لا يزال الباحثون الاقتصاديون والإداريون غارقين في قراءة وتحليل أسباب أزمة المال العالمية التي انطلقت من الولايات المتحدة الأمريكية في سبتمبر 2008م وتمتد إلى أوروبا ودول آسيوية، لتصنَّف بأنها الأسوأ من نوعها منذ «الكساد الكبير» سنة 1929م. الباحث الأمريكي جاري هامل (Gary Hamel) أحد أبرز المحللين الذين عكفوا على دراسة تلك الأزمة وانتهى به المطاف عام 2012م إلى إصدار كتاب عنوانه «أهم المهمات الآن: كيف تفوز في عالم متنافس لا تتوقف فيه عجلة التغيير والابتكار؟». هشام محمد قربان، قلَّب صفحات هذا الكتاب (288 صفحة من القطع الوسط) وأعد هذه المراجعة.
يستمد كتاب «أهم المهمات الآن: كيف تفوز في عالم متنافس لا تتوقَّف فيه عجلة التغيير والابتكار» أهميته من أمرين. الأول أن موضوعه يستشرف علم الإدارة في المستقبل، والثاني أن مؤلفه جاري هامل من القامات العلمية الفذة التي تفخر بها «مدرسة لندن لعلم الإدارة»، كما أن «وول ستريت جورنال» اختارته واحداً من 5 خبراء مؤثرين في العالم هم بيل جيتس، وتوماس فريدمان، ومالكولم جلادويل، وهوارد جاردنر. وهو أيضاً مؤسس لكثير من الجمعيات الرائدة والمشهورة في مجال الإدارة.
ويرى هامل أن الأسس اللازمة لبناء منشآت تجمع بين أهليتها وجاهزيتها للتحدي المستقبلي ومواءمتها للفطرة الإنسانية، تتمحور حول خمس قضايا جوهرية هي: القيم، والابتكار، والمرونة، والشغف، والأيديوليجيات.
نهضة أخلاقية
ينطلق هامل في مؤلفه، من فكرة أساسية مفادها أن المستقبل يحتاج إلى نهضة أخلاقية. والأساس المتين لهذه النهضة، هو الاعتراف بأخطاء الأمس التي أفرزت التأزم الاقتصادي العالمي والتعلم منها، فالعقلاء يقرون – بعد وقوع الفأس في الرأس – بالآثار السيئة لسياسة الإغراق في الديون الناتجة عن تسهيل الاقتراض غير المنضبط لشراء العقارات، التي شجَّع عليها وأعانها ذلك الشعور الواهم بالأمن الذي نسجته شركات التأمين، ووقع كثيرون ضحية لعوامل معقَّدة وممارسات رأسمالية خطأ قوامها الطمع في الربح السهل، وقصر النظر، وتزييف التقارير السنوية، والخداع، والإنكار، وتقديم مكاسب الساسة وأعضاء مجالس الإدارة على المصالح العامة، وغياب الشفافية، والاستهتار بحقوق المستهلكين.
نحن جميعاً في حاجة مُلحة إلى إعادة اكتشاف ونشر وتعلم «أخلاق الفلاحين»، الذين كانت حياتهم ولا تزال مدرسة لكثير من القيم التي نسيناها مثل العمل الجاد، والكرامة، والتضحية، والتوفير، وتنويع المحاصيل للمحافظة على جودة التربة، والحصانة من إغراءات العروض البنكية، انطلاقاً من المقولة الشهيرة «لا تشتر إلا ما تملك ثمنه».
فالمستقبل يدعونا – في النظام الرأسمالي خصوصاً- إلى التخلص من متاهة النرجسية، والشعور بالكمال الزائف، وضرورة نقد الذات، وإعادة النظر في كثير من المفاهيم والفرضيات الأساسية المتعلقة بالأهداف الحقيقية للمنشآت، ومن هو المستفيد الفعلي من أعمالنا؟ وما فائدة ما نعمل وما هي قيمته المضافة؟
لا بد للنهضة الأخلاقية من التخلص من الأفكار الهدامة والسامة وإبدالها بقيم جميلة وبناءة، فلم لا نجعل تحسين حياتنا كبشر الهدف الرئيس لأعمالنا بدلاً من سعينا القديم وراء الربحية؟ ولم لا يجاوز منظورنا لعملائنا الحدود الضيقة في كونهم من يشتري ما ننتج، ويتعداها إلى منظور شامل إلى كونهم بشراً تتأثر حياتهم بمشاريعنا وقراراتنا؟ هل نبني علاماتنا التجارية على أساس من عرض الفوائد الحقيقية لمنتجاتنا أم على أساس الاستثمار في خطط تسويقية جوفاء ومكلفة؟
ضمان المستقبل
ليس الابتكار ترفاً أو موجة عابرة، بل هو ضرورة تدفعنا إليها تحديات حياتية كبيرة، فالابتكار الذي تُحتِّم أهميته علينا إعادة النظر في تعريفنا له، يعيننا على إيجاد حلول لمعضلات ضخمة يشكل كل منها نظاماً معقداً متعدد الأبعاد والعوامل والمتغيرات مثل التغير المناخي العالمي، والأوبئة الجديدة، والجريمة، والفساد، والتغول السياسي.
ومن المهم في هذا السياق التعرف إلى خمسة أصناف مختلفة للابتكار والمبتكرين، والدروس المستقاة من كل صنف تختلف في سياقها عن غيرها، ولكن تجارب الأصناف الخمسة -في مجموعها- تعطي مفهوماً أرحب وأكثر شمولاً للابتكار، وهي:
1 – الصواريخ: مصطلح يشير إلى بعض الشركات الناشئة ذات النماذج الجديدة والجريئة، التي أحرزت نجاحات سريعة جعلتها تزاحم بعض الشركات الكبرى، وهي تُصنَّف من ضمن الشركات الأكثر ابتكاراً في العالم، مثال: Gilt Group, Hulu Web TV, Spotify Music، ولكن التحدي الذي يواجه هذا الصنف هو المحافظة على القدرة على الابتكار. والصواريخ – كصورة رمزية – كما نعرف تسير في مسار بيضاوي، تبدأ بالانطلاق بعيداً، ثم ما تلبث أن ترجع إلى نقطة انطلاقها.
2 – الكبار: مصطلح يصف الشركات الكبرى مثل Microsoft, Novartis, Intel التي تواصل الابتكار عاماً بعد عام، وذلك يرجع إلى استثماراتها الضخمة في مجال البحث والتطوير، ولكن القدرة على الابتكار لدى هذه الفئة تظل محدودة، وكثيراً ما تفشل أمام شركات صغيرة. ففي الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال، حصلت شركة سامسونج على 4551 براءة اختراع عام 2010، لكنها ليست العلامة التجارية الأكثر رواجاً في أمريكا في مجال التلفزيون ذي تقنية LCD، بل تنافسها شركة صغيرة ناشئة اسمها VIZIO يعمل فيها 200 عامل، وتتجاوز مبيعاتها السنوية 2.5 بليون دولار.
3 – الفنانون: وهو تصنيف يشير إلى نمط من الشركات يختص بإنتاج الابتكار نفسه والتركيز عليه، وتمثل في مجموعها ثلث عدد الشركات الابتكارية، مثل BMW Design Works ، IDEO، Grey New York للإعلان. فهذه شركات تديرها نخبة من الفنانين، تثمن الأفكار الجريئة، وتبني عليها، ولا تتعجل في الحكم عليها وتصنيفها، وتحرص على استدرار أكبر عدد من الأفكار.
4 – الرجل ذو القوى الخارقة للعادة: ومثال هذا الصنف شركات رائدة تعيش وتتنفس الابتكار في أغلب أمورها وأساليبها الإدارية غير النمطية، مثل Apple, Amazon Google.
5 – التائبون الجدد: وأمثالهم شركة FORD, Procter & Gamble, IBM، وهي شركة قديمة اعتنقت الابتكار أخيراً، وبدأت رحلة مضنية وجادة للتغيير.
المرونة والقدرة
من أهم الدروس في هذا المجال هو الاعتراف بحاجتنا إلى تغيير أنماطنا في عصر تتسارع فيه المتغيرات، ويتبدل فيه كثير من المسلمات في العلوم ومجالات أخرى، ولعل أهم سؤال ينبغي طرحه في كل منشأة للبحث عن إجابة مقنعة: هل تواكب منشأتنا التغيير من حولنا؟ لعل الإجابة بالنفي هي الأصح، ولعل الناظر في صناعة الهواتف المحمولة يرى ما نقصد بالمرونة وتغيير طريقة التغيير. فلقد أسست هذه الصناعة شركة موتورولا التي ظنت في حينها أنها آمنة من المنافسة، حتى أتت شركة نوكيا، ثم زاحمتها شركة بلاك بيري، ثم نافستها شركة أبل بالأيفون.
أقوى من التحدي
يقر هامل بأن مبحث «اجعل منشأتك أقوى من التحدي المستقبلي»، جدير بأن يؤلف فيه كتاب خاص، ويذكر هنا ستة عوامل رئيسة تعتمد عليها قدرة أي منشأة على التكيف لتكون أقوى من التحدي المستقبلي، ثلاثة من هذه العوامل تتعلق بأنواع التكيف:
1 – التكيف المعرفي: عن طريق تحدي الفرضيات وتنويع الموارد والتشجيع على خلاف التنوع.
2 – التكيف الاستراتيجي: من خلال تنويع الخيارات الاستراتيجية وإجادة فن جذب الأفكار الكبيرة وتقليل تكلفة التجريب.
3 – التكيف الهيكلي: أهم نصيحة هنا هي عدم حصر المنشأة لصورتها الذاتية وكينوتها في سوق محددة أو منتج متخصص، وأفضل من هذا تعريف المنشأة نفسها على أساس مهاري ومنصات عمل واسعة النطاق.
أما العوامل الثلاثة الأخرى فتتعلق بتوقعاتنا وهي: التنويع، وقيم استيعاب الأخطاء وسرعة معاودة الكرة، والتعلم من جديد.
أما توقعاتنا، فلا مفر لنا من مواجهة التغيير الذي لا يمكن منعه، وينبغي ألاَّ يقتصر تعلمنا من بؤرة التغيير، ولنتعلم من الأطراف البعيدة، كما نحتاج أن نتخيل أنماط المستقبل المحتملة (سيناريوهات): لا تكفي رؤية الموجة المستقبلية من بداياتها، ولا بد من تخيل مآلات الأمور لهذه الموجة، والطرق المختلفة لتفاعلها وتطورها، وهذا يقوي مرونة المنشأة وجاهزيتها لاحتمالات مختلفة قبل حدوثها.
4 – الشغف: كلنا لا نحب أن يعالجنا طبيب يقتل مرضاه، وكذلك فإننا لا نأمن شرطياً إذا علمنا أنه ارتكب عدداً من الجرائم يفوق عدد التي منع حدوثها، وأمثال هذه الحالات الشاذة تغضبنا، ولكننا في المقابل نتصرف ببرود ولامبالاة حينما تواجهنا أبحاث موثَّقة تبيِّن مسؤولية الإدارة في خنق نار الابتكار والحماس داخل المنشآت ومحاربتها للجهود الابتكارية بدلاً من تشجيعها واحتضانها. وفي هذا السياق نستشهد بالدراسة الاستقصائية الكبيرة حول نسبة المشاركة الفعلية للعاملين (Engagement) التي أجرتها Towers Watson في عامي 2007-2008. شملت هذه الدراسة 90 ألف موظف في 18 بلداً، وأظهرت أن نسبة المشاركة الحقة من قبل العاملين في الشريحة المدروسة بلغت %21، أما نسبة المشاركة الجزئية أو عدم المشاركة فبلغت %38.
ولعل أهم الأسباب لتدني اهتمام بعض المسؤولين الإداريين برفع مستوى المشاركة: الجهل بتدني نسبة مشاركة العاملين، عدم الاهتمام، والإحساس بالعجز تجاه هذه الظاهرة غير الصحية.
مصلحة الأفراد
لمبحث «تقديم مصلحة الأفراد على المنشآت» صلة وثيقة بالشغف، فلا يتوقع ولادة هذا الشغف ونموه وسلامته في وسط لا يثمن الفرد لذاته وقدراته، ويقدِّم مصلحة المنشأة على مصلحة أفرادها. ومن المؤسف أن نجد عدداً لا يستهان به من البحوث والاستبانات يشير إلى تدني مستوى الثقة في المنشآت. فمثلاً تذكر إحدى الدراسات الأمريكية، تدني مستوى الجدارة بالثقة للساسة والإداريين التنفيذيين، في حين تذكر دراسة أخرى أن %75 من الأمريكيين يرون تدني مستوى المصداقية للمعلومات التي تصلهم من الرؤساء التنفيذيين في الشركات.
ويقترح جاري هامل عدداً من المنطلقات التي نبني عن طريقها منشآت تتمحور حول خدمة الإنسان الذي يعمل بها وهي: البعد عن المركزية، والشفافية، والحرص على بناء جماعات متآلفة داخل المنشآت بعيداً عن الطبقية، وإعطاء العاملين الصلاحية في تقييم أداء من يقودهم، المكافأة على أساس المشاركة والأثر (وليس على أساس السلطة والمسمى الوظيفي)، واستبدل التقييم الوظيفي بالتقييم بين الأنداد بدلاً من تقييم الأعلى للأقل رتبة وظيفية.
تحدي الأيديولوجيات
لعل البعض ينكر وجود هذا المسمى في عالم المنشآت، ولكنه موجود وإن اختلف مسماه. وفي هذا السياق تبرز ثلاثة أسئلة: ما هي الأيديولوجية الإدارية المتمثلة في اللب والحقيقة المركزية لمفهوم الإدارة؟ ما هو النقيض الفكري لهذه الحقيقة المركزية؟ وكيف نؤسس منشآت يتجاذبها الطرفان في توازن وتجاذب خلاَّق ومبدع، فلا يفوز جانب على حساب الآخر؟
إن التحول الإداري من المفهوم الطبقي إلى الإدارة بلا طبقية، تجربة واعدة وجديرة بالتأمل، ومن أجمل الأمثلة Gores & Associates، وهي شركة أسسها مهندس كيميائي W. L. Gore في عام 1958 يعمل فيها 9 آلاف مشارك في 50 بلداً، وتنتج 1000 منتج، ولم تخسر هذه الشركة منذ إنشائها قبل 50 عاماً.
وتصف الرئيسة التنفيذية لهذه الشركة تيري كيلي الممارسات التي يستغربها الناظر من خارج الشركة، فتقول: ليس لدينا طبقية، فلا يوجد لدينا رؤساء ونواب رؤساء، واتخاذ القرار لا يخضع لأي طبقية، فبإمكان أي عامل لدينا التواصل مع أي شخص للعمل أو اتخاذ قرار ما، ولا توجد في شركتنا ألقاب أو مناصب، فكل العاملين شركاء، وكل عامل لدينا حر تماماً في اختيار ما يمكنه عمله وما يمكنه إنتاجه، ولا يتم تعيين القادة من المناصب العليا حسب الأقدمية أو العلاقات، بل إن أتباع هؤلاء القادة – موظفون آخرون – ومن يثق بقدراتهم هم من ينصبونهم في مناصبهم القيادية.
وفي هذا السياق أسس جاري هامل مشروعاً يهدف إلى رفع سقف الطموحات وإعادة ابتكار علم الإدارة للقرن الحادي والعشرين هو «مجموعة حوار الابتكار الإداري».
ويقول جاري هامل، إن نشأة هذه المجموعة ترجع إلى لقاء متميز نسَّقه في عام 2008، ودُعي إليه 36 خبيراً من أهم المختصين الإداريين في العالم، ووجَّه إليهم سؤالاً مهماً هو: ما هي أحدث البحوث والتحديات الفكرية في علم الإدارة، التي توازي في مستواها وأهميتها تلك المشاريع العلمية مثل مشروع الجينوم البشري ومشروع تقنيات الحاجز الكربوني واكتشاف المريخ؟
واختار جاري هامل هذا السؤال لأنه لاحظ ظاهرة مقلقة وغير صحية، وهي أن كثيراً من الباحثين ومنسقي البحوث الإدارية منشغل بملاحقة وتوثيق أفضل الممارسات والتجارب، وبهذا فالإبداع والابتكار الإداري جزئي وبطيء، لأنه مشتت الذهن ومحدود وقاصر على متابعة النجاحات القائمة، فلماذا لا يوجد بيننا من يسأل أسئلة جوهرية حول إعادة اختراع الإدارة؟ أسئلة تشابه في تحديها تلك التي تشغل بعض المجالات العلمية مثل: اختراع آلة تفكر مثل البشر، وأساليب التحكم في التصنيع بتقنيات النانو.
واستخلص من هذا التساؤل 25 تحدياً فكرياً وأفاقاً ابتكارية جديدة تواجه المختصين منها: الارتقاء بأهداف الإدارة، وزيادة الثقة وإنقاص الخوف، وابتكار وسائل أفضل للتحكم، والتشجيع على القفزات التخيلية، وإضفاء
المتعة على مفهوم العمل، وتجهيز نظام شمولي لتقييم الأداء.
وقررت المجموعة توجيه بوصلة البحوث لهذه التحديات، ويعلن بين الحين والآخر عن مسابقات بحثية تتعرض لواحد أو أكثر من هذه التحديات، ويتم اختيار ما يعرض من التحديات بالتشاور بين المجموعة ودورية هارفارد للأعمال ومجموعة ماكنزي الاستشارية.