بيئة وعلوم

لماذا بدأ الشمال.. يهتم بصراخ الجنوب
البيئة في الأنساق الفكرية والأنظمة السلوكية

  • 36
  • 37
  • 39

الاهتمام بالبيئة كرة ثلج تتدحرج منذ ربع قرن. وعلى الرغم من أن كوكبنا أشبه بالمركب الواحد الذي إذا غرق سيغوص بكل ما يحمل من ركاب، سواء أكانوا من الدرجة الأولى أم الثانية، فإن كرة الثلج هذه تتضخم بنسب متفاوتة ما بين مكان وآخر في العالم.

مراسلنا في باريس ماجد نعمة ينقل لنا في هذا الموضوع صورة عن الاهتمام بالبيئة في أوروبا وتجذر هذا الاهتمام في نسيجي الحياة اليومية والفكرية على حد سواء.

كان يكفي أن ترتفع حرارة الطقس إلى
ما فوق الثلاثين درجة مئوية في بريطانيا، ليطغى موضوع المناخ وتغيراته على متابعة ملف «أسلحة الدمار الشامل العراقية» وطريقة الحكومة في التعامل معها.

وخلال الخريف الماضي، وفي إسبانيا والبرتغال بالتحديد، أشاح الناس بوجوههم عن شاشات التلفزيون التي كانت تنقل إليهم أخبار أزمة العراق ليتطلعوا بقلق إلى غرق ناقلة النفط «لوبرستيج».

وفي فرنسا، فإن أشهر سجين سياسي شغل الرأي العام خلال هذا الصيف كان جوزيه بوفيه، رئيس الفدرالية الفلاحية والمشاغب الأول، الذي اشتهر بغاراته على مطاعم الهامبرغر الأميركية والمختبرات التي تقوم بتنفيذ تجارب لزراعة نباتات معدلة وراثياً.

إن المشكلات السياسية، على أهميتها، لم تعد الشغل الشاغل للرأي العام الأوروبي، فمع تراجع الأيديولوجيات المبشرة بغدٍ مشرقٍ يصبح فيه التاريخ أفضل مما كان، بدأ الأوروبيون يتبنون أشكالاً مختلفة من الأنساق الفكرية والأنظمة السلوكية يقودها الخوف من نهاية كل تاريخ، وعنوانها العريض: «الحفاظ على البيئة حفاظاً على الحياة».
الماء الصالح للشرب، ثقب الأوزون، الموارد الطبيعية، النباتات المعدلة وراثياً، المخلفات الصناعية.. غيض من فيض التساؤلات والمواضيع التي يطرحها يومياً الملايين من الأوروبيين. يقرأون كل ما يكتب عنها، يطرحونها في أحاديثهم اليومية في المنازل والمقاهي، يحاولون جمع المعلومات وتشكيل رأي عام حيالها ومن ثم التعرف ضمن نتائج ومعطيات هذا الرأي العام.

ولعل تسارع وتيرة العولمة وما أدى إليه من تعميق للشعور بالانتماء إلى كوكب واحد أو مركب واحد؛ هو ما دفع المجتمعات المتقدمة إلى دق ناقوس الخطر والضغط على حكوماتها من أجل اتخاذ الإجراءات العاجلة لدرء الأخطار التي تحدق بالبيئة وبالناس من مائها. من هنا يمكن فهم المتابعة الشعبية غير الاعتيادية والتي لم تفتر بمرور الوقت، لأعمال مؤتمري ريو (البرازيل) وكيوتو (اليابان) حول التنمية المستديمة والمناخ والبيئة. ولا يتردد الكثير من المراقبين في أوروبا في القول أن العزلة الكبيرة التي وجدت الولايات المتحدة نفسها فيها لدى الرأي العام الأوروبي قبل الحرب على العراق وخلالها وبعدها، تعود في جزء كبير من أسبابها، إلى سبب بيئي يكمن في أن إدارة الرئيس جورج بوش تراجعت عن الالتزامات التي كانت إدارة كلينتون قد وافقت عليها في كيوتو حول ضرورة الحد من تلويث الهواء بالغازات الصناعية.

ثقافة جديدة
هذا الخوف من المصير الأسود الذي ينتظر كوكبنا الأزرق إذا لم تتخذ الإجراءات (الإنقاذية) العاجلة يظهر ليس فقط من خلال مئات الكتب والتقارير التي تصدر سنوياً، بل أيضاً من خلال التغيير النوعي اليومي لملايين الأوروبيين إزاء البيئة وكيفية الحفاظ عليها، ومن خلال بروز تيار سياسي متعاظم تحت شعار «الدفاع عن البيئة والدعوة إلى التنمية المستديمة»، أي إلى تنمية أخرى أكثر إنسانية وعدالة وأقل تلويثاً وهدراً. والتحول في الذهنيات والسلوكيات الأوروبية ليس، مجرد موجة عابرة بل هو مؤشر لتغيير نوعي في علاقة المواطن بمحيطه الطبيعي أولاً والثقافي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي ثانياً. إننا بصدد ولادة ثقافة جديدة، لا بل أيديولوجية عالمية عابرة لكل التيارات والمدارس السياسية والفكرية والاقتصادية، سواء أكانت محافظة أم مجددة، يمينية أو يسارية. والدليل أن الدفاع عن البيئة لم يعد حكراً على الخضر وحدهم بل أصبحت جميع الحكومات والأحزاب تتبارى في وضع الدفاع عن البيئة والتنمية المستديمة والعولمة ذات الوجه الإنساني في صدر برامجها السياسية.

ولكن الأهم من كل هذه الهرولة السياسية لقطف ثمار الوعي البيئوي الجارف واستغلاله هو الممارسة اليومية التي أصبحت في الواقع المعيار الأساس للحكم على مدى صدقية هذه الحكومة أو تلك ومدى جديتها في تطبيق وعودها الانتخابية في هذا المجال.

والمتتبع اليوم لملف البيئة في أوروبا لا بد من أن يصاب بالذهول من مركزيته في النقاش السياسي وفي الممارسة اليومية. فهو يبدأ بأبسط التفاصيل اليومية وينتهي بأعقد المفاهيم الفلسفية والاقتصادية والاجتماعية. ويكفي أن نلقي نظرة سريعة على سلم الأولويات اليومية التي تعبر عنها وسائل الإعلام في الدول الأوروبية مجتمعة لندرك كم أن الاهتمامات والهموم المتعلقة بالبيئة تتصدرها في كل الظروف.

تراجع النزعة الاستهلاكية
إضافة إلى ذلك، بدأت النزعة الاستهلاكية في معظم الدول الأوروبية تتراجع مقابل تقدم الوعي بضرورة تحسين نوعية السلع المستهلكة والحفاظ على البيئة التي نعيش فيها ونتنفس ونشرب. والأمثلة على هذا الاتجاه واضحة منها: تحويل أحياء كاملة في المدن إلى مناطق محظورة على السيارات، إعادة الاعتبار للدراجات الهوائية، منع التدخين في العديد من الأماكن العامة، تطوير المواصلات العامة، منع السيارات الخاصة من السير عندما تبلغ مستويات التلوث حداً معيناً، تشجيع المخازن الكبرى على استعمال مواد تغليف وتعليب قابلة لإعادة الاستعمال أو لا تضر بالبيئة والتربة مثل أكياس البلاستيك، إلزام المستهلكين بفرز النفايات ورميها في أكياس معدة سلفاً لكل صنف منها. فالبطاريات وعلب الحبر والمواد المعدنية في كيس، والأوراق في كيس آخر والمواد الزجاجية في كيس ثالث.. وحتى أكياس النفايات نفسها أصبحت هي الأخرى تصنع من مواد صديقة للطبيعة والبيئة والصحة العامة.

وأيضاً هناك إعادة نظر في كثير من العادات الاستهلاكية التي فرضها منطق السوق كمسلمات وكحاجات أساسية في حين أن التجربة أثبتت أنها من الكماليات التي يمكن الاستغناء عنها من دون أن يتأثر مستوى المعيشة بذلك سلباً. إذ ما معنى إنتاج سيارات تفوق سرعتها (وبالتالي استهلاكها) 300 كلم في الساعة في حين أن قانون السير في معظم الدول بات يحدد السرعة على الطرق بأقل من 120 كلم كحد أقصى؟ أو ما معنى تسويق أجهزة استماع موسيقية تتجاوز طاقتها الـ 120 واط رغم أن معظم البيوت والشقق لا تسمح بتجاوز نسبة معينة من القوة الصوتية من دون أن يقع ذلك تحت طائلة القانون بتهمة إحداث ضجيج زائد وإزعاج الجوار والمساهمة في إفراز ما أصبح يسمى حالياً بالتلوث الصوتي؟

شمالهم يهتم بجنوبنا
قد يقول قائل إن هذا لا يعبر إلا عن هموم الأغنياء والمتخمين، لكن الواقع يشير إلى أن الفقراء سيكونون أول المتضررين لو تركوا أنفسهم يُستدرجون إلى هذا الفخ، معتبرين أن الدفاع عن البيئة هو مجرد ترف فكري لا ضرورة حياتية له. صحيح أن الدول الغنية تستطيع أن تواجه بفعالية الكوارث الطبيعية والصناعية الكبرى بأقل قدر من الضحايا نظراً لجاهزيتها لمجابهة مثل هذه الحالات الطارئة، في حين أن الدول الفقيرة تفتقد لمثل هذه الجاهزية وهذا ما يفسر التكلفة المادية الهائلة وعدد الضحايا البشرية الكبير عندما تتعرض لكوارث من هذا النوع. ضحايا يعدون على أصابع اليد في فيضانات الولايات المتحدة أو فرنسا مقابل المئات أو الآلاف من الضحايا في بنغلادش مثلاً..

وقد يقول قائل إن الغرب الغني يستطيع أن يتحمل كلفة الاهتمام بالبيئة لأن الأساسيات المعيشية باتت مؤمنة لمجتمعاته ولشعوبه، إضافة إلى أن أنانيته التي تمنعه من الاهتمام بمشكلات الآخرين إلا بقدر ما تؤثر هذه المشكلات عليه. والواقع أن حرص الغربيين على حماية بيئة الجنوب نابع بالضبط من أنانيته. وهناك نادرة يتعلمها الكثيرون من أهل الجنوب حين يكتشفون أسلوب الحياة الغربية، فعندما يصرخ أحد مستنجداً بالجيران داعياً لمساعدته على صد مجرم أو سارق فنادراً ما يلقى نداؤه تجاوباً من أحد وأقصى ما يمكن أن يأمله هو أن يبادر أحد الجيران بالاتصال بالشرطة. ولكن الحال تتغير جذرياً عندما يصرخ طالباً النجدة لأن حريقاً شبّ في شقته إذ سيفاجأ بأن الجيران القريبين والبعيدين سيهبون لإطفاء النار خوفاً من امتدادها إلى بيوتهم. والدول الغربية التي تهرول اليوم لنجدة الجنوب ومساعدته في حماية البيئة إنما تتصرف أولاً وأخيراً من منطلق أناني بحت لأن النار تقترب منها وتهددها ولأن العولمة لم تعولم الأسواق فقط بل المشكلات والآفات والأمراض والمياه والمناخ.. وفي رأي العالم الكندي الشهير هوبيرت ريفز فإن الأرض ليست على ما يرام، فالحياة على سطحها وفي باطنها وسمائها باتت مهددة. الصحراء تزحف باستمرار ولا من يوقفها. المياه مهددة بالندرة. التنوع النباتي والحيواني قد ينقرض. الهواء يتلوث والمناخ يسوء والمواد الأولية تشح وتنضب والفقر والأمراض، قديمها مثل جديدها، تتفشى… ولكن هذا لا يعني أن المعركة من أجل إنقاذ البيئة خاسرة سلفاً. فالإنسان يمتلك من الإرادة ومن غريزة البقاء ما سيمكنه من الانتصار في هذه الحرب الجديدة من أجل البيئة وبقاء الجنس البشري وهي الحرب الوحيدة التي تستحق فعلاً أن تخاض.

———-

اقرأ للبيئة

الربيع الصامت
أعادت شركة بوسطن هوغتون Boston Houghton Company في العام 2002م إصدار كتاب”الربيع الصامت” Silent Spring لمؤلفته عالمة الأحياء الأميركية، راشيل كارسون لمناسبة ذكرى وفاتها الأربعين.

وكانت كارسون حذرت في هذا الكتاب الذي صدر عام 1962م شعبها وحكومة بلادها من الدمار الذي ستتعرض له الحياة البرية بسبب الاستخدام الجائر للمبيدات، فاعتبرت أم الحركات الداعية إلى حماية البيئة.

وقد وضعت كارسون كتابها بناء على وصية صديق لها فقد طيوره إثر حملة حكومية لإبادة البعوض عن طريق رش مادة “دي دي تي” (DDT). وعمدت إلى حشد أدلة لا يمكن دحضها لإثبات أن الإنسان يقوم بتسميم الأرض والماء بالمواد الكيميائية السامة، وفشلت كل محاولات الصناعيين لنقدها والسخرية من آرائها.فتم سنّ القوانين التي تحمي الهواء والماء من التلوث وكتب أحد النقاد عن كارسون قائلاً: “بضع آلاف من كلماتها جعلت العالم يتجه اتجاهاً جديداً”.

ولدت كارسون في أيار (مايو) 1907م في بنسلفانيا وتخرّجت من جامعتها في اختصاص عالم البحار وتابعت دراستها لنيل الماجستير في علم الحيوان من جامعة جون هوبكنز عام 1932م. ومن مؤلفاتها “Under the sea-wind” الذي صدر عام 1941م، وكتاب “The Sea around us” الذي صدر عام 1951م وفـي العام 1965م أي بعد مرور عام على وفاتها نشر لها كتاب “The Science of Wonder ” وهو عبارة عن مقال بعنوان “ساعد طفلك على التساؤل”.

كارسون التي توفيت إثر صراع مع مرض سرطان الثدي جاهدت من خلال كتابها “الربيع الصامت” من أجل إيصال صرخة إلى العالم لوقف استخدام المواد الكيميائية الخطرة التي تصيب مصادر طعام الإنسان وحذرت من أن أضرارها تفوق تلك الناتجة عن الإشعاعات.

أضف تعليق

التعليقات