مُحترف دانا عورتاني، الذي يحتل الدور الثاني من سكن العائلة، ينقسم إلى قسمين: داخلي وخارجي. وهي تستخدم الاثنين، حسب نوع العمل وحجمه، وحالة الجو بطبيعة الحال. ومن النظرة الأولى أنت تعرف أنك في محترف فني من نوع آخر. هناك مناخ من الصفاء والهدوء والتوازن يحيط بالمرسم، دون أن يفقده حيوية هادئة متّسقة تشع من أعمال فنية معلّقة دون إطارات ثقيلة على الجدران، ومن فنانة تتنقّل بين أرجائه مرحة، واثقة، مجتهدة.
ليست هناك لوحات كثيرة متراكمة مرصوفة قرب الجدران، ولا حوامل عليها لوحات غير مكتملة، ولا أكواب كثيرة من الفرش المتراّصة، ولا أكوام أنابيب الألوان والأقمشة المتسخة على الأرض، وغير ذلك مما نراه دائماً في مراسم الفنانين التشكيليين. أنت هنا في مدار آخر تماماً. كل شيء نظيف ومرتب بعناية فائقة. وربما اليوم أكثر من العادة، لأن الفنانة الشابة تستعد للقيام برحلة إلى جنوب إفريقيا بعد ساعات قليلة. لكن ترتيب مرسمها، بما في ذلك عِدد الرسم والألوان والأوراق وغيرها، لا تساهل فيه، لا بل هو أشبه بطقس أساسي من طقوس نوع الفن الذي تمارسه والذي يقوم على دقّة هندسية فائقة وعناية شبه صوفية بالتفاصيل.
المشهد العام من بعيد يشبه مراسم المهندسين من حيث العدة الفنية. ويشبه مصممي مصانع الخزف والسيراميك وأقمشة الأرابسك من حيث الرسوم المعلّقة على الجدران، إضافة إلى مكعّبات هندسية من أشكال مختلفة. المساطر والبيكار الكبير وأقلام الروترنج، أنواع من العِدد اختفت من التداول إلا من مرسم دانة عورتاني، أو تكاد. مجموعات الألوان المعبّأة في حناجر خاصة جميعها مستخرجة من مساحيق طبيعية. وتعدّها دانة كما كان فنانو وحرفيو العصور السابقة يعدون أحبارهم وألوانهم. جميعها من مواد طبيعية من مصادر مختلفة في الخارج.
لذلك تأتي الألوان في الرسوم دافئة، نضرة، صافية. وكي تحافظ دانة على نقاء اللون جعلت لكل لون صدفة بحر خاصة به تمزجه فيها وتعدّه للرسم. إنها ألوان أصلية وأحبار أصلية، لمن يعرف ما هي الألوان الأصلية بالفعل. إنها حالة لونية خاصة لا نراها إلا في منمنمات الأقدمين، أو السجاد الفارسي العريق.
إلى الجانب الآخر مكتبة غنية بالمراجع التي تعدها دانة مصدر إلهام أساسي، بل مصدر إلهامها الأكبر، وحيث إن فنها يبدأ من إحياء مزاج فني كاد أن يندثر-دون أن يقف عند ذلك- فهي تحتاج إلى الرجوع لأعمال تعيد فيها الصلة بعالم الفن الهندسي الذي يخبّئ في ثناياه روحية الشرق. من زخارف المصاحف، إلى أعمال الأرابسك وصولاً إلى حدود بعض الزخرفة التي رافقت فناني أوروبا الانطباعيين مثل ماتيس وغيره. ومَنْ يستعرض أعمال دانة يشهد بأنها أشبه ما تكون ممتطية «قطار الشرق السريع»، تنطلق من فنّه الهندسي الثري العريق، لتدخل العصر الحديث. وفي أعمال دانة الأخيرة بنوع خاص، التي شاركت فيها بمعارض جدة هذا العام هناك بلا شك ملامح جديدة: أنت أمام مشهد يتصل بالتراث بحسه الشرقي الصافي من جهة، وبالعصر الحديث بنضارته وجرأته وبساطته من جهة أخرى.
الحقيقة أن هذا النوع من المجهود الفني (لكيلا نستخدم تعابير مستهلكة) يمكن إلى حد ما تشبيهه بحركة فنية كان لها أثر بعيد في فنون القرنين التاسع عشر والعشرين، ليس التشكيلية فقط وإنما بكل ما يحيط حياتنا من أدوات وأثاث وقماش وما إلى ذلك والتي عُرفت بحركة الفنون والحِرف في بريطانيا The Arts and Crafts movement. خصوصية هذه الحركة أنها تنشط وتنمو وتنتج على الحدود ما بين الفن والحرفة اليدوية، وبالتالي أغنت الحِرف بعطاء فني راقٍ ظهر في الأواني والأقمشة وغيرها، وذلك دون أن يسلب الفنون مكانتها المرموقة.
وحين طرحنا على دانة هذه المقارنة وافقت بحماسة. إنها تعرف هذه الحركة جيداً، وإنتاجها في توزعه على المواد المختلفة من ورق وقماش وخشب وسيراميك، يجاري تلك الحركة الحرفية في تعدد المواد.
وبالفعل نجد في بعض أرجاء المرسم أعمالاً زخرفية على الخشب تحوّلت إلى صندوق بغطاء يمكن أن يستخدم لحفظ ما نشاء. وألواح من السيراميك يمكن إعادة إنتاجها فتزيّن جداراً في متحف أو صالة مؤتمرات. ودانة تحب موادها جميعها، وإن كان الرسم على الورق بالحبر والألوان هو الأثير لديها. وهي محقّة بهذا التفضيل بلا شك، ذلك أنه في الأعمال على ورق تظهر أعلى درجات التعبير لديها، حيث لا يغني أي شرح أو تحليل عن النظر. انظر إلى هذه الأعمال فينفتح أمامك فضاء روحي متّسق أخّاذ. وفنانتنا الشابة التي تعرّف نفسها كفنانة سعودية فلسطينية، بدأت رحلة الشرق لتطل على العالم الفسيح، وها هي صالات العالم تستقبلها بحماسة وإعجاب.
سيرة دانة
«دانة عورتاني حققت التميز الأكاديمي؛ تقديراً لدراستها في الفنون والمعمار التراثي الإسلامي».
ولي العهد البريطاني الأمير تشارلز
دانة عورتاني سعودية من أصول فلسطينية، درست الفن المعاصر في كلية سنترال سانت مارتين، ولكنها وجدت نفسها تتجه إلى دراسة الفن الإسلامي، وهو ما تعده اكتشافاً. تقول دانة التي حصلت على درجة الماجستير من المدرسة مع مرتبة الشرف: «سمعت عن مدرسة (ولي العهد البريطاني) الأمير تشارلز للفنون التراثية من صديقة للعائلة تقوم بالتدريس في لندن، وعندما رأيت الموقع الإلكتروني للمدرسة قررت الالتحاق بها». تشير دانة إلى أنها درست خلال السنة الأولى أشكال الأعمال الحِرفية والتقليدية، التي تنوعت من الرسم والأرابيسك والخزفيات، إلى الخط والزخرفة وعمل الأيقونات، والرسم على الزجاج. بعد ذلك قررت الاتجاه إلى السيراميك والرسم، وكيفية استخدام الهندسة في أكثر من مجال.
سنوات الدراسة في المدرسة فتحت أمامها باباً لاكتشاف الفنون التراثية: «لم أكن أعرف كثيراً عن هذا النوع من الفنون، ولم أكن حتى أعرف إن كان هناك من لا يزال يمارسها، ولكنني الآن تحوّلت تماماً إلى صفها وازداد تقديري لها».
ما يجعل هذا النوع من الفنون مميزاً، برأي دانة، هو التركيز على الجودة والخامات المستخدمة، وتضرب المثال بالألوان التي يستخدمها الطلبة في مدرسة الأمير تشارلز: «نقوم بتجهيز الألوان التي نستخدمها بأنفسنا بالطريقة التقليدية. فالألوان المجهزة بهذه الطريقة تستمر مدّة أطول، وتحافظ على بهائها وجمالها. موطن الجمال في الفنون التراثية يتمثل في الطريقة التي تنفذ بها الأعمال الفنية، سواء كان ذلك عبر اختيار الورق أو الألوان والفرش».
مشاريع دانة المستقبلية تبدو متأثرة بدراستها، فترى نفسها تعود إلى السعودية لتعمل بالتدريس هناك: «هذا إرثنا وتاريخنا، وأنا متيقنة من أن هناك كثيرات ممن سيستفدن من دراسة هذا النوع من الفنون». تبدو حماسة دانة منبعثة من انتهاء سنوات انغمست فيها في عالم التراث، ولكنها أيضاً ترى أن ذلك التأثر سيمتد، وقد ينتج عنه إقامة معارض فنية خاصة بها.