأداء، لا يجد أمامه سوى تغيير السلوك الذي أتى إليه بهذه النتيجة المثيرة للضيق والإزعاج، حتى يتفادى حدوثها مرة أخرى. فلا شيء يقتل حافز الموظف للعمل والإنجاز أكثر من اللامبالاة التي يتلقاها من قبل رؤسائه. والإدارة الجيدة هي التي تجعل تقدير العمل الجيد ومكافأته جزءاً ثابتاً ومتوقعاً من سياساتها.
إلى أي مدى تجيد الإدارة لعب الشطرنج؟
في كتابه «أمر واحد عليك أن تعرفه بشأن الإدارة» يقول الباحث في شؤون الإدارة ماركوس باكينجام، إن الإدارة الجيدة هي التي ترى المؤسسة كأنها رقعة شطرنج. لكل قطعة على هذه الرقعة طريقة معيَّنة تتحرك بها، وأسلوب معيَّن تصل به من نقطة إلى أخرى. فأسوأ ما تفعله الإدارة هو أن تتصور (أو تأمل!) أن جميع موظفيها يتحركون بطريقة واحدة. الأمر الذي يجعلها تكرِّس جهودها في أن تعلمهم، كيف يتوافقون مع قالب ثابت تحدده الإدارة مسبقاً لكل موظف، يكون محكوماً في الغالب بالتفضيلات الشخصية وطريقة نظر ممثلي الإدارة للأمور، وليس بمراعاة جودة العمل أو مصلحته العامة.
وبالرغم من الأهمية الكبيرة لعملية التعليم والتدريب في الارتقاء بأداء الموظفين في المؤسسة، إلا أنها لا تعني أن المؤسسة أو مديريها قادرون على تغيير الموظف أو تبديل شخصيته بأخرى أفضل منها. فكل موظف يمثل نمطاً محدداً من الصفات والمشاعر والسلوك والأداء. والموظفون في أية مؤسسة يختلفون في الطريقة التي يفكِّرون بها، والطريقة التي يتفاعلون بها مع الآخرين ويكوِّنون العلاقات، والطريقة التي يتعلمون بها الأفكار أو المهارات الجديدة. ويختلفون في قدرتهم على التعاون، ومرونتهم في التعامل مع العقبات. ويختلفون في درجة الإجادة التي يفضلون العمل على أساسها، وفي درجة التحضير التي يحتاجون إليها. ويختلفون فيما يثير حماسهم، ويتحدى قدراتهم، ويدفعهم إلى الأمام. والإدارة الجيدة هي التي تضع هذه الحقيقة نصب عينيها، فتراعيها عند اختيار الموظفين للعمل، وتستمر في ذلك في كل خطوة من مسيرتهم معها.
حين يقول المدير الجيد عن موظف ما إنه يريده في مؤسسته أو فريقه فإنه يعني ما يقول. لكن المدير السيئ يقولها وهو يعني «أريدك في هذا العمل، لكن بطريقتي الخاصة، وبعد أن أجري عليك كل التعديلات المطلوبة!». وهذا التفكير لا يستند إلى أي نوع من المنطق. لا منطق الأعمال والطريقة التي تسير بها، ولا منطق الطبيعة البشرية. ولهذا تكون نتيجته ضارة على كل الأطراف. ولتجنب كل هذه السلسلة من السلبيات، على المدير الجيد أن يترك هذا التفكير جانباً، ويبدأ العمل منذ البداية على اختيار الموظف «المناسب» بالفعل.
إذاً.. كيف يمكن العثور على الموظف المناسب؟ سيكون الأمر أكثر سهولة إذا استطاع المدير أن يحدد بالضبط ما هو نوع المهارات الشخصية والمواهب التي يبحث عنها. فكما يعتني كثيراً بالحصول على المؤهلات والمهارات الوظيفية المناسبة، فإن المهارات الشخصية تتطلب القدر نفسه من العناية، وربما أكثر، من الشخص المناسب الذي يمكن أن يشغل هذا الموقع بالذات؟ هل هو شخص يتمتع بقدرات عالية في مجال العمل الجماعي؟ في التحليل والملاحظة؟ في القدرة على الابتكار؟ في التنافسية؟
على المدير أن يعرف ما هي الصفات التي يبحث عنها، وبعدها يحدِّد الطريقة التي يستطيع بها أن يختبر وجودها في المرشحين لشغل هذه الوظيفة. فيبحث في خبرات الموظف السابقة، ويتيح مساحة كبيرة في المقابلات الشخصية لمعرفة هذه النقاط بالتحديد. عليه أن يسأل ويستمع جيداً، ويضع في ذهنه تصوراً عن الإجابات التي يحتاج أن يسمعها.
وإذا كانت القدرة على معرفة هذه الصفات مهارة ضرورية في الإدارة الجيدة، فإن الطريقة التي تستخدم بها هذه المعرفة هي مفتاح السر. الإدارة السيئة تميل إلى أن تكون متشككة تجاه نقاط القوة التي يحملها موظفوها، ومحملة بالخوف من أن يصاب الموظفون بالثقة المفرطة والغرور. وبالتالي، تعتقد الإدارة أن واجبها يحتم أن تعطي كل موظف تقييماً مفصلاً حول نقاط ضعفه. وإذا افترضنا حسن نيتها، تعتقد الإدارة أنها بذلك تضع الموظف في موقف المسؤولية وتدفعه نحو اتخاذ خطوات لمعالجة نقاط الضعف تلك. وهذا التوجه يجعل جو العمل جواً شديد السلبية. فكل التركيز منصب وبشدة على نقاط الضعف. أولاً بتقييمها، وثانياً بمحاولات تحسينها. بينما تهمل نقاط القوة ولا تقابل بجزء من الاهتمام والرعاية التي تستحقها. في هذا الجو، يصعب على الموظف أن يفكر في الأداء المتميز وتحقيق الأهداف الكبيرة، لأنه غالباً ما يكون مكبلاً بالشعور بالإحباط.
ومما يزيد الأمر سوءاً حقيقة أنه لا يمكنك أن تحصل على أداء متميز عن طريق العمل على نقطة ضعف. الأداء المتميز يولد عن طريق الاعتماد على نقطة قوة منذ البداية، ثم إجراء تحسينات طفيفة مستمرة للارتقاء من المستوى الجيد إلى الأفضل. أما العمل الشاق على نقاط الضعف فأقصى ما يمكن أن يحققه هو وصول الأداء فيها إلى المستوى المقبول. وهو شيء مهم إذا اعتبرنا فائدته إزالة عقبة محددة تمنع تقدم الموظف وظهور نقاط قوته في مجالات أخرى، أما أن يكون هذا الأمر هو الغاية النهائية فهذا إهدار لطاقات وقدرات غالية ومؤثرة في أداء المؤسسة وقدرتها على البقاء.
الإدارة الجيدة لا تقلقها مسألة الثقة المفرطة، وإنما يقلقها كثيراً أن تفشل في أن تحول القدرات الشخصية لموظفيها إلى أداء متفوق ومتميز. ولذلك فإن عملها مع موظفيها يتجه نحو دعم كل واحد منهم لمعرفة نقاط قوته وتحسينها والارتقاء بها إلى المستوى الأعلى.
منذ أن تنبهت المؤسسات لأهمية القدرات البشرية، أصبح السعي لضم أصحاب الكفاءات العالية إلى صفوفها في مقدمة أولوياتها. لكنها عادة ما تختار أن ترى نصف الأمر «الواعد»، وتغض الطرف عن النصف الآخر، وهو الجهد الذي عليها أن تبذله كي تحقق هذا الوعد. وكأن الموظف الجيد هو آلة إنتاجية، يكفي أن تضعها خلف مكتب وتضغط الزر! إلا أن الواقع يؤكد ما يكره عادة أن يراه المديرون. الموظف الجيد، يحتاج إلى إدارة جيدة .. توضِّح له معالم الطريق الذي يمشي فيه والأهداف التي يمشي نحوها، وتقدِّر عمله الجيد، وتحتفي به، وتفهم تميزه الشخصي، وتوفِّر له الفرص المناسبة للتعلم والارتقاء. بهذا يكون العمل مصدر فخر وإلهام، ويصبح الأداء المتميز للموظف وللمؤسسة مشهداً يومياً يلخص ما يستطيع كل منها أن يقدِّمه للآخر.
كيف يصنع المدير موظفاً مبدعاً؟
يطمح المديرون الأذكياء، إلى تطوير أداء مؤسساتهم والإبداع في إنتاجيتها، حتى يصلوا بها إلى أعلى مستوى من التطور والقدرة على المنافسة محلية كانت أم عالمية. ويدرك هؤلاء القادة أن الإبداع في الأداء والإنتاج، إنما يتحقق على أيدي الموظفين المتميزين، وبجهود جماعية من كل العناصر البشرية العاملة في المؤسسة، من قمة الهرم إلى أدنى مرتبة في هيكلها التنظيمي. فعبء العمل المتميز مسؤولية الجميع.
ويدرك هؤلاء المديرون حقيقة أن إبداع الموظفين في إنتاجهم وأدائهم يتطلب بيئة عمل متطورة في نظمها وأساليب العمل فيها، تتوافر فيها الأجواء الصالحة التي تعين الموظف على العمل، وتوفر له وسائل الإبداع في أدائه كالتدريب والتأهيل والتحفيز والتشجيع، على العكس من أجواء العمل التي تنتشر فيها الأساليب الإدارية التسلطية المتخلفة، كالترهيب والتخويف والتهديد والوعيد، والتي تنمي بدورها اتجاهات سلبية لدى الموظفين: كالأنانية والصراع المصحوب بالعداوات، والسلوكيات العدوانية. فتنتشر الأكاذيب والأعمال الكيدية.
في مثل هذه الأجواء المشحونة، تنخفض معنويات الموظفين، وتتلاشي الدوافع النفسية إلى العمل المخلص، كما ينخفض ولاؤهم للمؤسسة، وتنتشر بينهم الاتكالية والنميمة، وتختل العلاقات الإنسانية، وتبرز المحسوبية على حساب الإنتاجية، ومن ثم تتخلف المؤسسة عن الركب، وتتبدد إمكاناتها المادية والبشرية، وتتسرب إليها عوامل الفشل.
يعرَّف الإبداع في الأداء بأنه ابتكار طرق جديدة متطورة لأداء العمل، والتوصل إلى إجراءات فعالة وأفكار جديدة تؤدي إلى زيادة إنتاجية المؤسسة وتحسينها بأقل وقت وجهد ومال، وإعادة تشكيل الأساليب المعروفة وتحويلها إلى بدائل جديدة، وتقديم حلول إيجابية للمشكلات التي تواجه المؤسسة. وإضافة إلى ذلك، فإن الإبداع هو مفهوم مستمر ومتصل، يركّز على رفع المستوى النسبي لتحقيق الجودة النوعية كماً وكيفاً لأي منتج أو خدمة مستهدفة.
هناك عوامل عديدة تؤدي إلى الإبداع في العمل. فلقد ظهر أن نظم المكافآت المقيدة بالإنتاجية، وأساليب القيادة التعاونية والداعمة، والموارد المتاحة، والتنظيم الإداري الفعال، ترتبط ارتباطاً موجباً بالإبداع الفردي في الأداء، وبالإضافة إلى ذلك، فإن بيئة العمل التي تحكمها معايير تشجع على المبادرة والحماسة والاستقلالية، من شأنها أن توفر جواً ملائماً للإبداع. فضلاً عن أن هناك ثلاثة عوامل مهمة في هذا الشأن، وهي: دعم فكرة التطوير الذاتي بين الموظفين، والتفاعل الشخصي الإيجابي بين العناصر البشرية في المؤسسة، وتوفير المعلومات الحديثة ذات الصلة بتطور أساليب العمل في المؤسسات المماثلة وإنجازات المبدعين فيها لتكون متاحة لموظفي المؤسسة لدراستها والاستفادة من معطياتها.
فالأفكار والمعلومات والخبرات تلعب دوراً مهماً في تغذية الإبداع، لأنها ترتبط بكل من المعرفة المتصلة بمجال محدد، كما ترتبط بالمهارات الخاصة بالموظف، وتعني المعرفة المتصلة بمجال محدد: معرفة الفرد بالحقائق والظروف والقضايا المحيطة بمشكلة معيَّنة أو مجال معيَّن، وهي تتضمن الخبرة التقنية اللازمة للتمكن من تقديم حلول عملية لمشكلة معيَّنة. كما تؤدي المعرفة المتصلة بمجال محدد إلى التأثير الإيجابي في الأداء المبدع، وذلك بزيادة القدرة على استنباط الحلول الممكنة، والتحقق من صحتها لتحديد مدى ملاءمتها.
أما المهارات المتصلة بالإبداع الخاصة بالموظف فترجع إلى القدرة على التفكير بشكل متطور، كتوليد بدائل والتفكير خارج نطاق المألوف وعدم التسرع في إصدار الأحكام قبل التطبيق والتجربة وقبل اكتساب الخبرة، وقبل التأكد من النجاح، وقبل اكتشاف الجوانب الإيجابية والسلبية.
إن التفاعل الإيجابي مع أفراد مختلفين، وزيادة الاتصال بالآخرين بشكل عام، يُعد بداية طيبة لفهم أعمق، لأن السلوك الاجتماعي المتزايد يؤثر إيجابياً في الإبداع، ويشكل أساساً مهماً لتكوين منظور اجتماعي. ومن خلال التفاعلات الاجتماعية، تتم عملية الاحتكاك الثقافي واكتساب الخبرات والمعلومات العامة، والتعرف إلى الإنجازات الإبداعية الأخرى وأساليبها. كما أن المبادرة الشخصية من قبل الموظف في توسيع شبكة الاتصال بمصادر الخبرات والمعلومات، من خلال العلاقات الاجتماعية، والاطلاع الشخصي، وحضور الملتقيات والندوات ذات العلاقة بعمله، تلعب دوراً مهماً في توسيع آفاق فكره الإبداعي وتطوير ذاته.
كما تجدر الإشارة إلى أن تشجيع موظفي المؤسسة على ما تقدم وتسهيل احتكاكهم بمصادر الخبرة وتفاعلهم الإيجابي مع المعلومات المتصلة بأعمالهم، من شأنه أن ينمي الاتجاهات الإبداعية لديهم، ويزودهم برؤية حقيقية عما حققه الآخرون من أعمال إبداعية عظيمة. كما أن من أهم أسباب تطوير الموظف: شعوره بالاطمئنان، ومنحه الثقة الموضوعية المبنية على ما يحققه من عمل متميز بالجودة كماً وكيفاً، وإبرازه، والثناء عليه في المناسبات العامة أمام موظفي المؤسسة وغيرهم، وكل ذلك يعود بالخير ليس على الموظف وحده، بل على المؤسسة وقيادتها.
الدكتور علي بن عبد العزيز العبد القادر