في الثمانينيات من القرن الميلادي الماضي، ظهرت دراسات جاء فيها أن النبات يتبادل إشارات إنذار من وشوك هجوم حشرات آكلة للنبات. إذ قال بعض الباحثين آنذاك إن بعض أصناف النبات يُنذر النباتات المجاورة، أو حتى إن بعض الأغصان فيها ينذر أغصاناً من النبتة نفسها، بالخطر الداهم. لكن هذه الدراسات انزوت إلى الصمت، وظن الناس أنها كلام فارغ. وكان الأمر سبباً ليتهكم علماء على زملائهم، لا سيما حين صدرت في مجلة «أميركان ناتشرلست» (عالِم الطبيعة الأمريكي) مقالة نقدية قوية الحجة.
لكن الباحث في جامعة كاليفورنيا، رتشارد كربان، وهو متخصص في العلاقة بين النبات والحشرات آكلة النبات، اندهش سنة 1990م حين قرأ دراسة لإدوارد فارمر وكلارنس رايان، تؤكد أنهما وضعا نبتة طماطم سليمة تحت غطاء زجاج، وبقربها لكن دون تماس، نبتة أرطُماسيا متضررة، فلاحظا أن الطماطم زادت إفراز دفاعها حيال الحشرات. وكان كربان يعمل أبحاثاً عن نبات التبغ، القريب في سماته الجينية من الطماطم، فجرب الأمر، واكتشف فعلاً أن نبات الأرطُماسيا يرسل إشارات إنذار «لاسلكية»، حين تهاجمه الحشرات.
تحمّس كربان للأمر، وقرر أن يتوسَّع في أبحاثه. واكتشف أن أغصان الأرطُماسيا تتحاور بإشارات ترسلها في الجو، فتتجاوب الأغصان الأخرى. وفي البدء شك في أن المحاورة كيميائية، تجري عبر النبتة نفسها. فوضع نبتتين واحدة قرب الأخرى، من دون تماس بينهما، فتأكدت له نظرية الاتصال الجوي. ثم أعاد التجربة بنبات غلفه بأكياس بلاستيك، ونبات لم يغلفه، فتيقن من أن ثمة فارقاً واضحاً في رد الفعل بين الفئتين. وعاود مع زملائه الباحثين التجارب، بنبات من فصائل أخرى أو من نبات مستنسخ، وبنبات أبعده قليلاً بعضه عن البعض، فخرج بنتائج تؤكد له، أن نبات الفصائل المتقاربة في الصنف وفي المسافة تأثرت أقل من غيرها بهجوم الحشرات. ولذا فهي تلقت إشارات «أقاربها» من النبات و«فهمتها» وتصرفت بناءً عليها. ولاحظ أن النبات كثيراً ما يملك وسائل نقل رسائل، ولا سيما بين أجزاء النبتة الواحدة، لكن عبر العروق في جسم النبتة نفسها. أما النبات الصحراوي على الأخص (والأرطُماسيا صحراوية)، فهو ضعيف الاتصال «الداخلي»، ولذا طوّرت النبتات الصحراوية نظام إنذار «بالاتصال الجوي».
ولاحقاً استنسخ كربان نبتة أرطُماسيا، ليدرس الفرق بين إشارات تأتي إلى النبتة من «أقارب» في فصيلة النبات ذاتها، وإشارات تأتي من النبتة نفسها، أو من نسختها (أي من ذاتها). وتكررت التجارب في أيار/مايو 2007 و2008م، من أجل تأكيد النتيجة. فاكتشف الفريق أن النبات المستنسخ أصيب بضرر الحشرات آكلة النبات، بنسبة %42 أقل من الضرر الذي لحق بالنباتات الأخرى. ونشر كربان نتائج البحث في حزيران/يونيو الماضي، في مجلة «رسائل في علم البيئة» الأمريكية (Ecology Letters). وتؤكد هذه النتائج بما لا يقبل شكاً علمياً، أن النبات يتبادل الإشارات في الجو، وأنه قادر على تلقي هذه الإشارات والتصرف بموجب ما تحمله من رسائل.
وأثار البحث حماسة كثير من العلماء المهتمين بهذا القطاع من العلوم، حتى قالت كونسويلو دي مورايس، أستاذة علم الحشرات في جامعة ولاية بنسلفانيا، إن «هذه دراسة مثيرة، وهي تطرح مسائل مهمة، عن طبيعة وسائل إرسال الإشارات واستقبالها بين النباتات». وأضافت أن النباتات، حتى تتحاور أغصانها فيما بينها، وتتحاور النباتات من نبتة إلى أخرى، فلا شك في أن الأدوات التي تملكها «متطورة جداً». ورأت أن ما يهمها في أبحاثها، هو دراسة فوارق الإشارات، وعلاقتها بتوالد النبات وصلة «القربى» فيما بين النبتة والنبتة، وما يمكن أن تكون الخلاصة في شأن علم الجينات النباتية.
ويريد كربان الآن أن يدرس إذا كانت القدرة على إرسال الإشارات من الخصائص الجينية في بعض النبات. وهو ينوي بذلك معرفة الوسائل التي تتبعها النباتات في الدفاع عن نفسها، من أجل محاولة تطوير وسائل البشر في مكافحة الآفات الزراعية التي تنشأ من هجوم الحشرات.