طيلة ثمانية أعوام، ويوماً بعد يوم، واظب الصحافي والناقد إبراهيم العريس على كتابة زاوية يومية في جريدة “الحياة” بعنوان “ذاكرة القرن العشرين”. وفي هذه السطور يتحدث صاحب الزاوية، للمرة الأولى، عن تجربته وما آل إليه بحثه في أدغال هذا القرن، من جانب الأحداث والشخصيات والمفاهيم.
بدأت الحكاية بدردشة كان يمكن أن تكون عابرة، حدث ذلك في عتمة زقاق لندني ذات مساء خريفي وعقد التسعينيات في أوله. كانت نهاية القرن تلوّح لنا من بعيد، وكما في كل نهاية كان ثمة شيء يشبه الحزن وشيء يشبه الفضول. لكن السؤال الأساس بين ما يشبه هذا وما يشبه ذاك كان: ما الذي نعرفه حقاً عن هذا القرن الذي يؤذن بالنهاية؟ عن هذا القرن الذي عشنا في جزء منه ويبدو لنا، مقارنة بكل القرون التي سبقته، أغربها وأعنفها وأروعها، وجملة من أفعل تفضيل أخرى؟ للوهلة الأولى يكون الجواب بسيطاً: نعرف منه على قدر ما عشنا فيه وما شاهدنا أو سمعنا عنه.
“بديهي، عزيزي واطسون أليس كذلك؟” كما قد يقول شرلوك هولمز. وبديهي أن نرى، عبوراً، أننا نعرف عن قرننا العشرين أكثر مما نعرف عن أي قرن آخر، فهو القرن الذي عايشنا نصفه على الأقل، ميدانيا، أما القرون الأخرى فجاءتنا حبراً على ورق الكتب أو مواد تملأ المتاحف أو حكايات متناقلة.. وكان في ذهننا دائماً قول منسوب إلى غوستاف لوبون: “لو كان الحجر ينطق لكان التاريخ كذبة كبرى”.
بالنسبة إلى القرن العشرين، لم نكن في حاجة إلى حجر ينطق. كنا في حاجة إلى شحذ الذاكرة لا أكثر. وهكذا، لوهلة أولى طُويت الدردشة.. وغابت الفكرة، غير أن الذاكرة الملحاح لم تنم ليلتها. أقل ما فعلته أنها استعادت السؤال الأساسي.. ولكن ما الذي نعرفه حقاً عن القرن العشرين؟
منذ صباح اليوم التالي، وفي فضول يتسم ببعض القلق وببعض التهكم أيضاً، راحت اليدان والعينان تعبثان بما كان في متناول اليد من صفحات وصور تروي نزراً يسيراً من حكاية القرن: كانت الغاية، أول الأمر كما يبدو، التيقن من أن في الإمكان وضع الحكاية كلها في سلة محفوظات التاريخ ونسيانها، في انتظار قرن تالٍ نعيشه أو نعيش بعضه من جديد.
كانت الصفحات والصور معهودة من قبل. ولكنها كانت تلوح متفرقة متباعدة، يبرر تباعدها بعضها البعض… أما هنا، أمام إلحاح الذاكرة المشاغبة… فبدا الأمر مختلفاً: بدأ التراكم يشير إلى نواحٍ لم تكن متوقعة. والأمر الذي ابتدأ لعبة، تحول بسرعة ليعج هاجساً. والهاجس تحول بحثاً ليتحول البحث إلى زاوية يومية في الصحيفة. في البداية، أمام “زحمة” الحكايات والمعلومات وتشعبها كالمتاهة، كان الرهان ألا تدوم الزاوية إلا أشهراً… لكنها دامت ثماني سنوات، وبلغ مجموع قطعها أكثر من ثلاثة آلاف.
من الناحية التقنية للبحث، كان الأمر غريباً، ولكنه يدخل ضمن حدود الممكن: عبارة عن رواية قصة القرن العشرين، يوماً بيوم، من خلال أحداثه السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية، ولكن أيضاً من خلال ضروب الإبداع التي استشرت فيه، بين مسرح وأدب وموسيقى ورسم وسينما وما إلى ذلك.
ومن هنا كان كل شيء أمراً صالحاً ليرتسم في الزاوية.. كل حدث وكل ذكرى موت وكل موعد صدور كتاب أو عرض فلم، في طول القرن العشرين وعرضه. وكان المطلوب، معلومات عن كل حدث وعن كل شخص، يمكن استخدامها لوضع تحليل ثم تعليق واستخلاص نتائج ما.
غير أن هذا الجانب التقني سرعان ما وجد نفسه متجاوَزاً… وبفعل العنصر الذاتي وجد نفسه ينحو بالتدريج على حساب العنصر الموضوعي. فلم يعد تاريخ القرن العشرين ما يروى. صار ما يروى هو نظرة الكاتب الذي يروي إلى ذلك التاريخ. ومن هنا سرعان ما حلت كلمة “ذاكرة القرن العشرين” محل “تاريخ القرن العشرين” لأن مفهوم الذاكرة ألصق بالذات، من مفهوم التاريخ، وأيضاً لأنه إذا كان التاريخ يكذب فإن الذاكرة يصعب عليها أن تكذب.
والحال أن هذا البعد الأخير، الذي سرعان ما بدا حاسماً بالنسبة إلى صاحب الزاوية – المتذكّر – أملته ملاحظات فرضت نفسها بسرعة: وماذا لو كان كل ما نعرفه عن تاريخ القرن العشرين كاذباً أو مبتسراً أو مغرضاً؟ كان هذا هو السؤال الذي نبع عن تلك الملاحظة.
والحقيقة أن الفرق، طوال تلك السنوات الثماني، في كل ما أنتجه وحققه وعاشه القرن العشرون، كان لا بد له أن يسفر عن ذلك السؤال. الفرق في الوثائق والصور والمقارنات والتقاطعات والتصريحات والأقوال والأفعال، كما في النتاجات الثقافية والفكرية وربطها بدهاليز بيئتها وزمنها وحياة أصحابها، أدى بصاحب الزاوية إلى اكتشاف ألوف الثغرات أنصاف الحقائق والأكاذيب… وخاصة فيما يخص عالمنا المحلي، هذا العالم الذي أقل ما يمكن أن يلاحظ في أحداثه أن الإيديولوجيا والأفكار المسبقة غمرته وشوهته وجعلته أبعد ما يكون من الحقيقة. طبعاً من الصعب هنا إيراد أمثلة مقنعة، ومن يريد أن يتيقن عليه مراجعة مئات المقالات والملاحظات التي تناوبت على “ذاكرة القرن العشرين” طيلة ثمانية أعوام.
المهم هنا أن هذا الأمر، وهذا “الاكتشاف” الذي رافقه، والذي بدأ كعمل مهني صحفي صرف، سرعان ما استعاد شكله الأولي كهاجس، وكهاجس شخصي: وجد الكاتب نفسه في دوامة. وجد نفسه يعيد النظر في أمور كثيرة، صنعت جزءاً أساساً من تاريخه، وكانت، غالباً، أشبه بالمسلمات بالنسبة إليه. حول أية تقنية، حول أية فكرة؟ حول أي حدث؟ لا تهم الإجابة هنا كثيراً.
لربما يكفي القول: حول كل ما شكَّل التاريخ الشخصي العام لكاتب الزاوية. وهكذا حدث للزاوية أن تحولت، وإن في ذهن صاحبها على الأقل، ولكن أيضاًً في ذهن قراء أوفياء كثر تابعوها يوماً بعد يوم وشهراً بعد شهر وعاماً بعد عام..، تحولت إلى سيرة ذاتية.
ولعلها، بهذا تكون أغرب سيرة ذاتية في تاريخ الكتابة وأكثر السير الذاتية غروراً أيضاً، أليس كذلك؟ ولكن هل حقاً يهم هذا البعد الأخير.. هل يهم هذا الحكم الأخلاقي على الأمر؟
أبداً.. ذلك أن كاتب الزاوية، إذ نظر إلى ذاكرة القرن العشرين، كسيرة ذاتية له، وجد نفسه وفي سرعة شديدة، يخرج من ذاتيته ليصبح صورة لجيل بأكمله أو أكثر من جيل. جيل طحنته الأكاذيب والأحداث التي فرضت عليه والأفكار التي لُقِّمها.. جيل عاش القرن العشرين أو أجزاء منه وقد خيّل إليه أنه يعرف الحقيقة، فإذا بالسؤال يقفز أمام عينيه فجأة: ولكن أين هي الحقيقة؟
وظهرت أسطورة الفيل والعميان الذين التقوه فلمسوه فإذا بكل واحد منهم يخمنه شيئاً مرتبطاً بذاكرته لا بحقيقته. فكان أن تحولت الثلاثة آلاف مقال التي تشكل متن “ذاكرة القرن العشرين” إلى ما يشبه لعبة الكلمات المتقاطعة… وصارت أدواته تدور في ذهن صاحبها … وتسبب له الدوار اليومي.
وهذا الدوار لم يتوقف إلا حين توقف القرن العشرون، ليبدأ ما يليه. وأحس الكاتب أن “واجبه” تجاه مسيرته الذاتية، الغريبة تلك قد انتهى – فتوقفت الزاوية لتتلوها في المكان نفسه من الصحيفة نفسها زاوية أخرى، يومية بدورها، لكنها أقل إثارة للدوار وأكثر فائدة على الأقل.
أما، ذاكرة القرن العشرين، فصارت أكداساً من أوراق تحمل ملايين الكلمات، تروي حكاية الزمن الأكذب في تاريخنا. تروي ضرورة إدراكنا كذب هذا الزمن.. لأن آثار الكذب وتأثيراته لا يمكن أن تُمحى إلا منذ اللحظة التي نعي فيها أن ما عشناه وشاهدناه وعرفناه، لم يكن ما اعتقدناه أبداً.
سيرتنا الذاتية، الفردية أو الجماعية، أو لعلها الفردية والجماعية في الوقت نفسه، لم تكن أبدا كما خُيّل لنا. ولكن هل تراها كانت، حقا، كما يمكننا أن نستنتج من خلال تحويلها إلى تلك الذاكرة- الهاجس ؟